إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الآفة السابعة عشرة : كلام ذي اللسانين الذي يتردد بين المتعاديين ويكلم كل واحد منهما بكلام يوافقه وقلما يخلو عنه من يشاهد متعاديين ، وذلك عين النفاق .

قال عمار بن ياسر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كان له وجهان في الدنيا ، كان له لسانان من نار يوم القيامة وقال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تجدون من شر عباد الله يوم القيامة ذا الوجهين ، الذي يأتي هؤلاء بحديث ، وهؤلاء بحديث وفي لفظ آخر الذي : يأتي هؤلاء بوجه ، وهؤلاء بوجه وقال أبو هريرة لا ينبغي لذي الوجهين أن يكون أمينا عند الله وقال مالك بن دينار قرأت في التوراة بطلت : الأمانة ، والرجل مع صاحبه بشفتين مختلفتين ، يهلك الله تعالى يوم القيامة كل شفتين مختلفتين وقال صلى الله عليه وسلم : أبغض خليقة الله إلى الله يوم القيامة الكذابون والمستكبرون والذين يكثرون البغضاء لإخوانهم في صدورهم ، فإذا لقوهم تملقوا لهم والذين إذا دعوا إلى الله ورسوله كانوا بطاء وإذا دعوا إلى الشيطان وأمره كانوا سراعا .

وقال ابن مسعود لا يكونن أحدكم إمعة قالوا : وما الإمعة ؟ قال الذي يجري مع كل ريح واتفقوا على أن ملاقاة الاثنين بوجهين نفاق ، وللنفاق علامات كثيرة ، وهذه من جملتها .

وقد روي أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مات ، فلم يصل عليه حذيفة فقال له عمر يموت رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تصل : عليه ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، إنه منهم فقال نشدتك : الله ، أنا منهم أم لا ؟ قال : اللهم لا ، ولا أؤمن منها أحدا بعدك .

فإن قلت بماذا : يصير الرجل ذا لسانين ، وما حد ذلك ؟ فأقول : إذا دخل على متعاديين ، وجامل كل واحد منهما وكان صادقا فيه ، لم يكن منافقا ولا ذا لسانين ؛ فإن الواحد قد يصادق متعاديين ، ولكن صداقة ضعيفة لا تنتهي إلى حد الأخوة ، إذ لو تحققت الصداقة ، لاقتضت معاداة الأعداء كما ذكرنا في كتاب آداب الصحبة والأخوة ، نعم لو نقل كلام كل واحد منهما إلى الآخر ، فهو ذو لسانين وهو ، شر من النميمة ؛ إذ يصير نماما بأن ينقل من أحد الجانبين فقط فإذا نقل من الجانبين فهو شر من النمام ، وإن لم ينقل كلاما ، ولكن حسن لكل واحد منهما ما هو عليه من المعاداة مع صاحبه فهذا ، ذو لسانين وكذلك إذا وعد كل واحد منهما بأن ينصره وكذلك إذا أثنى على واحد منهما في معاداته وكذلك إذا أثنى على أحدهما ، وكان إذا خرج من عنده يذمه ، فهو ذو لسانين بل ينبغي أن يسكت أو يثني على المحق من المتعاديين ويثني عليه في غيبته وفي حضوره ، وبين يدي عدوه .

قيل ، لابن عمر رضي الله عنهما إنا ندخل على أمرائنا فنقول القول ، فإذا خرجنا قلنا غيره فقال : كنا نعد هذا نفاقا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا نفاق مهما كان مستغنيا عن الدخول على الأمير ، وعن الثناء عليه ، فلو استغنى عن الدخول ولكن إذا دخل يخاف إن لم يثن فهو نفاق ; لأنه الذي أحوج نفسه إلى ذلك فإن ، كان مستغنيا عن الدخول لو قنع بالقليل ، وترك المال والجاه ، فدخل لضرورة الجاه ، والغنى ، وأثنى ، فهو منافق ، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم : حب المال والجاه ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل لأنه يحوج إلى الأمراء وإلى مراعاتهم ومراءاتهم ، فأما إذا ابتلي به لضرورة وخاف إن لم يثن ، فهو معذور ، فإن اتقاء الشر جائز ، قال أبو الدرداء رضي الله عنه إنا لنكشر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم وقالت عائشة رضي الله عنها : استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ائذنوا له ، فبئس رجل العشيرة هو ثم لما دخل ألان له القول ، فلما خرج ، قلت : يا رسول الله ، قلت فيه ما قلت ، ثم ألنت له القول ، فقال : يا عائشة ، إن شر الناس الذي يكرم اتقاء شره .

ولكن هذا ورد في الإقبال وفي الكشر ، والتبسم ، فأما الثناء فهو كذب صراح ولا ، يجوز إلا لضرورة أو إكراه يباح الكذب بمثله ، كما ذكرناه في آفة الكذب ، بل لا يجوز الثناء ولا التصديق ، ولا تحريك الرأس في معرض التقرير على كل كلام باطل ، فإن فعل ذلك فهو منافق ، بل ينبغي أن ينكر فإن لم يقدر فيسكت بلسانه وينكر بقلبه .


(الآفة السابعة عشرة: كلام ذي اللسانين )

(الذي يتردد بين المتعاديين ويكلم كل واحد بكلام يوافقه) في رأيه، (فقلما يخلو عنه من يشاهد متعاديين، وذلك عين النفاق. قال) أبو اليقظان، (عمار بن ياسر) بن عامر بن مالك العنسي، بنون ساكنة وسين مهملة، مولى بني مخزوم ، وصحابي جليل مشهور من السابقين الأولين، بدري، قتل مع علي رضي الله عنهما بصفين سنة سبع وثلاثين .

(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان له وجهان في الدنيا، كان له لسانان من نار يوم القيامة ) ، رواه ابن أبي الدنيا عن يحيى بن عبد الحميد الحماني ، حدثنا شريك ، حدثنا الركين بن الربيع ، عن نعيم بن حنظلة ، عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فذكره. وأخرجه البخاري في كتاب الأدب المفرد، وأبو داود بسند حسن .

(وقال أبو هريرة ) رضي الله عنه: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تجدون من شر عباد الله يوم القيامة ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بحديث هؤلاء، وهؤلاء بحديث هؤلاء ) ، رواه ابن أبي الدنيا عن أبي خيثمة ، حدثنا جرير عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم.. فذكره. (وفي لفظ آخر: يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه ) ، رواه أيضا ابن أبي الدنيا عن أبي خيثمة ، حدثنا ابن عيينة عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تجدون من شر الناس ذا الوجهين، الذي يأتي.. فذكره. وهو عند أحمد والبخاري ، ومسلم : وتجدون شر الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه . (وقال أبو هريرة ) رضي الله عنه: (لا ينبغي لذي الوجهين أن يكون أمينا عند الله تعالى) هكذا هو في النسخ موقوفا، ورواه ابن أبي الدنيا مرفوعا عن الحسن بن عبد العزيز ، حدثنا يحيى بن حسان ، حدثنا سليمان بن بلال عن كثير بن زيد عن الوليد بن رباح ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا ينبغي.. فذكره. وقد رواه كذلك مرفوعا الخرائطي في مساوئ الأخلاق، والبيهقي في الشعب .

وأخرج ابن أبي الدنيا من حديث أنس : "من كان له لسانان في الدنيا، جعل له لسانان من نار يوم القيامة" . وعن ابن مسعود قال: إن ذا اللسانين في الدنيا له يوم القيامة لسانان من نار .

(وقال مالك بن دينار) البصري رحمه الله تعالى: (قرأت في التوراة: تطلب الأمانة، والرجل مع صاحبه بشفتين مختلفتين، يهلك الله يوم القيامة كل شفتين مختلفتين) أخرجه أبو نعيم في الحلية، (وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبغض خليقة الله يوم القيامة الكذابون والمستكبرون والذين يكنزون) ، أي: يخزنون، (البغضاء لإخوانهم في صدورهم، فإذا لقوهم تملقوا لهم) ، أي: ألطفوا لهم، وألانوا القول. (والذين إذا دعوا إلى الله ورسوله كانوا بطآء) جمع بطيء، (وإذا دعوا إلى الشيطان وأمره كانوا سراعا) جمع [ ص: 569 ] سريع، قال العراقي : لم أقف له على أصل .

(وقال ابن مسعود ) رضي الله عنه: (لا يكن أحدكم إمعة) بكسر الهمزة وتشديد الميم المفتوحة، (قالوا: وما الإمعة؟ قال) الذي: (يجري مع كل ريح) .

أخرجه ابن أبي الدنيا عن حبيب بن الحسن ، حدثنا عمر بن حفص السدوسي ، حدثنا عاصم بن علي ، حدثنا المسعودي ، عن سلمة بن كهيل ، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: قال عبد الله : لا يكونن أحدكم إمعة. قالوا: وما الإمعة يا أبا عبد الرحمن ؟ قال: يقول: أنا مع الناس، إن اهتدوا اهتديت، وإن ضلوا ضللت، ألا ليوطنن أحدكم نفسه على إن كفر الناس ألا يكفر . اهـ. ومما نسب إلى علي رضي الله عنه من قوله في أبيات:


ولست بإمعة في الرجال أسائل هذا وذا: ما الخبر



(واتفقوا على أن ملاقاة الاثنين بوجهين نفاق، وللنفاق علامات كثيرة، وهذه من جملتها، وقد روي أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مات، فلم يصل عليه حذيفة) بن اليمان رضي الله عنه، فبلغ الخبر إلى عمر (فقال عمر ) رضي الله عنه: (يموت رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولا تصلي عليه؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنه منهم) ، أي: من المنافقين، وكان حذيفة قد أعطي علم ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، (قال: فنشدتك الله، أنا منهم أم لا؟ قال: اللهم لا، ولا أؤمن منها أحدا بعدك) ، لم يرد بذلك نفاق الكفر، وإنما أراد نفاق العمل، الذي هو ترك المحافظة على الدين سرا، ومراعاتها علنا، قاله القرطبي . (فإن قلت: فبماذا يصير ذا لسانين، وما حد ذلك؟ فأقول: إذا دخل على متعاديين، وجامل كل واحد منهما) ، أي: عامله بالمجاملة، (وكان صادقا فيه، لم يكن منافقا) لعدم مخالفة السر العلن، (ولا ذا لسانين؛ فإن الواحد قد يصادق متعاديين، ولكن صداقة ضعيفة لا تنتهي إلى حد الأخوة، إذ لو تحققت الصداقة، لاقتضت معاداة الأعداء) ومصارمتهم، (كما ذكرناه في كتاب الصحبة والأخوة، نعم لو نقل كلام كل واحد إلى الآخر، فهو ذو لسانين، وذلك شر من النميمة؛ إذ يصير نماما بأن ينقل من أحد الجانبين فقط، وإن لم ينقل كلاما، ولكن حسن لكل واحد منهما ما هو عليه من المعاداة لصاحبه، فهو ذو لسانين) أيضا; لأن تحسين معاداة هذا يستلزم تقبيح الآخر، وبالعكس، (وكذلك إذا وعد كل واحد منهما بأنه ينصره) على الآخر، فهو ذو لسانين أيضا، (وكذلك إذا أثنى على كل واحد منهما في معاداته) ، فهو ذو لسانين أيضا، (وكذلك إذا أثنى على أحدهما، وكان إذا خرج من عنده يذمه، فهو ذو لسانين) أيضا، (بل ينبغي أن يسكت) ولا يفاوض في أمرهما أصلا، (أو يثني على المحق من المتعاديين) ، ويظهر الذي هو على الحق، والذي هو على الباطل، (ويثني في حضوره وفي غيبته، وبين يدي عدوه) ، فهذا (هو المخلص له عن النفاق، وقيل لابن عمر ) رضي الله عنه: (إنا ندخل على أمرائنا فنقول القول، فإذا خرجنا) من عندهم، (قلنا غيره، قال: كنا نعد ذلك نفاقا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه ابن أبي الدنيا ، عن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا يعلى بن عبيد ، حدثنا الأعمش عن إبراهيم ، عن أبي الشعثاء قال: قيل لابن عمر .. فساقه، وحدثنا أحمد بن إبراهيم ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا سلام بن سليم ، عن أبي إسحاق ، عن عريب الهمداني قال: قلت لابن عمر : إنا إذا دخلنا على الأمراء زكيناهم بما ليس فيهم، فإذا خرجنا دعونا عليهم، قال: كنا نعد ذلك النفاق . وقال العراقي : رواه البخاري بلفظ: سلاطيننا، فنقول لهم بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم.. الحديث، وفي رواية علقها بعد قوله: "نفاقا"، في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواه الطبراني من طرق. (وهذا نفاق مهما كان مستغنيا عن الدخول على الأمير، وعن الثناء عليه، فلو استغنى عن الدخول) عليه، (ولكن إذا دخل يخاف [ ص: 570 ] إن لم يثن) عليه في ماله أو عرضه، (فهو نفاق; لأنه الذي أحوج نفسه إليه، وإن كان يستغني عن الدخول لو قنع بالقليل، وترك المال والجاه، فدخل لضرورة الجاه، والغنى، وأثنى، فهو منافق، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: حب الجاه والمال ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل ) ، رواه الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي هريرة بسند ضعيف، إلا أنه قال: حب الغنى والمال، وقال: "العشب"، مكان "البقل" .

وروى ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي من حديث ابن مسعود : الغنى ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل . وعند البيهقي من حديث جابر مثله، إلا أنه قال: "الزرع"، مكان "البقل"، وقد تقدم كل ذلك في كتاب آداب السماع؛ (لأنه يحوج إلى الأمراء ومراعاتهم) في أحوالهم، (ومراءاتهم، فأما إذا ابتلي به لضرورة وخاف إن لم يثن، فهو معذور، فإن اتقاء الشر جائز، قال أبو الدرداء ) رضي الله عنه: (إنا لنكشر في وجوه أقوام) أي: نظهر لهم الأنس والفرح والضحك والملاطفة، (وإن قلوبنا لتلعنهم) أخرجه أبو نعيم في الحلية، وقد تقدم .

(وقالت عائشة رضي الله عنها: استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ائذنوا له، فبئس رجل العشيرة هو) ، أو ابن العشيرة، (فلما دخل ألان له القول، فلما خرج، قلت: يا رسول الله، قلت فيه ما قلت، ثم ألنت له القول، فقال: يا عائشة ، إن شر الناس الذي يكرم اتقاء لشره) وفي رواية: شر الناس منزلة يوم القيامة من ودعه الناس -أو تركه- اتقاء شره. رواه الشيخان وأبو داود والترمذي ، وابن أبي الدنيا ، وقد تقدم في الآفة التي قبلها، (ولكن هذا ورد في الإقبال وفي الكشر، والتبسم، فأما الثناء فهو كذب صريح، فلا يجوز إلا لضرورة ألمت أو إكراه يباح الكذب بمثله، كما ذكرناه في آفة الكذب، بل لا يجوز الثناء ولا التصديق، ولا تحريك الرأس في معرض التقرير على كل كلام باطل، فإن فعل ذلك فهو منافق، بل ينبغي أن ينكر) بلسانه، (فإن لم يقدر فيسكت بلسانه وينكر بقلبه) ، وهذا أضعف الإيمان، نسأل الله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية