إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان الحذر من الكذب بالمعاريض .

قد نقل عن السلف إن في المعاريض مندوحة عن الكذب قال عمر رضي الله عنه أما في المعاريض ما يكفي الرجل عن الكذب وروي ذلك عن ابن عباس وغيره وإنما أرادوا بذلك إذا اضطر الإنسان إلى الكذب فأما إذا لم تكن حاجة وضرورة ، فلا يجوز التعريض ولا التصريح جميعا ، ولكن التعريض أهون .

ومثال التعريض ما روي أن مطرفا دخل على زياد فاستبطأه فتعلل بمرض وقال : ما رفعت جنبي مذ فارقت الأمير ، إلا ما رفعني الله وقال إبراهيم إذا بلغ الرجل عنك شيء فكرهت أن تكذب ، فقل : إن الله تعالى ليعلم ما قلت من ذلك من شيء . فيكون قوله : " ما " حرف نفي عند المستمع وعنده الإبهام .

وكان معاذ بن جبل عاملا لعمر رضي الله عنه فلما رجع قالت له امرأته : ما جئت به مما يأتي به العمال إلى أهلهم وما كان قد أتاها بشيء فقال : كان عندي ضاغط قالت: كنت أمينا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند أبي بكر رضي الله عنه فبعث عمر معك ضاغطا وقامت بذلك بين نسائها ، واشتكت عمر ، فلما بلغه ذلك دعا معاذا ، وقال : بعثت معك ضاغطا ؟ قال : لم أجد ما أعتذر به إليها إلا ذلك . فضحك عمر رضي الله عنه وأعطاه شيئا فقال : أرضها به ومعنى قوله : " ضاغطا يعني رقيبا وأراد " به الله تعالى وكان النخعي لا يقول لابنته : أشتري لك سكرا . بل يقول : أرأيت لو اشتريت لك سكرا فإنه ربما لا يتفق له ذلك وكان إبراهيم إذا طلبه من يكره أن يخرج إليه وهو في الدار قال للجارية : قولي له أطلبه : في المسجد ولا تقولي له : ليس ههنا ، كيلا يكون كذبا وكان الشعبي إذا طلب في المنزل هو يكرهه خط دائرة وقال للجارية : ضعي الأصبع فيها وقولي : ليس ههنا .

وهذا كله في موضع الحاجة ، فأما في غير موضع الحاجة فلا ; لأن هذا تفهيم للكذب ، وإن لم يكن اللفظ كذبا ، فهو مكروه على الجملة ، كما روى عبد الله بن عتبة قال : دخلت مع أبي على عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه فخرجت وعلي ثوب فجعل الناس يقولون : هذا كساكه أمير المؤمنين فكنت أقول : جزى الله أمير المؤمنين خيرا . فقال لي أبي : يا بني ، اتق الكذب ، وما أشبهه فنهاه عن ذلك لأن فيه تقريرا لهم عن ظن كاذب لأجل غرض المفاخرة وهذا ، غرض باطل لا ، فائدة فيه .


(بيان الحذر من الكذب بالمعاريض ) جمع معراض، والمراد به التعريض، قال السعد التفتازاني : التعريض ذكر لفظ محتمل يفهم منه السامع خلاف ما يريده المتكلم، وقال بعض المتأخرين: هو ذكر شيء مقصود بلفظ حقيقي أو مجازي، أو كنائي؛ ليدل به على شيء آخر لم يذكر في الكلام، ونقله المناوي في شرحه، وقيل: هو أن يتكلم الرجل بكلمة يظهر من نفسه شيئا، ومراده شيء آخر، كذا في البستان، وتحقيقه في قوله تعالى: ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء ، وفي المغرب: التعريض خلاف التصريح، والفرق بينه وبين الكناية هو أن التعريض يتضمن الكلام دلالة، ليس فيها ذكر، كقوله: ما أقبح البخل! تعريض بأنه بخيل، والكناية ذكر الملزوم وإرادة اللازم، كقولك: فلان طويل النجاد، كثير الرماد، والنجاد: حمائل السيف، والمعنى أنه طويل القامة ومضياف .

(وقد نقل عن السلف) قولهم: (إن في المعاريض مندوحة) ، أي: سعة وغنية وفسحة (عن الكذب) ، وهذا قد روي مرفوعا، أخرجه ابن عدي في الكامل من طريق أبي إبراهيم الترجماني ، حدثنا داود بن الزبرقاني ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن زرارة بن أبي أوفى ، عن عمران بن الحصين رضي الله عنه مرفوعا: إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب . قال: ولا أعلم رفعه غير داود ، ورواه البيهقي وابن السني عنه موقوفا، قال البيهقي : الصحيح هكذا، ورواه الترجماني عن دواد بن الزبرقان عن ابن أبي عروبة ، فرفعه، قال الذهبي : داود قد تركه أبو داود ، وقد رواه كذلك البخاري في الأدب المفرد. (قال عمر رضي الله عنه) في معنى ذلك: ( في المعاريض ما يكفي الرجل عن الكذب ) أي: يغنيه عنه، ويجعله في فسحة منه، ورواه البيهقي في الشعب من طريق أبي عثمان النهدي عنه بلفظ: "أما إن في المعاريض ما يكفي المسلم من الكذب" . ورواه العسكري في الأمثال من طريق محمد بن كثير ، عن ليث عن مجاهد قال: قال عمر : إن في المعاريض لمندوحة للرجل المسلم الحر عن الكذب . (وروي ذلك عن ابن عباس وغيره) من الصحابة رضوان الله عليهم، منهم عمران بن حصين ، فقد روى ذلك من قوله كما في الأدب المفرد للبخاري ، ومنهم من رفعه، كما تقدم، والموقوف هو الصحيح، قاله البيهقي ، ومنهم علي بن أبي طالب ، روي عنه موقوفا ومرفوعا. (إنما أراد ذلك إذا اضطر الإنسان إلى الكذب) وألجئ إليه، (فأما إذا لم يكن حاجة ولا ضرورة، فلا يجوز التعريض ولا التصريح جميعا، ولكن التعريض أهون) في الجملة، وقال البيهقي بعد أن أورد الحديث المذكور: هذا يجوز فيما يرد به ضررا، ولا يضر الغير، (ومثال المعاريض ما روي أن مطرفا) هو ابن عبد الله بن الشخير البصري التابعي، الثقة، العابد، تقدم ذكره، (دخل على زياد) بن عبيد الله، وهو المعروف بابن سمية، ولاه يزيد بن معاوية البصرة والكوفة ، (فاستبطأه) أي: عاتبه في بطئه عنه للسلام عليه، (فتعلل) مطرف (بمرض) أي: أظهر له أنه كان مريضا، (وقال: ما رفعت جنبي) عن الفراش (منذ فارقت الأمير، إلا ما رفعني الله) ، فإنه يشمل الرفع الاختياري [ ص: 529 ] والاضطراري، (وقال إبراهيم) النخعي: ( إذا بلغ الرجل عنك شيء فكرهت أن تكذب، فقل: إن الله ليعلم ما قلت من ذلك من شيء . فيكون قوله: "ما" حرف نفي عند المستمع) ، فيفهم من قوله أنه لم يقله (وعنده) أي: عند القائل (للإيهام) ، إما موصولة أو استفهامية، وفي كل منهما الإيهام، وكذا لو قال: الله يعلم ما قلته، وهو أخصر من الأول، (وكان معاذ) بن جبل رضي الله عنه (عاملا لعمر ) رضي الله عنه على بعض الأعمال، (فلما رجع) من عمله (قالت) له (امرأته: ما جئت به مما يأتي به العمال إلى أهليهم) ، وفي بعض النسخ: "من عراضة أهليهم"، والمراد الهدية والتحفة تعرض على الأهل، (ولم يكن جاء به) ، وفي نسخة: وما كان قد أتاها بشيء، فاعتذر إليها، (فقال: كان معي ضاغط) ، قال ابن فارس في المجمل: يقال: أرسله ضاغطا على فلان، هو شبه الرقيب، يمنعه من الظلم. (قالت) زوجته: (كنت أمينا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ) ، إذ استعملاك على أعمالهم، (فبعث معك عمر ضاغطا) ، أنكرت ذلك، (فقامت بذلك في نسائها، واشتكت عمر ، فلما سمع عمر ) ذلك (دعا معاذا ، وقال: بعثت معك ضاغطا؟ قال: لم أجد ما أعتذر به إليها إلا ذلك. فضحك عمر) ، وعلم أن هذا من باب التعريض لمصلحة؛ تطييبا لخاطرها، (وأعطاه شيئا فقال: أرضها به. وقوله: "ضاغطا" يريد به) معاذ (ربه تعالى) ، أي: محاسبا ضابطا، (وكان) إبراهيم (النخعي) رحمه الله تعالى (لا يقول لابنته: أشتري لك سكرا. بل يقول: أرأيت لو اشتريت لك سكرا) تحريا من الوقوع في الكذب، (فإنه ربما لا يتفق له ذلك) ، فيكون كذبا، (وكان إبراهيم) النخعي إذا طلبه (في الدار من يكرهه) أي: يكره لقيه، وهو في الدار، (قال للجارية: قولي له: اطلبه في المسجد) ، أي: مسجد الحي، وهو يكون في مسجد بيته، (ولا تقولي: ليس ههنا، كيلا يكون كذبا) ، وكان بعضهم يقول لخادمه: قل له: ما هو هون. يريد به الهاون الذي يدق فيه، (وكان) عامر بن شراحيل (الشعبي إذا طلب في البيت وهو يكرهه) أي: يكره أن يخرج إليه (يخط دائرة ويقول للجارية: ضعي أصبعك فيها وقولي: ليس ههنا) ، وفي رواية: كان يخط بأصبعه دارة في الحائط ويقول: قل له: ما هو في الدار، ويريد به جمع دارة. ومن ذلك قول سعيد بن جبير حين أراد الحجاج قتله، وقد قال له: ما تقول في؟ قال: قاسط عادل. فقال الحاضرون: ما أحسن ما قال! ظنوا أنه وصفه بالقسط والعدل، قال الحجاج : يا جهلة، سماني مشركا ظالما، ثم تلا: وأما القاسطون الآية، وقوله: ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ، وقصد رجل باب المأمون فقال: قولوا: أحمد النبي بالباب، فاستحضره وهدده، فقال: أنا أحمد النبي، أنت لا تحمده، فضحك وقضى حاجته ، ومن أحسن المعاريض ما رواه الحسن بن سفيان والديلمي من حديث أبي هريرة قال: "ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف ناقة أبي بكر ، وقال: يا أبا بكر ، ول الناس عني؛ فإنه لا ينبغي لنبي أن يكذب. فجعل الناس يسألونه: من أنت؟ قال: باغ يبتغي. قال: ومن وراءك؟ قال: هاد يهديني ، (وهذا كله في موضع الحاجة، فأما في غير موضع الحاجة فلا; لأن هذا تفهيم للكذب، وإن لم يكن اللفظ كذبا، فهو مكروه على الجملة، كما روي عن عبد الله بن عتبة) بن عبد الله بن مسعود الهذلي الكوفي، والد أبي العميس (قال: دخلت) مع أبي عتبة بن عبد الله بن مسعود (على عمر بن عبد العزيز ) رحمه الله تعالى، (فخرجت وعلي ثوب) أي: جديد، (فجعل الناس يقولون: هذا كساك أمير المؤمنين) يعني عمر بن عبد العزيز ، (فكنت أقول: جزى الله أمير المؤمنين خيرا. فقال لي: يا بني، اتق الكذب، إياك والكذب، وما أشبهه) والذي في كتاب الصمت لابن أبي الدنيا قال: حدثني المثنى بن معاذ ، ثنا سلم بن قتيبة عن المسعودي ، عن عون بن عبد الله قال: كساني أبي حلة فخرجت فيها، فقال لي أصحابي: كساك هذه الأمير؟ فأحببت أن يروا أن الأمير كسانيها، فقلت: جزى الله الأمير خيرا، كسا الله الأمير من كسوة الجنة. فذكرت ذلك لأبي، فقال: يا بني لا تكذب ولا تشبه بالكذب . فالمسعودي هو عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود ، وعون هو ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، فالقصة لعون مع أبيه عتبة ، لا لعتبة مع أبيه عبد الله ، كما هو في سياق المصنف، (فنهاه عن ذلك) ، أي: عن التعريض; (لأن فيه تقريرا لهم على ظن كاذب [ ص: 530 ] لأجل غرض المفاخرة، وهو غرض باطل، ولا فائدة فيه) ، ويكفي في تقبيح التقرير على الظن الكاذب ما تقدم من حديث سمرة بن جندب : "من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب، فهو أحد الكاذبين" .

التالي السابق


الخدمات العلمية