إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الآفة التاسعة عشر الغفلة عن دقائق الخطأ في فحوى الكلام .

لا سيما فيما يتعلق بالله وصفاته ، ويرتبط بأمور الدين ، فلا يقدر على تقويم اللفظ في أمور الدين إلا العلماء الفصحاء فمن قصر في علم أو فصاحة لم يخل كلامه عن الزلل لكن الله تعالى يعفو عنه ؛ لجهله .

مثاله ما قال حذيفة قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا يقل أحدكم : ما شاء الله وشئت ، ولكن ليقل : ما شاء الله ، ثم شئت وذلك لأن في العطف المطلق تشريكا وتسوية ، وهو على خلاف الاحترام وقال ابن عباس رضي الله عنهما جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمه في بعض الأمر ، فقال : ما شاء الله وشئت . فقال صلى الله عليه وسلم : أجعلتني لله عديلا بل ؟! : ما شاء الله وحده .

وخطب رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : من يطع الله ورسوله ، فقد رشد ، ومن يعصهما فقد غوى ، فقال : قل : ومن يعص الله ورسوله فقد غوى .

فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله : ومن يعصهما ; لأنه تسوية وجمع .

وكان إبراهيم يكره أن يقول الرجل : أعوذ بالله وبك . ويجوز أن يقول : أعوذ بالله ثم بك وأن ، يقول : لولا الله ثم فلان ، ولا يقول : لولا الله وفلان وكره بعضهم أن يقال اللهم أعتقنا من النار وكان يقول . العتق يكون بعد الورود ، وكانوا يستجيرون من النار ، ويتعوذون من النار وقال رجل : اللهم اجعلني ممن تصيبه شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم فقال حذيفة إن الله يغني المؤمنين عن شفاعة محمد وتكون شفاعته للمذنبين من المسلمين وقال إبراهيم إذا قال الرجل للرجل : يا حمار ، يا خنزير ، قيل له يوم القيامة : حمارا رأيتني خلقته ؟! خنزيرا رأيتني خلقته ؟! وعن ابن عباس رضي الله عنهما إن أحدكم ليشرك حتى يشرك بكلبه فيقول : لولاه لسرقنا الليلة وقال عمر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت .

. قال عمر رضي الله عنه: فوالله ما حلفت بها منذ سمعتها .


(الآفة التاسعة عشرة في الغفلة عن دقائق الخطإ في فحوى الكلام )

في أثناء المحاورات، (لا سيما فيما يتعلق بالله وصفاته، ويرتبط بأمور الدين، فلا يقدر على تقويم اللفظ) وتعديله (في أمور الدين إلا العلماء الفصحاء) العارفون بمواقع الكلام، (فمن قصر في علم أو فصاحة) ، أي: لم يحزهما لنفسه، (لم يخل كلامه عن الزلل) والسقط من حيث لا يدري، (لكن الله يعفو عنه؛ لجهله، مثاله ما قال حذيفة) بن اليمان رضي الله عنه: (قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يقل أحدكم: ما شاء الله وشئت، ولكن ليقل: ما شاء الله، ثم شئت ) رواه ابن أبي الدنيا عن أبي خيثمة ، حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا شعبة عن منصور ، عن عبد الله بن يسار ، عن حذيفة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم.. فذكره. وقال العراقي : رواه أبو داود والنسائي في الكبرى بسند صحيح. اهـ .

قلت: وفي لفظ لأبي داود والنسائي : لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان . ورواه كذلك الطيالسي وأحمد ، وابن أبي شيبة وابن ماجه ، وابن السني والضياء في المختارة؛ (وذلك لأن في العطف المطلق) بالواو (تشريكا وتسوية، وهو على خلاف الاحترام) لمقام الربوبية، بخلاف العطف بـ"ثم"، قال صاحب المصباح: "ثم" حرف عطف، وهي للمفردات للترتيب بمهلة، وقال الأخفش : هي بمعنى الواو، استعملت فيما لا ترتيب فيه، نحو: والله ثم والله لأفعلن كذا، وتقول: وحياتك ثم وحياتك لأقومن، وأما في الجمل فلا يلزم الترتيب، بل قد تأتي بمعنى الواو، نحو قوله تعالى: ثم الله شهيد على ما يفعلون ، أي: والله شاهد على تكذيبهم وعنادهم؛ فإن شهادة الله غير حادثة، ومثله: ثم كان من الذين آمنوا .

(وقال ابن عباس ) رضي الله عنهما: ( جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه في بعض الأمر، فقال: ما شاء الله وشئت. فقال صلى الله عليه وسلم: أجعلتني لله عدلا؟! قل: ما شاء الله وحده ) رواه ابن أبي الدنيا عن عبد الرحمن بن صالح ، حدثنا المحاربي عن الأحلج عن يزيد بن الأصم ، عن ابن عباس قال: جاء رجل.. فساقه. وقال العراقي : رواه النسائي في الكبرى، وابن ماجه بإسناد حسن. اهـ .

قلت: وروى سمويه في فوائده، والضياء المقدسي من حديث جابر بن سمرة بلفظ: "لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد" . ورواه كذلك الخطيب في المتفق والمفترق، وابن النجار من حديث الطفيل بن سخبرة .

وروى الطبراني في الكبير من حديث ابن مسعود : قولوا: ما شاء الله ثم شئت .

وروى ابن سعد في الطبقات، والطبراني من طريق مسعر عن معبد بن خالد الجدلي ، عن عبد الله بن يسار ، عن قتيلة -امرأة من جهينة- قالت: جاء يهودي، وفي رواية ابن سعد : حبر من الأحبار، إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنكم تشركون، تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقولوا: ورب الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت . قال ابن سعد : ليس لها غير هذا الحديث، وأخرجه ابن منده من طريق المسعودي عن معبد بن يسار ، عن قتيلة بنت صيفي الجهنية ، (وخطب رجل عند رسول الله صلى الله [ ص: 575 ] عليه وسلم فقال: من يطع الله ورسوله، فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، فقال:) لا تقل هكذا (قل:) من يطع الله ورسوله فقد رشد، (ومن يعص الله ورسوله فقد غوى) رواه ابن أبي الدنيا عن علي بن الجعد ، أنبأنا ابن عيينة عن المغيرة عن إبراهيم ، قال: خطب رجل.. فساقه، وقال العراقي : رواه مسلم من حديث عدي بن حاتم ، (وكره قوله: ومن يعصهما; لأنه تسوية وجمع) أي: ذكرهما في حيز واحد، هذا هو المشهور، واختلف في ذلك، فقيل: كان ذلك في أول الإسلام، ثم لما شاع وانتشر وكمل نور الإيمان، أبيح ذلك، كما ذكره شراح الشفاء، وتقدم البحث في ذلك، وقال بعضهم: ولعل الأوجه أن يقال: العدول عن الاسمين الكريمين غير لائق، وإن كان المقام يقتضي الضمير اختصارا، ولهذا ورد في كثير من القرآن: ومن يطع الله ورسوله ، ومن يعص الله ورسوله ، ولله در القائل:


أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره هو المسك ما كررته يتضوع



(وكان إبراهيم) النخعي (يكره أن يقول الرجل: أعوذ بالله وبك. ويجوز) أي: يرى جائزا (أن يقال: أعوذ بالله ثم بك، و) يجوز (أن يقول: لولا الله ثم فلان، ولا يقول: لولا الله وفلان) رواه ابن أبي الدنيا عن عبد الرحمن بن صالح ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم أبو يحيى التيمي حدثنا مغيرة ، قال: كان إبراهيم يكره أن يقول الرجل: أعوذ بالله وبك. ويرخص أن يقول: أعوذ بالله ثم بك. ويكره أن يقول: لولا الله وفلان. ويرخص أن يقول: لولا الله ثم فلان ، (وكره بعضهم أن يقول) الرجل في دعائه: (اللهم أعتقنا من النار. وقالوا) في توجيه ذلك أن (العتق) إنما (يكون بعد الورود، وكانوا يستجيرون من النار، ويتعوذون من النار) رواه ابن أبي الدنيا عن هارون بن عبد الله ، حدثنا سيار ، حدثنا جعفر ، حدثنا أبو عمران الجوني قال: أدركت أربعة من أفضل ما أدركت، فكانوا يكرهون أن يقولوا: اللهم أعتقنا من النار، ويقولون: إنما يعتق منها من دخلها، وكانوا يقولون: نستجير بالله من النار، ونعوذ بالله من النار، قلت: وهذه من جملة الدقائق؛ فإن أراد القائل بالعتق العصمة، والحفظ، أو ما يجرى مجراه، فلا أرى بأسا في الإطلاق، فقد اشتهر الدعاء بمثل ذلك من غير نكير .

(قال رجل: اللهم اجعلني ممن تصيبهم شفاعة محمد ) صلى الله عليه وسلم، (فقال حذيفة ) رضي الله عنه: (إن الله يغني المؤمنين عن شفاعة محمد ) صلى الله عليه وسلم، (وتكون شفاعته للمذنبين من المسلمين) رواه ابن أبي الدنيا عن عبد الرحمن بن صالح ، حدثنا المحاربي عن أبي مالك الأشجعي ، عن ربعي عن حذيفة قال: قال رجل.. فذكره .

وروي أيضا عن حمدون بن سعد ، حدثنا النضر بن إسماعيل ، عن أبي طالب ، عن عمار الدهني ، عن أبي جعفر قال: سمع علي امرأة تقول: اللهم أدخلني في شفاعة محمد . قال: إذا تمسك النار . وهذا أيضا من الدقائق، وإذا أراد بشفاعته رفعة المنزلة له فوق منزلته، فلا أرى بذلك بأسا. (وقال إبراهيم) النخعي: ( إذا قال الرجل للرجل: يا حمار، يا خنزير، قيل له يوم القيامة: حمارا رأيتني خلقته؟! خنزيرا رأيتني خلقته؟! ) رواه ابن أبي الدنيا ، عن عبد الرحمن بن صالح ، حدثنا محمد بن فضيل ، عن الأعمش ، عن إبراهيم قال: إذا قال الرجل.. فذكره. قال: وحدثنا أحمد بن منيع ، حدثنا محمد بن حازم ، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم قال: إذا قال الرجل لأخيه: يا خنزير، قال الله له يوم القيامة: تراني خلقته خنزيرا؟! قال: وحدثنا سعيد بن سليمان عن أبي حفص الأبار عن الأعمش عن حكيم بن جبير ، عن ابن عباس أن موسى عليه السلام كان في نفر من بني إسرائيل، فقال: اشربوا يا حمير. فأوحى الله إليه: تقول لخلق من خلقي خلقتهم: اشربوا يا حمير؟! (وعن ابن عباس ) رضي الله عنه قال: ( إن أحدكم يشرك بالله حتى يشركه بكلبه، يقول: لولاه لسرقنا الليلة ) رواه ابن أبي الدنيا عن إسحاق بن إسماعيل ، حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا ابن أبي خالد عن مولى لابن عباس ، عن ابن عباس ، أحسب هكذا، قال: إن أحدكم.. فساقه .

(وقال عمر ) رضي الله عنه: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم . قال عمر ) رضي الله عنه: والله ما حلفت بها منذ سمعتها، رواه ابن أبي الدنيا عن خالد بن خداش ، حدثنا عبد الله بن وهب ، أنبأنا يونس عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله ، عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.. [ ص: 576 ] فذكره، وفيه: ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنها. وقال العراقي : متفق عليه، وقلت: ورواه كذلك أحمد وابن عدي .

وروى أحمد وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي من حديث ابن عمر : لا تحلف بأبيك، ولا تحلف بغير الله؛ فإنه من حلف بغير الله فقد أشرك . ورواه ابن ماجه والبيهقي أيضا: لا تحلفوا بآبائكم، من حلف بالله فليصدق الحديث . ورواه البخاري والنسائي بلفظ: لا تحلفوا بآبائكم . وزاد الحاكم : من حلف بشيء دون الله فقد أشرك . وفي الباب أبو هريرة ، ولفظ حديثه: لا تحلفوا بآبائكم، ولا بأمهاتكم، ولا بالأنداد، ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون . رواه أبو داود والنسائي والبيهقي ، وابن حبان ، وعبد الرحمن بن سمرة ، ولفظ حديثه: لا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت . رواه أحمد والنسائي وابن ماجه ، عن سمرة بن جندب ، ولفظ حديثه: لا تحلفوا بالطواغيت، ولا تحلفوا بآبائكم، واحلفوا بالله؛ فإنه أحب إليه أن تحلفوا به، ولا تحلفوا بشيء من دونه . رواه الطبراني في الكبير عن حبيب بن سليمان بن سمرة ، عن أبيه، عن جده .

وروى عبد الرزاق في المصنف عن قتادة مرسلا: لا تحلفوا بالطواغيت، ولا بآبائكم ولا بالأمانة .

التالي السابق


الخدمات العلمية