إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان تحريم الغيبة بالقلب .

اعلم أن سوء الظن حرام مثل سوء القول فكما يحرم عليك أن تحدث غيرك بلسانك بمساوئ الغير فليس لك أن تحدث نفسك وتسيء الظن بأخيك ولست أعني به إلا عقد القلب وحكمه على غيره بالسوء ، فأما الخواطر ، وحديث النفس ، فهو معفو عنه بل الشك أيضا معفو عنه ولكن المنهي عنه أن يظن ، والظن عبارة عما تركن إليه النفس ، ويميل إليه القلب .

فقد ، قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم وسبب تحريمه أن أسرار القلوب لا يعلمها إلا علام الغيوب ، فليس لك أن تعتقد في غيرك سوءا إلا إذا انكشف لك بعيان لا يقبل التأويل ، فعند ذلك لا يمكنك إلا أن تعتقد ما علمته وشاهدته وما لم تشاهده بعينك ولم تسمعه بأذنك ثم وقع في قلبك ، فإنما الشيطان يلقيه إليك ، فينبغي أن تكذبه ؛ فإنه أفسق الفساق ، وقد قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فلا يجوز تصديق إبليس وإن كان ثم مخيلة تدل على فساد ، واحتمل خلافه لم يجز أن تصدق به ; لأن الفاسق يتصور أن يصدق في خيره ، ولكن لا يجوز لك أن تصدق به ، حتى إن من استنكه فوجد منه رائحة الخمر ، لا يجوز أن يحد إذ يقال : يمكن أن يكون قد تمضمض بالخمر ومجها وما شربها ، أو حمل عليه قهرا فكل ذلك لا محالة دلالة محتملة ، فلا يجوز تصديقها بالقلب .

وإساءة الظن بالمسلم بها وقد قال صلى الله عليه وسلم : إن الله حرم من المسلم دمه وماله ، وأن يظن به ظن السوء فلا يستباح ظن السوء إلا بما يستباح به المال ، وهو نفس مشاهدته أو بينة عادلة ، فإذا لم يكن كذلك ، وخطر لك وسواس سوء الظن ، فينبغي أن تدفعه عن نفسك ، وتقرر عليها أن حاله عندك مستور كما كان ، وأن ما رأيته منه يحتمل الخير والشر ، فإن قلت : فبماذا يعرف عقد الظن ، والشكوك تختلج ، والنفس تحدث فتقول : أمارة عقد سوء الظن أن يتغير القلب معه عما كان ، فينفر عنه نفورا ما ، ويستثقله ويفتر عن مراعاته وتفقده وإكرامه والاغتمام بسببه فهذه أمارات عقد الظن وتحقيقه .

وقد قال صلى الله عليه وسلم : ثلاث في المؤمن ، وله منهن مخرج ، فمخرجه من سوء الظن أن لا يحققه أي : لا يحققه في نفسه بعقد ولا فعل ، لا في القلب ، ولا في الجوارح ، أما في القلب فبتغيره إلى النفرة والكراهة ، وأما في الجوارح فبالعمل بموجبه والشيطان قد يقرر على القلب بأدنى مخيلة مساءة الناس ، ويلقي إليه أن هذا من فطنتك وسرعة فهمك وذكائك وأن المؤمن ينظر بنور الله تعالى ، وهو على التحقيق ناظر بغرور الشيطان وظلمته .

، وأما إذا أخبرك به عدل فمال ظنك إلى تصديقه ، كنت معذورا لأنك لو كذبته لكنت جانيا على هذا العدل ; إذ ظننت به الكذب ، وذلك أيضا من سوء الظن ، فلا ينبغي أن تحسن الظن بواحد ، وتسيء بالآخر ، نعم ينبغي أن تبحث : هل بينهما عداوة ومحاسدة وتعنت فتتطرق التهمة بسببه ، فقد رد الشرع شهادة الأب العدل للولد ؛ للتهمة ، ورد شهادة العدو فلك عند ذلك أن تتوقف ، وإن كان عدلا ، فلا تصدقه ولا تكذبه ، ولكن تقول في نفسك : المذكور حاله كان عندي في ستر الله تعالى ، وكان أمره محجوبا عني ، وقد بقي كما كان لم ينكشف لي شيء من أمره وقد يكون الرجل ظاهره العدالة ، ولا محاسدة بينه وبين المذكور ولكن قد يكون من عادته التعرض للناس ، وذكر مساويهم ، فهذا قد يظن أنه عدل ، وليس بعدل ، فإن المغتاب فاسق وإن كان ذلك من عادته ردت شهادته ، إلا أن الناس لكثرة الاعتياد تساهلوا في أمر الغيبة ، ولم يكترثوا بتناول أعراض الخلق ومهما خطر لك خاطر بسوء على مسلم ، فينبغي أن تزيد في مراعاته وتدعو له بالخير ، فإن ذلك يغيظ الشيطان ويدفعه عنك فلا يلقي ، إليك الخاطر السوء ؛ خيفة من اشتغالك بالدعاء والمراعاة .

ومهما عرفت هفوة مسلم بحجة فانصحه في السر ولا يخدعنك الشيطان فيدعوك إلى اغتيابه ، وإذا وعظته فلا تعظه وأنت مسرور باطلاعك على نقصه لينظر إليك بعين التعظيم وتنظر إليه بعين الاستحقار ، وتترفع عليه بإيذاء الوعظ وليكن قصدك تخليصه من الإثم وأنت حزين ، كما تحزن على نفسك إذا دخل عليلا نقصان في دينك ، وينبغي أن يكون تركه لذلك من غير نصحك أحب إليك من تركه بالنصيحة ، فإذا أنت فعلت ذلك كنت قد جمعت بين أجر الوعظ، وأجر الغم بمصيبته ، وأجر الإعانة له على دينه .

ومن ثمرات سوء الظن التجسس ، فإن القلب لا يقنع بالظن ، ويطلب التحقيق فيشتغل بالتجسس ، وهو أيضا منهي عنه ، قال الله تعالى : ولا تجسسوا ؛ فالغيبة وسوء الظن والتجسس منهي عنه في آية واحدة ومعنى التجسس أن لا يترك عباد الله تحت ستر الله فيتوصل ، إلى الاطلاع وهتك الستر حتى ينكشف له ما لو كان مستورا عنه كان أسلم لقلبه ودينه ، وقد ذكرنا في كتاب الأمر بالمعروف حكم التجسس وحقيقته .


(بيان تحريم الغيبة بالقلب )

(اعلم أن سوء الظن) بأخيك المسلم (حرام مثل سوء القول) فيه، (فكما يحرم عليك أن تحدث غيرك بلسانك) الظاهر، (بمساوئ الغير) ومعايبه، (فليس لك أن تحدث نفسك وتسيء الظن بأخيك) المسلم، (ولست أعني به إلا حقد القلب) المستكن فيه، (وحكمه على غيره بسوء الظن، فأما الخواطر، وحديث النفس، فهو معفو عنه) بدليل ما وردت به الأخبار، وتقدم ذكرها في كتاب رياضة النفس، (ولكن المنهي عنه أن يظن، والظن عبارة عما تركن إليه النفس، ويميل إليه القلب، وقد قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن ) أي: كونوا على جانب منه، وإبهام الكثير ليحتاط في كل ظن، ويتأمل حتى يعلم أنه من أي القبيل؛ فإن من الظن ما يجب اتباعه، كالظن، حيث لا قاطع فيه من العمليات، وحسن الظن بالله، وما يحرم كالظن حيث يخالفه قاطع، وظن السوء بالمؤمنين ، وما يباح كالظن في الأمور المعاشية، ( إن بعض الظن إثم ) تعليل مستأنف للأمر، والإثم الذنب الذي يستحق العقوبة عليه، (وسبب تحريمه أن أسرار القلوب لا يعلمها إلا علام الغيوب، فليس لك أن تعتقد في غيرك سوءا إلا إذا انكشف لك بعيان) أي: المشاهدة، (لا يقبل التأويل، فعند ذلك لا يمكنك إلا أن تعتقد ما علمته وشاهدته) بعيانك، (وما لم تشاهده بعينك ولم تسمعه بأذنك ثم وقع في قلبك، فإنما الشيطان يلقيه إليك، فينبغي أن تكذبه؛ فإنه أفسق الفساق، وقد قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا ) ، أي: فتعرفوا وتفصحوا، وتنكير الفاسق والنبإ للتعميم، وفي تعليق الأمر بالتبيين على فسق المخبر يقتضي جواز قبول خبر العدل من حيث إن المعلق على شيء بكلمة إن عدم عند عدمه، وإن خبر الواحد العدل يوجب تبيينه من حيث هو كذلك، ( أن تصيبوا ) كراهة إصابتكم ( قوما بجهالة ) ، جاهلين بحالهم، وتمام الآية فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ، أي: مغتمين غما لازما، متمنين أنه لم يقع، (فلا يجوز تصديق إبليس) فيما يوقعه في القلب، (وإن كان ثم مخيلة تدل على فساد، واحتمل خلافه لم يجز أن يصدقه; لأن الفاسق يتصور أن يصدق في خبره، ولكن لا يجوز لك أن تصدقه، حتى إن من استنكه) [ ص: 552 ] أي: شم فمه، (فوجد منه رائحة الخمر، لا يجوز أن يحد) حد الشارب للخمر; (إذ يقال: يمكن أن يكون قد تمضمض بها ومجها) أي: ألقاها، (وما شربها، أو حمل عليه) أي: على شربها (قهرا) أي: أكره إلى ذلك، (فكل ذلك لا محالة دلالة محتملة، فلا يجوز تصديقها بالقلب، وإساءة الظن بالمسلم بها) ، وقد قال الشاعر:


يقولون لي إنك قد شربت مدامة فقلت لهم لا بل أكلت السفرجلا



وقد اعتبر أصحابنا وجود الرائحة في إيجاب الحد بشروط على ما هو مذكور في الفروع، ومذهب عمر وابن مسعود .

(وقد قال صلى الله عليه وسلم: إن الله حرم من المسلم دمه وماله، وأن يظن به ظن السوء ) قال العراقي : رواه البيهقي في الشعب من حديث ابن عباس بسند ضعيف، ولابن ماجه نحوه بسند ضعيف أيضا، (فلا يستباح إلا بما يستباح به المال، وهو نفس مشاهدته أو بينة عادلة، فإذا لم يكن كذلك، وخطر لك وسواس سوء الظن، فينبغي أن تدفعه عن نفسك، وتقرر عليها أن الحال عندك مستور كما كان، وأن ما رميته به يحتمل الخير والشر، فإن قلت: فبماذا يعرف عقد الظن، والشكوك تختلج، والنفس تحدث، فنقول: أمارة عقد الظن أن يتغير القلب معه عما كان، فينفر عنه نفورا ما، ويستثقله) أي: يعده ثقيلا، (ويمسك عن مراعاته) لأحواله، (وتفقده) عند تأخره (وإكرامه) عند لقائه، (أو الاغتمام بسببه) إن عرض به عارض، (فهذه أمارات لعقد الظن) في القلب، (وتحقيقه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ثلاث في المؤمن، وله منهن مخرج، فمخرجه من سوء الظن ألا يحققه ) ، قال العراقي : رواه الطبراني من حديث حارثة بن النعمان بسند ضعيف. اهـ .

قلت: لفظ الطبراني في الكبير: "ثلاث لازمات لأمتي; سوء الظن، والحسد، والطيرة، فإذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدت فاستغفر الله تعالى، وإذا تطيرت فامض" . وفي سنده إسماعيل بن قيس الأنصاري ، وهو ضعيف، وكذلك رواه أبو الشيخ في كتاب التوبيخ .

وروى عمر الأصبهاني الحافظ -الملقب برسته- في كتاب الإيمان له عن الحسن البصري مرسلا: "ثلاث لم تسلم منها هذه الأمة: الحسد والظن والطيرة، ألا أنبئكم بالمخرج منها؟ إذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدت فلا تبغ، وإذا تطيرت فامض" . (أي: لا يحققه في نفسه بعقد ولا فعل، لا في القلب، ولا في الجوارح، أما في القلب فبتغيره إلى النفرة والكراهة، وأما في الجوارح فبالعمل بموجبه) ، ومقتضاه، (والشيطان قد يقرر على القلب بأدنى مخيلة مساءة الناس، ويلقي إليه أن هذا من فطنتك وسرعة تنبهك وذكائك) وحسن تفرسك، (وإن المؤمن ينظر بنور الله تعالى، وهو على التحقيق نظر بغرور الشيطان وظلمته، فليحذر من ذلك، وأما إذا أخبرك غيرك من العدول فمال ظنك إلى التصديق، كنت معذورا) في الجملة، (إلا أنك لو كذبته لكنت جانيا على هذا العدل; إذ ظننت به الكذب، وذلك أيضا من سوء الظن، فلا ينبغي أن تحسن الظن بواحد، وتسيء بالآخر، نعم ينبغي أن تبحث: هل بينهما عداوة ومحاسدة وتعنت) في خصومة أو معاملة، (فتتطرق التهمة بسببه، فقد رد الشرع شهادة الأب العدل للولد؛ للتهمة، ورد شهادة العدو) ، وذلك فيما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا مجلود حد ولا مجلودة، ولا ذي غمر على أخيه، ولا مجرب عليه شهادة زور، ولا التابع مع آل البيت لهم، ولا الظنين في ولاء، ولا في قرابة" .

أخرجه الترمذي وضعفه، والبيهقي من حديث عائشة .

وروى أبو داود وابن ماجه والبيهقي وابن عساكر من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجوز شهادة خائن، ولا خائنة، ولا زان، ولا زانية، ولا ذي غمر على أخيه في الإسلام" . ورواه عبد الرزاق وأحمد بلفظ: "لا تجوز شهادة خائن، ولا خائنة، ولا ذي غمر على أخيه، ولا شهادة التابع لأهل البيت، وتجوز شهادته لغيرهم" . ورواه عبد الرزاق أيضا عن عمر بن عبد العزيز ، بلاغا: "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا ذي غمر على [ ص: 553 ] أخيه، ولا محدث في الإسلام، ولا محدثة" . ورواه أيضا كذا الحاكم والبيهقي من حديث أبي هريرة : "لا تجوز شهادة ذي الظنة، ولا ذي الحنة" . (فلك عند ذلك أن تتوقف، وإن كان عدلا، فلا تصدقه ولا تكذبه، ولكن تقول في نفسك: المذكور حاله كان في ستر الله عندي، وكان أمره محجوبا عني، وقد بقي كما كان لم ينكشف لي شيء من أمره) ، وحاله، (وقد يكون الرجل ظاهره الستر والعدالة، ولا محاسدة بينه وبين المذكور) ، ولا معاداة ولا تعنت، (ولكن يكون من عادته التعرض للناس، وذكر مساوئهم، فهذا قد يظن أنه عدل، وليس بعدل، فإن المغتاب فاسق) هذا إذا صدر منه الاغتياب على القلة، (وإن كان ذلك من عادته ردت شهادته، إلا أن الناس لكثرة الاعتياد تساهلوا في أمر الغيبة، ولم يكترثوا بتناول أعراض الخلق) ، أي: لم يبالوا، وهذه بلية عامة شاملة للعباد في جميع البلاد، فهي من أكبر الفساد، إلا من عصمه الله تعالى، (ومهما خطر لك خاطر بسوء على مسلم ، فينبغي أن تزيد في مراعاته) ، وتفقده وإكرامه، والسؤال عن حاله، (وتدعو له بالخير، فإن ذلك يغيظ الشيطان) ، ويغضبه، (ويدفعه عنك، ولا يلقي إليك الخاطر السوء؛ خيفة من اشتغالك بالدعاء) له، (والمراعاة) لحاله، (ومهما عرفت هفوة مسلم بحجة) ظاهرة، (فانصحه في السر) لا في العلانية، (فلا يخدعنك الشيطان فيدعوك إلى اغتيابه، وإذا وعظته فلا تعظه وأنت مسرور باطلاعك على نقصه) وعيبه، (لينظر إليك بعين التعظيم) والاحترام، (وتنظر إليه بعين الاستحقار، وتترفع عليه بدالة الوعظ) والنصح، (وليكن قصدك تخليصه من الإثم) الذي وقع فيه (وأنت حزين، كما تحزن على نفسك بنقصان في دينك، وينبغي أن يكون تركه لذلك من غير نصحك أحب إليك من تركه بالنصيحة، فإذا أنت فعلت ذلك كنت قد جمعت أجر الوعظ وأجر الغم بمصيبته، وأجر الإعانة له على دينه، ومن ثمرات سوء الظن التجسس، فإن القلب لا يقنع بالظن، ويطلب التحقيق) بمقتضاه، (فيشتغل بالتجسس، وهو أيضا منهي عنه، قال الله تعالى: ولا تجسسوا ؛ فالغيبة وسوء الظن والتجسس منهي عنه) أي: عن كل منها، (في آية واحدة) وهي قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا ، فقدم ذكر سوء الظن، ثم أتبعه بثمرته، ثم ذكر الغيبة، (ومعنى التجسس ألا يترك عباد الله تحت ستر الله، فيتوسل إلى الاطلاع) إلى ما وراءه (وهتك الستر حتى ينكشف له ما لو كان مستورا عنه كان أسلم لقلبه ودينه، وقد ذكرنا في كتاب الأمر بالمعروف حكم التجسس وحقيقته) فلا نطول بإعادته، والله الموفق .

التالي السابق


الخدمات العلمية