إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الفصل الثالث .

من كتاب قواعد العقائد في لوامع الأدلة للعقيدة التي ترجمناها بالقدس .

فنقول :

بسم الله الرحمن الرحيم .

الحمد لله الذي ميز عصابة السنة بأنوار اليقين وآثر رهط الحق بالهداية إلى دعائم الدين وجنبهم زيغ الزائغين وضلال الملحدين ووفقهم للاقتداء بسيد المرسلين وسددهم للتأسي بصحبه الأكرمين ويسر لهم اقتفاء آثار السلف الصالحين حتى اعتصموا من مقتضيات العقول بالحبل المتين ومن سير الأولين وعقائدهم بالمنهج المبين فجمعوا بالقول بين نتائج العقول وقضايا الشرع المنقول .


(الفصل الثالث من كتاب قواعد العقائد في) بيان (لوامع الأدلة للعقيدة التي ترجمناها بالقدس) وسميناها بالرسالة القدسية؛ لكون تأليفها كان حين مجاورته به (فنقول:) بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما، الحمد لله الذي تفرد بوجوب وجوده؛ ففاضت الحوادث عن كرمه وجوده، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد، أفضل موجوده، وأكرم ودوده، الصادق في وعوده، وعلى آله الآيلين إليه في مراتب شهوده، وأصحابه الفائزين لديه بالتمسك في مراقي صعوده .

أما بعد؛ فهذا شرح الرسالة القدسية للإمام حجة الإسلام أبي حامد الغزالي قدس سره، حوى من بدائع المسائل الكلامية ما هو كالفرائد اليتيمة في العقد الفريد من الجيد، رجوت من الله تعالى أن ينفع به كل سالك ومريد، وأن يصرف إليه من الراغبين في إصلاح عقائدهم القلوب، وأن يرفع لديهم قدره المرغوب، وأن يجعله تذكرة لأولي الألباب، لا ينسى ولا يهجر، وروضة نفع للطلاب، لا يترك ولا يضجر، وأن يكسبنا جميعا به ذكرا جميلا، وفي الآخرة ثوابا جزيلا، وها أنا أشرف في المقصود بعون الملك المعبود .

قال المصنف رحمه الله تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم) الباء للاستعانة متعلقة بمحذوف، تقديره أؤلف، ونحوه، وهو يعم جميع أجزاء التأليف؛ فيكون أولى من "أفتتح" ونحوه؛ لإيهام قصر التبرك على الافتتاح فقط، كما حققه البرهان اللقاني: و"الله" علم على الذات الواجب الوجود و"الرحمن" المنعم بجلائل النعم، كمية أو كيفية، و"الرحيم" المنعم بدقائقها كذلك، وقدم الأول لدلالته على الذات، ثم الثاني لاختصاصه به; ولأنه أبلغ من الثالث، فقدم عليه ليكون له كالتتمة والرديف .

(الحمد لله) سبقت مباحث الحمد مبسوطة في شرح خطبة كتاب العلم، فأغنانا عن إيراده ثانيا (الذي ميز عصابة أهل السنة) التمييز: مبالغة في الميز، وهو عزل الشيء وفصله عن غيره، وذلك يكون في المشتبهات، كقوله تعالى: ليميز الله الخبيث من الطيب ، وفي المختلطات، نحو قوله: وامتازوا اليوم أيها المجرمون ، وتميز الشيء: انفصل عن غيره، ويستعمل تمييز الأشياء في تفريقها، والعصابة بالكسر: الجماعة من الناس، والسنة: الطريق المسلوكة، والمراد بها طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم- خاصة، والمراد بأهل السنة هم الفرق الأربعة: المحدثون، والصوفية، والأشاعرة، والماتريدية، على ما تقدم بيانه في مقدمة الفصل الثاني .

(بأنوار اليقين) أي: فصلهم عن غيرهم بهذه الأنوار التي أشرقت في صدورهم، ثم التمعت في وجوههم، فهم بها عن غيرهم متميزون، سيماهم في وجوههم، وأما أهل البدع فلا زالوا يعرفون بظلام قلوبهم ووجوههم، ولتعرفنهم بسيماهم (وآثر) بالمد، أي اختار (رهط الحق) قال ابن السكيت: الرهط والعشيرة بمعنى، وقال الأصمعي في كتاب المصادر: الرهط ما فوق العشرة إلى الأربعين، ونقله ابن فارس أيضا، والحق الثابت الذي لا يسوغ إنكاره، سواء كان قولا أو فعلا أو عقيدة أو دينا أو مذهبا (بالهداية) وهي دلالة بلطف إلى ما يوصل (إلى) المطلوب، وذلك المطلوب هنا إقامة (دعائم الدين) أي: أركانه، جمع دعامة، بالكسر، وهي ما يشد به الحائط إذا مال يمنعه السقوط، والدين وضع إلهي يدعو أصحاب العقول إلى قبول ما هو عند الرسول .

(وجنبهم زيغ الزائغين) الزيغ: الميل عن الاستقامة، والخروج عن نهج الحق، والمراد بالزائغين هم أهل البدع القبيحة الذين أحدثوا في العقائد بمجرد التشهي ما يؤدي إلى تشبيه أو تعطيل (وضلال الملحدين) أي: غوايتهم، والملحد: المائل عن الحق، والإلحاد ضربان: إلحاد إلى الشرك بالله، وإلحاد إلى الشرك بالأسباب، فالأول ينافي الإيمان ويبطله، والثاني أن تتأول أوصافه على ما لا يليق به (ووفقهم) التوفيق: تفعيل من الوفاق، الذي هو المطابقة، وعدم المنافرة، واختص في العرف بالخير (للاقتداء) أي: الاتباع (بيد [ ص: 87 ] المرسلين) النبي -صلى الله عليه وسلم- في سائر أقواله وأفعاله وأحواله .

(وسددهم) ، وهو من السداد، وهو الوفق الذي لا يعاب (للتأسي) أي: الاقتداء والأسوة، بالكسر والضم: القدوة، وقيل: التأسي: اتباع الغائب (بصحبه الأكرمين) أي: المشرفين بمشاهدة أنواره وأسراره .

(ويسر لهم) أي: سهل لهم (اقتفاء) أي: اتباع (آثار السلف الصالحين) من التابعين وأتباعهم بإحسان، وأصل السلف: من تقدم من الآباء والجدود، وفي العرف الطبقة الثالثة، ويطلق على الثانية أيضا (حتى اعتصموا) أي: وثقوا (من مقتضيات) أي: مما تقتضيه (العقول) المجردة عن الشرع (بالحبل المتين) أي: القوي الذي لا ينقطع بمن تعلق به واستمسك، وبهذا المعنى جاءت صفة القرآن في الحديث، وفيه تلميح الرد على المعتزلة والفلاسفة؛ فإنهم تصرفوا في الألفاظ بمقتضى عقولهم؛ فأولوا وبدلوا (و) تمسكوا (من سير الأولين وعقائدهم) على اختلافها (بالمنهج) وفي بعض النسخ: "بالنهج"، وهو الطريق (المبين) الواضح المسلوك، أي: سبروا في سير الأولين ونحلهم التي انتحلوها، فما وافق الكتاب والسنة وآثار السلف أخذوا به، وما خالف تركوه .

(فجمعوا القول بين نتائج العقول) أي: ما تنتجه العقول السليمة عن الأهواء والشكوك (وقضايا الشرع المنقول) أي: التي قضى بها الشرع، ونقل لنا ذلك الثقات، والقضية: قول يصح أن يقال لقائله، صادق أو كاذب فيه، وفيه تلميح إلى رفع شأن أهل النظر والبحث في العقائد على مقتضى الكتاب والسنة، حيث جمعوا بين العقل والنقل .

وقد تقدم النقل عن السبكي في خطبة هذا الكتاب أن اليونان طلبوا العلم بمجرد عقولهم، والمتكلمون طلبوه بالعقل والنقل معا، وافترقوا ثلاث فرق: إحداها غلب عليها جانب العقل، وهم المعتزلة، والثانية غلب عليها جانب النقل، وهم الحشوية، والثالثة غلب الأمران عندها، وهم الأشعرية، وجميع الفرق في كلامها مخاطرة، إما خطأ في بعضه، وإما سقوط هيبة، والسالم عن ذلك كله ما كان عليه الصحابة والتابعون وعموم الناس الباقون على الفطرة السليمة. اهـ .

التالي السابق


الخدمات العلمية