إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فأما حده وحقيقته فهو التعبير عن الأمور المستقبحة بالعبارات الصريحة وأكثر ذلك يجري في ألفاظ الوقاع ، وما يتعلق به ؛ فإن لأهل الفساد عبارات صريحة فاحشة يستعملونها فيه ، وأهل الصلاح يتحاشون عنها بل يكنون عنها ويدلون عليها بالرموز فيذكرون ما يقربها ويتعلق بها وقال ابن عباس إن الله حي كريم يعفو ويكنو ، كنى باللمس عن الجماع فالمسيس واللمس والدخول والصحبة كنايات عن الوقاع وليست بفاحشة وهناك ، عبارات فاحشة يستقبح ذكرها ويستعمل أكثرها في الشتم والتعيير وهذه العبارات متفاوتة في الفحش ، وبعضها أفحش من بعض ، وربما اختلف ذلك بعادة البلاد وأوائلها مكروهة ، وأواخرها محظورة وبينهما درجات يتردد فيها وليس يختص هذا بالوقاع ، بل بالكناية بقضاء الحاجة عن البول والغائط أولى من لفظ التغوط والخراء وغيرهما فإن هذا أيضا ما يخفى وكل ما يخفى يستحيا منه ، فلا ينبغي أن يذكر ألفاظه الصريحة ؛ فإنه فحش وكذلك يستحسن في العادة الكناية عن النساء ، فلا يقال : قالت زوجتك كذا ، بل يقال : قيل في الحجرة أو من وراء الستر أو قالت أم الأولاد فالتلطف في هذه الألفاظ محمود والتصريح فيها يفضي إلى الفحش وكذلك من به عيوب يستحيا منها فلا ينبغي أن يعبر عنها بصريح لفظها ، كالبرص والقرع والبواسير بل يقال : العارض الذي يشكوه ، وما يجري مجراه ، فالتصريح بذلك داخل في الفحش وجميع ذلك من آفات اللسان .

قال العلاء بن هارون وكان : عمر بن عبد العزيز يتحفظ في منطقه ، فخرج تحت إبطه خراج فأتيناه نسأله لنرى ما يقول ، فقلنا : من أين خرج ؟ فقال : من باطن اليد .


(فأما حده وحقيقته فهو التعبير عن الأمور المستقبحة) شرعا وعقلا وطبعا، بحيث يكرهه الطبع كما ينكره العقل، ويستخبثه الشرع (بالعبارات الصريحة) الظاهرة التي لا تحتمل التأويل، (وأكثر ذلك يجري في ألفاظ الوقاع، وما يتعلق به؛ فإن لأهل الفساد) والرعونة من الفساق (عبارات صريحة فاحشة يستعملونها فيه، وأهل الصلاح يتحاشون عنها) وينزهون عنها ألسنتهم، وفي نسخة: يتحاشون عن التعرض لها، (بل يكنون عنها ويدلون عليها) عند ضرورة التكلم بها (بالرموز) والكنايات، (فيذكرون ما يقاربها ويتعلق بها، قال ابن عباس ) رضي الله عنهما: ( إن الله عز وجل حيي كريم يعف ويكني ، كنى باللمس عن الجماع) ، قال: أو لامستم النساء ، قال أبو حنيفة وغيره من الكوفيين : إن اللمس والملامسة من ألفاظ الكنايات، (فالمسيس واللمس والدخول والصحبة كنايات عن الوقاع) يقال: مس امرأته ولمسها ودخل بها وصحبها، إنما يكنون بذلك عن الوقاع والجماع، وفي قوله تعالى: أو لامستم النساء ، هل المراد به لمس بدنها، أو كناية عن الوقاع، خلاف بين الشافعي وأبي حنيفة ، تقدم في كتاب أسرار الطهارة، (وليست بفاحشة، وهنا عبارات فاحشة يستقبح ذكرها) ، وأفحشها وأصرحها النيك، (ويستعمل أكثرها في الشتم والتعيير) أي: التعييب، (وهذه العبارات متفاوتة في الفحش، وبعضها أفحش من بعض، وربما اختلف ذلك بعادة البلاد) ، فرب لفظ يعاب به في بلد عند محاوراتهم، وعند آخرين مستعمل لا يستقبح، (وأوائلها مكروهة، وأواخرها محظورة) محرمة، (وبينهما درجات يتردد فيها) ، ومن طالع في كتب اللغة ظفر من ذلك شيئا كثيرا، (وليس يختص هذا بالوقاع، بل الكناية بقضاء الحاجة عن البول والغائط) ، أو بإراقة الماء عن البول فقط، أو عنهما معا، (أولى من لفظ التغوط والخراءة) مع أن التغوط أيضا من الكنايات; لأنه يقال: تغوط، إذا أتى الغائط، وهي الأرض المطمئنة، ولكن لكثرة استعماله فيه صار كالصريح، وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز: أو جاء أحد منكم من الغائط ، وأما الخراءة كـ"كتابة" اسم لهيئة الفعل، فهو من الصريح، وقد جاء في سنن أبي داود من حديث سلمان "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلمنا كل شيء حتى الخراءة" ، الحديث، فخرج مخرج التبكيت للمنافقين الذين كانوا ينكرون مثل ذلك، (وغيرهما) كأسماء السوأتين، (فإن هذا أيضا مما يخفى ويستحيا منه، فلا ينبغي أن يذكر ألفاظه الصريحة؛ فإنه فحش) ، فليحذر منه، (وكذلك يستحسن في العادة) الجارية في المحاورات ( الكناية عن النساء ، فلا يقال: قالت زوجتك) أو امرأتك (كذا، بل يقال: قيل في الحجرة) أو في الدار، أو في البيت، (أو من وراء الستر) ، أو من وراء الحجاب، أو الجهة، (أو قالت أم الأولاد) أو صاحبة البيت، أو صاحبة الحجرة، إلا أنه قد يقال: إن لفظ الزوجة من كنايات القرآن، قال تعالى: اسكن أنت وزوجك الجنة ، (والتلطف في هذه الألفاظ) مهما أمكن (محمود) شرعا، (والتصريح فيها يفضي إلى الفحش) المذموم، (وكذلك من به عيوب يستحي منها) بين أقرانه، (فلا ينبغي أن يعبر عنها بصريح لفظها، كالبرص) ، وهو -محرك- بياض يلمع في البدن، (والقرع) وهو انحسار الرأس عن الشعر؛ لمرض، (والبواسير) وهو مرض معروف، وله أنواع، وكذلك العمش، والسلاق، والعمى والعرج مما هو ظاهر بالبدن، إلا أنه يستحى أن يذكر بذلك صريحا، (بل يقال: [ ص: 482 ] العارض الذي يشكوه، وما يجرى مجراه، فالتصريح بذلك داخل في الفحش) ، ومما يتأذى به أخوه المسلم، وهو حرام، إلا أن يكون ذلك العارض مشتهرا به، بحيث لا يستحى من ذكره، فلا بأس، كالأعمش ، وهو سليمان بن مهران الكوفي ، فإنهم كانوا يقولون: حدثنا الأعمش ، في حياته، ويسمع ذلك ولا يتغير على من يقوله، وكذا قولهم: حدثنا الأعرج ، عن أبي هريرة ، فهذا وأمثاله لا يدخل في الفحش، (وجميع ذلك من آفات اللسان) ، والخوض فيه مذموم .

(قال العلاء بن هارون : كان عمر بن عبد العزيز ) رحمه الله تعالى (يتحفظ في منطقه، فخرج تحت إبطه خراج) بالضم، أي: قرحة شبه الدمل، (فأتيناه نسأله لنرى ما يقول، فقلنا:) ما هذا الذي تشكو؟ فقال: خراج. فقلنا: (من أين خرج؟ فقال: من باطن اليد) أخرجه أبو بكر بن أبي الدنيا ، فقال: حدثني إبراهيم بن سعيد ، حدثني موسى بن أيوب ، حدثنا ضمرة عن العلاء بن هارون قال: كان عمر بن عبد العزيز يتحفظ في منطقه، لا يكلم بشيء من الخنا، فخرج به خراج في إبطه، فقالوا: أي شيء عسى أن يقول الآن؟ قالوا: يا أبا حفص ، أين خرج منك هذا الخراج؟ قال: في باطن يدي . قال: وحدثني علي بن أبي مريم عن مطرف بن مصعب ، حدثنا عبد العزيز الماجشون عن أبي عبيدة قال: ما رأيت رجلا أشد تحفظا في منطقه من عمر بن عبد العزيز ، وحدثني محمد بن عباد بن موسى العكلي ، حدثنا يحيى بن سليم عن أمية بن عبد الله بن عمرو بن عثمان قال: كنا عند عمر بن عبد العزيز فقال رجل لرجل: تحت إبطك. فقال عمر : وما على أحدكم أن يتكلم بأجمل ما يقدر عليه؟ قالوا: وما ذاك؟ قال: لو قال تحت يدك كان أجمل" .

التالي السابق


الخدمات العلمية