إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الآفة السادسة التقعر في الكلام .

بالتشدق وتكلف السجع والفصاحة والتصنع فيه بالتشبيبات والمقدمات وما جرى به عادة المتفاصحين المدعين للخطابة وكل ذلك من التصنع المذموم ومن التكلف الممقوت الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنا وأتقياء أمتي برآء من التكلف وقال صلى الله عليه وسلم : إن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا الثرثارون المتفيهقون المتشدقون في الكلام وقالت فاطمة رضي الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم ، يأكلون ألوان الطعام ، ويلبسون ألوان الثياب ويتشدقون في الكلام .

" وقال صلى الله عليه وسلم : " ألا هلك المتنطعون "، ثلاث مرات والتنطع هو التعمق والاستقصاء وقال عمر رضي الله عنه: إن شقاشق الكلام من شقاشق الشيطان وجاء عمرو بن سعد بن أبي وقاص إلى أبيه سعد يسأله حاجة، فتكلم بين يدي حاجته بكلام، فقال له سعد : ما كنت من حاجتك بأبعد منها اليوم، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يأتي على الناس زمان يتخللون الكلام بألسنتهم كما تتخلل البقرة الكلأ بألسنتها وكأنه أنكر عليه ما قدمه على الكلام من التشبب ، والمقدمة المصنوعة المتكلفة ، وهذا أيضا من آفات اللسان ، ويدخل فيه كل سجع متكلف ، وكذلك التفاصح الخارج عن حد العادة وكذلك التكلف بالسجع في المحاورات إذ قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة في الجنين ، فقال بعض قوم الجاني : كيف ندي من لا شرب ولا أكل ، ولا صاح ولا استهل .

ومثل ذلك بطل فقال أسجعا كسجع الأعراب ؟! وأنكر ذلك لأن أثر التكلف والتصنع بين عليه بل ينبغي أن يقتصر في كل شيء على مقصوده ومقصود الكلام التفهيم للغرض وما وراء ذلك تصنع مذموم ، ولا يدخل في هذه تحسين ألفاظ الخطابة والتذكير من غير إفراط وإغراب فإن المقصود منها تحريك القلوب وتشويقها وقبضها وبسطها فلرشاقة اللفظ تأثير فيه ؛ فهو لائق به فأما المحاورات التي تجري لقضاء الحاجات فلا يليق بها السجع والتشدق والاشتغال به من التكلف المذموم ، ولا باعث عليه إلا الرياء ، وإظهار الفصاحة والتميز بالبراعة وكل ذلك مذموم يكرهه الشرع ، ويزجر عنه .


(الآفة السادسة) ( التقعر في الكلام بالتشدق وتكلف السجع والفصاحة والتصنع فيه بالتشبيبات) وهو ما يشبب به الشاعر في قصيدته من غزل وتعريض بالحب، وتحسين لها، وتزيينها بذكر النساء، (والمقدمات) مما يقدم بين يدي الدخول في الغرض من ذكر الأطلال والديار، وما سلف له في أيام الصبا والشبوبية، (وما جرت به عادة المتفاصحين المدعين للخطابة) والشعر، (وكل ذلك من التصنع المذموم) في الشرع، (ومن التكلف الممقوت) أي: المبغوض (الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: أنا وأتقياء أمتي برآء من التكلف ) ، أغفله العراقي ، وقال النووي : ليس بثابت. اهـ. وأخرجه الدارقطني في الأفراد، من حديث الزبير بن العوام مرفوعا: إلا أني بريء من التكلف، وصالحو أمتي . وسنده ضعيف، ويشهد لذلك ما رواه البخاري عن أنس عن عمر رضي الله عنهما: نهينا عن [ ص: 477 ] التكلف .

وروى أحمد والطبراني في معجميه الكبير والأوسط، وأبو نعيم في الحلية عن سلمان رضي الله عنه أنه قال لمن استضافه: لولا أنا نهينا عن التكلف لتكلفت لكم .

(وقال صلى الله عليه وسلم: إن أبغضكم إلى الله وأبعدكم مني مجلسا الثرثارون المتفيهقون المتشدقون في الكلام ) ، قال العراقي : رواه أحمد من حديث أبي ثعلبة ، وهو عند الترمذي من حديث جابر ، وحسنه بلفظ: إن أبغضكم إلى.. اهـ .

قلت: وروى الديلمي من حديث أبي هريرة : "شرار أمتي الثرثارون المتشدقون المتفيهقون، وخيار أمتي أحاسنهم أخلاقا" . (وقالت فاطمة رضي الله عنها) وهي ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم، الذين يأكلون ألوان الطعام، ويلبسون ألوان الثياب ويتشدقون في الكلام" ) ، رواه ابن عدي والبيهقي وابن عساكر من طريق عبد الله بن الحسين عن أمه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال العراقي : وفيه انقطاع. قلت: رواه ابن أبي الدنيا ، عن إسماعيل بن إبراهيم الترجماني ، حدثنا علي بن ثابت عن عبد الحميد بن جعفر الأنصاري عن عبد الله بن حسن عن أمه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم رفعته، فذكره، وهذا السند لا انقطاع فيه، وقد تقدم الكلام عليه قريبا .

(وقال صلى الله عليه وسلم: "ألا هلك المتنطعون"، ثلاث مرات ) ، رواه مسلم من حديث ابن مسعود ، وقد تقدم في كتاب العلم، وأخرجه ابن أبي الدنيا عن أبي خيثمة ، والقواريري ، قالا: حدثنا يحيى القطان ، عن ابن جريج أخبرني سليمان بن عتيق ، عن طلق بن حبيب عن الأحنف بن قيس ، عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم.. فذكره، ( والتنطع هو التعمق والاستقصاء ) ، وهو "تفعل" من النطع، وهو ما ظهر من غار الفم الأعلى، ( وقال عمر رضي الله عنه: إن شقاشق الكلام من شقاشق الشيطان ) ، وشقاشق اللسان مستعار من شقاشق البعير، (وجاء عمر بن سعد بن أبي وقاص ) تقدم له ذكر، (إلى أبيه سعد) بن أبي وقاص أحد العشرة المشهود لهم بالجنة (يسأله حاجة، فتكلم بين يدي حاجته بكلام، فقال له سعد : ما كنت من حاجتك بأبعد منها اليوم، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يأتي على الناس زمان يتخللون الكلام بألسنتهم كما تتخلل البقر الكلأ بألسنتها ) ، أي: يتشدق الكلام بلسانه، كما تتشدق البقر، ووجه الشبه إدارة لسانه حول أسنانه وفمه، حال التكلم، كما تفعل البقرة بلسانها حال الأكل، وخص البقرة من بين البهائم; لأن سائرها تأخذ النبات بأسنانها، والبقرة لا تحتش إلا بلسانها، قال العراقي : رواه أحمد ، وفيه من لم يسم، ومختصرا بإسناده مسلم من حديث المغيرة بن شعبة ، وأبي هريرة ، وأصلهما عند البخاري أيضا. اهـ. قلت: أخرجه ابن أبي الدنيا عن ابن أبي شيبة ، حدثنا حفص بن غياث عن إسماعيل بن أبي خالد عن مصعب بن سعد قال: جاء عمر بن سعد إلى أبيه، فسأله حاجة، فذكر الحديث كما عند المصنف، وأخرجه أيضا بهذا الإسناد في كتاب ذم الغيبة له، وأخرجه أحمد وأبو داود والترمذي من حديث ابن عمرو : إن الله تعالى يبغض البليغ من الرجال، الذي يتخلل بلسانه تخلل الباقرة بلسانها . وقال الترمذي : حسن غريب، (وكأنه أنكر عليه ما قدم على الكلام من التشبيب، والمقدمة المصنوعة المتكلفة، وهذا أيضا من آفات اللسان، ويدخل فيه كل سجع متكلف، وكذلك التفاصح الخارج عن حد العادة) مما فيه تغرب وتدقيق وتعمق، (وكذلك التكلف بالسجع في المحاورات ) والمخاطبات، (إذ قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة في الجنين، فقال بعض قوم الجاني: كيف ندي من لا شرب ولا أكل، ولا صاح ولا استهل، ومثل ذلك دمه يطل) أي: يهدر، (فقال) النبي صلى الله عليه وسلم: (أسجعا كسجع الأعراب؟!) رواه أبو داود ، وقد تقدم في كتاب العلم (وأنكر ذلك لأن أثر التكلف والتصنع بين عليه) ظاهر لديه، (بل ينبغي أن يقتصر في كل شيء على مقصوده) الذي هو بصدده، (ومقصود الكلام) إنما هو (التفهم للغرض) فقط، (وما وراء ذلك تصنع مذموم، ولا يدخل في هذا تحسين ألفاظ الخطابة [ ص: 478 ] والتذكير) ، مما يوردها في وعظه للعامة والخاصة، ولكن (من غير إفراط وإغراب) وتعمق؛ (فإن المقصود منها تحريك القلوب) ، وجذبها (وتشويقها وقبضها) عن ميل الهوى، (وبسطها) في مجال الرضا، (فلرشاقة اللفظ) وقع عجيب، و (تأثير) غريب، (فيه؛ فهو لائق به) ومستثنى مما ذكر، (فأما المحاورات التي تجري) بين الناس (لقضاء الحاجات) وتيسير الأمور، (فلا يليق بها السجع) المتكلف، (والتشدق والاشتغال به من التكلف المذموم، ولا باعث عليه إلا الرياء، وإظهار الفصاحة والتميز بالبراعة) على الإخوان، (وكل ذلك يكرهه الشرع، ويزجر عنه) ، وفي كلام السلف تنبيه عليه لمن تأمل .

التالي السابق


الخدمات العلمية