إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وكذلك من بان لنا موته على الكفر ، جاز لعنه ، وجاز ذمه إن لم يكن فيه أذى على مسلم ، فإن كان ، لم يجز .

كما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل أبا بكر رضي الله عنه عن قبر مر به ، وهو يريد الطائف ، فقال هذا قبر رجل كان عاتيا على الله ورسوله ، وهو سعيد بن العاص فغضب ابنه عمرو بن سعيد وقال : يا رسول الله ، هذا قبر رجل كان أطعم للطعام ، وأضرب للهام من أبي قحافة فقال أبو بكر : يكلمني هذا يا رسول الله بمثل هذا الكلام ؟ فقال صلى الله عليه وسلم اكفف عن أبي بكر . فانصرف ثم أقبل على أبي بكر فقال : يا أبا بكر إذا ذكرتم الكفار فعمموا فإنكم إذا خصصتم غضب الأبناء للآباء ، فكف الناس عن ذلك، وشرب نعيمان الخمر ، فحد مرات في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال بعض الصحابة لعنه الله ، ما أكثر ما يؤتى به ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تكن عونا للشيطان على أخيك .

وفي رواية : لا تقل هذا ، فإنه يحب الله ورسوله . فنهاه عن ذلك وهذا يدل على أن لعن فاسق بعينه غير جائز .

وعلى الجملة ففي لعن الأشخاص خطر فليجتنب ؛ ولا خطر في السكوت عن لعن إبليس مثلا فضلا عن غيره .


(وكذلك من بان) أي: ظهر (لنا موته على الكفر، جاز لعنه، وجاز ذمه إن لم يكن فيه أذى على مسلم ، فإن كان، لم يجز، كما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل أبا بكر رضي الله عنه عن قبر مر به، وهو يريد الطائف ، فقال) أبو بكر : (هذا قبر رجل كان عاتيا) أي: متمردا (على الله ورسوله، وهو سعيد بن العاص) بن أمية بن عبد شمس بن [عبد] مناف، (فغضب ابنه عمرو بن سعيد ) وهو ابن عمة خالد بن الوليد ، صحابي كبير من مهاجرة الحبشة ، قدم عليهم بخيبر هو وأخوه خالد ، قتل بأجنادين ، وقيل: باليرموك ، وابن أخيه سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص ، له رؤية، وحفيده عمرو بن سعيد بن العاص ، وهو الأصغر، ويعرف بالأشدق، (وقال: يا رسول الله، هذا قبر رجل كان أطعم للطعام، وأضرب للهام من أبي قحافة ) ، يعني والد أبي بكر ، (فقال أبو بكر : يكلمني هذا يا رسول الله بمثل هذا الكلام؟ فقال صلى الله عليه وسلم) لعمرو بن سعيد : (اكفف عن أبي بكر . فانصرف) عنه، (ثم أقبل) رسول الله صلى الله عليه وسلم (على أبي بكر فقال: يا أبا بكر إذا ذكرتم الكفار فعمموا) أي: اذكروهم بلفظ العموم، (فإنكم إذا خصصتم غضب الأبناء للآباء، فكف الناس عن ذلك) ، قال العراقي : رواه أبو داود في المراسيل من رواية علي بن ربيعة قال: "لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة توجه من فوره ذلك إلى الطائف ومعه أبو بكر ، ومعه ابنا سعيد بن العاص ، فقال أبو بكر : لمن هذا القبر؟ قالوا: قبر سعيد بن العاص . فقال أبو بكر : لعن الله صاحب هذا القبر؛ فإنه كان يحاد الله ورسوله" . الحديث، وفيه: "فإذا سببتم المشركين فسبوهم جميعا" .

(وشرب نعيمان) بن عمرو بن رفاعة النجاري من بني مالك بن النجار ، يقال: اسمه نعمان ، فصغر، صحابي بدري، كان يمزح كثيرا، رضي الله عنه، (الخمر، فحد مرات في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعض الصحابة) قال الحافظ في الفتح: اسمه عمير : (لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به! فقال صلى الله عليه وسلم: لا تكن عونا للشيطان على أخيك. وفي رواية: لا تقل هذا، فإنه يحب الله ورسوله. فنهاه عن ذلك) قال العراقي : رواه ابن عبد البر في الاستيعاب من طريق الزبير بن بكار من رواية محمد بن عمرو بن حزم مرسلا، ومحمد هذا ولد في حياته صلى الله عليه وسلم، وسماه محمدا ، وكناه أبا عبد الملك . اهـ .

قلت: رواه الزبير بن بكار في كتاب الفكاهة من طريق أبي طوالة ، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن أبيه قال: "كان بالمدينة رجل يقال له النعيمان ، يصيب من الشراب.." ، فذكره، ثم قال العراقي : وللبخاري من حديث عمر : "أن رجلا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله، كان يلقب حمارا ، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد جلده في الشراب، فأتي به يوما، فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنوه؛ فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله" . وله من حديث أبي هريرة في رجل شرب ولم يسم، وفيه: "لا تعينوا عليه الشيطان" ، وفي رواية: "لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم" . اهـ .

قلت: ورواه البخاري من طريق وهيب عن أيوب عن ابن أبي مليكة ، عن عقبة بن الحارث "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بالنعيمان أو ابن النعيمان " ، كذا بالشك، والراجح النعيمان، بلا شك، وفي لفظ لأحمد : "كنت فيمن ضربه" ، وقالا فيه: أتي بالنعيمان ، من غير شك، ورواه بالشك أيضا محمد بن سعد في الطبقات من طريق معمر عن يزيد بن أسلم مرسلا، وجزم ابن عبد البر أن صاحب القصة هو ابن النعيمان ، وما مر من حديث معمر عند البخاري ربما يشهد له، فإنه قال فيه: إن اسمه عبد الله، ويلقب حمارا ، وهذا يقوي قوله: فيكون وقع ذلك له ولابنه، ومن يشابه أبه فما ظلم، وحديث أبي هريرة رواه البخاري من طريق محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة عن أبي هريرة ، وحديث ابن عمر عند البخاري فيه قوله: لا تلعنوه . هكذا في سائر روايات البخاري ، وعند الكشميهني : "ألا لا تلعنوه" .

وروى أحمد وأبو داود من حديث أبي هريرة قال: "أتى رجل قد شرب الخمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اضربوه. فقال بعض القوم: أخزاه الله تعالى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا هكذا؛ [ ص: 488 ] لا تعينوا عليه الشيطان، ولكن قولوا: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه" .

وروى ابن سعد في الطبقات عن أيوب عن محمد مرسلا: "لا تقولوا للنعيمان إلا خيرا؛ فإنه يحب الله ورسوله" ، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إذا رأيتم أخاكم قد زل زلة فسددوه، ووفقوه، وادعوا له بالتوبة، ولا تكونوا أعوانا للشيطان عليه" ، ذكره صاحب الكشاف في سورة غافر، وفيه قصة، وقد تقدم ذكرها، (وهذا يدل على أن لعنة فاسق بعينه غير جائزة) ، كما أن الفسق لا يخرج الإنسان عن أخوة الإيمان، (ففي لعنة الأشخاص خطر؛ فليتجنب) عنها، (ولا خطر في السكوت عن لعنة إبليس مثلا فضلا عن غيره) ، وهو هو مع قول الله تعالى في حقه: وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين ، فضلا عن غيره، فالساكت عن لعنه لا يلزمه شيء، مع أن الاشتغال به اشتغال فيما لا فائدة فيه، فقد روى ابن أبي الدنيا عن داود بن عمرو ، حدثنا عباد بن العوام ، أخبرنا حصين ، سمعت مجاهدا يقول: "قلما ذكر الشيطان قوم إلا حضرهم، فإذا سمع أحدا يلعنه قال: لقد لعنت ملعنا، ولا شيء أقطع لظهره من لا إله إلا الله" .

التالي السابق


الخدمات العلمية