إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الآفة الحادية عشر السخرية والاستهزاء .

وهذا محرم مهما كان مؤذيا كما ، قال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ومعنى السخرية الاستهانة والتحقير ، والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول ، وقد يكون بالإشارة والإيماء وإذا كان بحضرة المستهزأ به لم يسم ذلك غيبة وفيه معنى الغيبة ، قالت عائشة رضي الله عنها حاكيت إنسانا ، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم والله : ما أحب أني حاكيت إنسانا ولي كذا وكذا وقال ابن عباس في قوله تعالى يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها إن الصغيرة التبسم بالاستهزاء بالمؤمن ، والكبيرة القهقهة بذلك وهذا إشارة إلى أن الضحك على الناس من جملة الذنوب والكبائر وعن عبد الله بن زمعة أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب ، فوعظهم في ضحكهم من الضرطة فقال : علام يضحك أحدكم مما يفعل وقال صلى الله عليه وسلم : إن المستهزئين بالناس يفتح لأحدهم باب من الجنة فيقال هلم هلم فيجيء بكربه وغمه فإذا أتاه أغلق دونه ثم يفتح له باب آخر ، فيقال : هلم هلم . فيجيء بكربه وغمه ، فإذا أتاه أغلق دونه ، فما يزال كذلك حتى إن الرجل ليفتح له الباب ، فيقال له : هلم هلم . فلا يأتيه وقال معاذ بن جبل قال النبي صلى الله عليه وسلم من عير أخاه بذنب قد تاب منه لم يمت حتى يعمله وكل هذا يرجع إلى استحقار الغير ، والضحك عليه ؛ استهانة به ، واستصغارا له وعليه نبه قوله تعالى : عسى أن يكونوا خيرا منهم ، أي : لا تستحقره استصغارا فلعله خير منك .

وهذا إنما يحرم في حق من يتأذى به فأما من جعل نفسه مسخرة وربما فرح من أن يسخر به كانت السخرية في حقه من جملة المزاح وقد سبق ما يذم منه ، وما يمدح ، وإنما المحرم استصغار يتأذى به المستهزأ به ؛ لما .

فيه من التحقير والتهاون ، وذلك تارة بأن يضحك على كلامه إذا تخبط فيه ، ولم ينتظم أو على أفعاله إذا كانت مشوشة كالضحك على خطه وعلى صنعته أو على صورته وخلقته إذا كان قصيرا أو ناقصا لعيب من العيوب فالضحك من جميع ذلك داخل في السخرية المنهي عنها .


(الآفة الحادية عشرة)

( السخرية والاستهزاء ، وهذا محرم مهما كان مؤذيا، قال الله تعالى) في الزجر عنه: ( لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ) ، تمامه: ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ، قال مجاهد : أي: لا يستهزئ قوم من قوم، إن يكن رجلا فقيرا أو غنيا، وإن تفضل رجل عليه فلا يستهزئ به . أخرجه عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وقال مقاتل : هذه الآية نزلت في قوم من بني تميم استهزؤوا من بلال وسلمان وعمار ، وخباب ، وصهيب وابن مغيرة ، وسالم مولى أبي حذيفة . أخرجه ابن أبي حاتم ، ( ومعنى السخرية : الاستحقار، والاستهانة، والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه) على الملإ، (وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول، وقد يكون بالإشارة والإيماء) ، وهو بجميع أنواعه حرام؛ لأنه إيذاء، (و) لكن (فيه معنى الغيبة، قالت عائشة ) رضي الله عنها: (حكيت إنسانا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أحب أني حكيت إنسانا وأن لي كذا وكذا ) ، قال العراقي : رواه أبو داود والترمذي ، وصححه، قلت: ورواه ابن أبي الدنيا عن علي بن الجعد ، أخبرنا سفيان بن سعيد عن علي بن الأقمر ، عن أبي حذيفة ، عن عائشة قالت.. فذكره، (وقال ابن عباس ) رضي الله عنه (في قوله) تعالى: ( يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، الصغيرة التبسم بالاستهزاء بالمؤمن، والكبيرة القهقهة بذلك ) أخرجه ابن أبي الدنيا عن محمد بن عمران بن أبي ليلى ، حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس .. فذكره، (وهو إشارة إلى أن الضحك على الناس من) جملة (الجرائم والذنوب) ، وفي بعض النسخ: من جملة الذنوب الكبائر، (وعند عبد الله بن زمعة) بن الأسود بن المطلب بن أسد القرشي الأسدي، ابن أخت أم سلمة، أحد الأشراف، كان يأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، استشهد يوم الدار مع عثمان ، روى له الجماعة، وعنه عروة وأبو بكر بن عبد الرحمن ( أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فوعظهم في ضحكهم من الضرطة، وقال: علام يضحك أحدكم مما يفعل ) قال العراقي : متفق عليه، قلت: ورواه ابن أبي الدنيا ، عن الحسين بن الحسن ، حدثنا أبو أسامة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه، عن عبد الله بن زمعة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم.. فذكره .

(وقال صلى الله عليه وسلم: إن المستهزئين بالناس يفتح لأحدهم باب من الجنة فيقال) له: (هلم هلم) ، أي: تعال، تعال. والقائل لذلك بعض الملائكة، (فيجيء) ذلك المستهزئ، (بكربه وغمه) مما أصابه من هول الموقف والحساب، (فإذا أتاه أغلق دونه) ذلك الباب، ومنعه من الدخول منه، (ثم يفتح له باب آخر، فيقال: هلم هلم. فيجيء بكربه وغمه، فإذا أتاه أغلق دونه، فما يزال كذلك حتى إن الرجل يفتح له الباب، فيقال: هلم هلم. فلا يأتيه) قال العراقي : رواه ابن أبي الدنيا في الصمت، من حديث الحسن مرسلا، ورويناه في ثمانيات النجيب من رواية أبي هدبة ، أحد [ ص: 504 ] الهالكين، عن أنس . اهـ .

قلت: قال ابن أبي الدنيا : حدثني عبد الله بن أبي بدر ، أنبأنا روح بن عبادة ، عن مبارك ، عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فذكره، (وقال معاذ بن جبل ) رضي الله عنه: ( من عير أخاه بذنب قد تاب منه لم يمت حتى يعمله ) قال العراقي : رواه الترمذي دون قوله: "قد تاب منه" ، وقال: حسن غريب، وليس إسناده بمتصل، قال الترمذي : قال أحمد بن منيع : قالوا: من ذنب قد تاب منه . اهـ .

قلت: ورواه ابن أبي الدنيا في الصمت، وفي ذم الغيبة، وابن منيع والبغوي والطبراني وغيرهم كلهم عن معاذ به مرفوعا، قال ابن أبي الدنيا : حدثنا أحمد بن منيع ، حدثنا محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني ، عن ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان ، عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عير أخاه بذنب". قال ابن منيع : قال أصحابنا: "قد تاب منه، لم يمت حتى يعمله" ، ثم قال: حدثنا خالد بن خداش ، حدثني صالح المري ، سمعت الحسن يقول: كانوا يقولون: من رمى أخاه بذنب قد تاب إلى الله منه لم يمت حتى يبتليه الله به . قال البغوي : هو منقطع; لأن خالد بن معدان لم يدرك معاذا ، ومحمد بن الحسن بن أبي يزيد قال أبو داود وغيره: كذاب، وأورده ابن الجوزي في الموضوعات؛ نظرا إلى ما ذكرنا، وفيه نظر، فقد رواه الترمذي من هذا الطريق، وغاية ما في الباب أنه ضعيف من جهة محمد بن الحسن ، وقول الحسن الذي أسنده ابن أبي الدنيا فيه صالح المري ، وهو ضعيف أيضا، إن سلم منه فهو شاهد جيد لحديث معاذ ، ونحوه: "فليجلدها الحد ولا يثرب" ، أي: لا يوبخ، ولا يقرع بالزنا بعد الجلد، وحديث ابن مسعود : "لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلبا" . ولابن أبي شيبة عن أبي موسى من قوله نحوه، وعزاه الزمخشري في الحجرات من الكشاف لعمرو بن شرحبيل بلفظ: "لو رأيت رجلا يرضع عنزا فضحكت منه لخشيت أن أصنع مثلما صنع" ، وللبيهقي : ما عاب رجل قط رجلا بعيب إلا ابتلاه الله بذلك العيب . وعن إبراهيم النخعي قال: إني لأرى الشيء فأكرهه، فلا يمنعني أن أتكلم فيه إلا مخافة أن أبتلى بمثله ، وهذه كلها شواهد لحديث معاذ ، وبمجموع ذلك كيف يورد في الموضوعات، (وكل هذا يرجع إلى استحقار الغير، والضحك عليه؛ استهانة به، واستصغارا له) ، أي: استحقارا، (وعليه نبه قوله تعالى: عسى أن يكونوا خيرا منهم ، أي: لا تستحقره استصغارا) لشأنه؛ (فلعله خير منك) عند الله تعالى، (وهذا إنما يحرم في حق من يتأذى به) ، ولو باطنا، (فأما من جعل نفسه مسخرة) أي: محلا للسخرية يسخر به، (وربما فرح من أن يسخر به) ، ولا يتأذى بباطنه منه، (كانت السخرية به من جملة المزح) ; إذ هو مطايبة اللسان بالكلام، بحيث لا يغمه ذلك، ولا يتكدر به، فأما إذا آذى فقد خرج من حد المزاح، ولحق بالسخرية، (وقد سبق ما يذم منه، وما يحمد، وإنما المحرم) شرعا، (استصغار يتأذى به المستهزأ به؛ لما فيه من التحقير والتهاون، وذلك تارة يجري بأن يضحك على كلامه إذا تخبط) ، أي: زال عن القصد (فيه، ولم ينتظم) في نفسه، أو لم ينتظم أوله مع آخره، وفي بعض النسخ: بأن يضحك منه إذا تخبط في كلامه ولم ينتظم. (أو على أفعاله إذا كانت مشوشة) أي: مضطربة غير منتظمة، (كالضحك على خطه) إذا كان رديئا، (وعلى صنعته) إذا كانت دنية، (أو على صورته) إذا كانت قبيحة، (وخلقته) إذا كان قصيرا أو طويلا جدا، بحيث يتجاوز عن طول أمثاله، (أو ناقصا بعيب من العيوب) الظاهرة، كالعمش والعرج والأدرة، وداء الفيل، وما أشبه ذلك، (فالضحك من جميع ذلك داخل في السخرية المنهي عنها) في قوله تعالى: لا يسخر قوم من قوم ، والله الموفق .

التالي السابق


الخدمات العلمية