إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
القول في ذم الحسد وفي حقيقته وأسبابه ومعالجته وغاية الواجب في إزالته .

بيان ذم الحسد .

اعلم أن الحسد أيضا من نتائج الحقد ، والحقد من نتائج الغضب فهو فرع فرعه والغضب أصل أصله ثم إن للحسد من الفروع الذميمة ما لا يكاد يحصى ، وقد ورد في ذم الحسد خاصة أخبار كثيرة .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب وقال صلى الله عليه وسلم في النهي عن الحسد، وأسبابه، وثمراته: لا تحاسدوا، ولا تقاطعوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخوانا وقال أنس ، كنا يوما جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يطلع عليكم الآن من هذا الفج رجل من أهل الجنة ، قال : فطلع رجل من الأنصار ينفض لحيته من وضوئه ، قد علق نعليه في يده الشمال ، فسلم ، فلما كان الغد قال صلى الله عليه وسلم مثل ذلك ، فطلع ذلك الرجل ، وقاله في اليوم الثالث ، فطلع ذلك الرجل ، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال له إني لاحيت أبي فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثا فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي الثلاث فعلت ، فقال : نعم ، فبات عنده ثلاث ليال فلم يره يقوم من الليل شيئا ، غير أنه إذا انقلب على فراشه ذكر الله تعالى ولم يقم ، لصلاة الفجر ، قال غير أني ما سمعته يقول إلا خيرا ، فلما مضت الثلاث وكدت أن أحتقر عمله ، قلت : يا عبد الله لم يكن بيني وبين والدي غضب ، ولا هجرة ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا ، وكذا ، فأردت أن أعرف عملك ، فلم أرك تعمل عملا كثيرا فما الذي بلغ بك ذلك ؟ فقال : ما هو إلا ما رأيت ، فلما وليت دعاني ، فقال : ما هو إلا ما رأيت ، غير أني لا أجد على أحد من المسلمين في نفسي غشا ، ولا حسدا على خير أعطاه الله إياه قال ، عبد الله فقلت له : هي التي بلغت بك ، وهي التي لا نطيق وقال صلى الله عليه وسلم ثلاث : لا ينجو منهن أحد ; الظن والطيرة والحسد وسأحدثكم بالمخرج من ذلك إذا ظننت فلا تحقق وإذا تطيرت فامض وإذا حسدت ، فلا تبغ وفي رواية ثلاثة : لا ينجو منهن أحد ، وقل من ينجو منهن فأثبت في هذه الرواية إمكان النجاة ، وقال صلى الله عليه وسلم : دب إليكم داء الأمم قبلكم ; الحسد ، والبغضاء والبغضة هي الحالقة ، لا أقول : حالقة الشعر ، ولكن حالقة الدين ، والذي نفس محمد بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ، ولن تؤمنوا حتى تحابوا ، ألا أنبئكم بما يثبت ذلك لكم ? أفشوا السلام بينكم وقال صلى الله عليه وسلم : كاد الفقر أن يكون كفرا وكاد الحسد أن يغلب القدر .


(القول في ذم الحسد وفي حقيقته وأسبابه ومعالجته وغاية الواجب في إزالته)

(بيان ذم الحسد)

(اعلم) هداك الله (أن الحسد أيضا من نتائج الحقد، والحقد من نتائج الغضب) ، فإن الإنسان إذا غضب حقد، وإذا حقد حسد (فهو) ، أي: الحقد (فرع فرعه) ، أي: نتيجته بالواسطة (والغضب أصل أصله) الذي ينشأ منه، (ثم للحسد) مع كونه فرعا (من الفروع الذميمة ما لا يكاد يحصى، وقد ورد في ذم الحسد خاصة أخبار كثيرة) منها: (قال صلى الله عليه وسلم: الحسد) ، أي: المذموم، وهو تسخط قضاء الله، والاعتراض عليه (يأكل الحسنات) ، قال الطيبي: الأكل هنا استعارة لعدم القبول، وإن حسناته مردودة عليه، وليست بثابتة في ديوان عمله الصالح حتى تحبط (كما تأكل النار الحطب) ، فتعدمه، وتمحوه; وذلك لأن الحسد اعتراض على الله، فيما لا عذر للعبد فيه; لأنه لا تضره نعمة الله على عبده، والله لا يعبث، ولا يضع الشيء في غير محله، فكأنه نسب ربه للجهل والسفه، ولم يرض بقضائه; فلذلك ردت حسناته من ديوان الأعمال .

قال العراقي: رواه أبو داود من حديث أبي هريرة، وابن ماجه من حديث أنس، وقد تقدم .

قلت: وعند ابن ماجه: والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، والصلاة والصوم والإيمان جنة من النار.

سنده ضعيف، وقد تقدم الكلام في ذلك، وأخرجه الخطيب بسند حسن .

(وقال صلى الله عليه وسلم في النهي عن الحسد، وأسبابه، وثمراته: لا تحاسدوا، ولا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانا) ، فإن التباغض من أسباب الحسد، والتقاطع والتدابر من ثمراته ونتيجته.

أخرجه أحمد، والبخاري، ومسلم، وفي رواية مسلم: لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا .

[ ص: 51 ] المسلم أخو المسلم...
الحديث بطوله، وبلفظ المصنف رواه ابن أبي شيبة في المصنف من حديث أبي بكر، وقد تقدم الكلام فيه في كتاب آداب الصحبة، (وقال أنس) - رضي الله عنه -: (كنا يوما جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يطلع عليكم الآن من هذا الفج) ، وهو الطريق في الجبل (رجل من أهل الجنة، قال: فطلع رجل من الأنصار تنطف) ، أي: تقطر (لحيته من وضوئه، قد علق نعليه في يده الشمال، فسلم، فلما كان من الغد قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل، وقاله في اليوم الثالث، فطلع ذلك الرجل، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص) ، وقد كان حاضرا في تلك المجالس في المرات الثلاث يسمع منه صلى الله عليه وسلم قوله فيه (فقال) لذلك الرجل: (إني لاحيت أبي) ، أي: خاصمته في أمر (فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثا) ، أي: ثلاث ليال، (فإن رأيت أن تؤويني إليك) ، أي: تضمني إلى بيتك (حتى تمضي) الثلاث ليال (فعلت، فقال: نعم، فبات عنده ثلاث ليال) يراعي أحواله في حركاته وسكناته، (فلم يره يقوم من الليل شيئا، غير أنه إذا انقلب على فراشه ذكر الله تعالى، ولا يقوم حتى يقوم لصلاة الفجر، قال) عبد الله بن عمرو: (غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرا ، فلما مرت الثلاث) الليال، (وكدت أن أحتقر عمله، قلت: يا عبد الله) ناداه بأعم أسمائه، فإن الخلق كلهم عبد الله (لم يكن بيني وبين والدي غضب، ولا هجرة) ، أي: مهاجرة (ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا، وكذا، فأردت أن أعرف عملك، فلم أرك تعمل عملا كثيرا) يوجب تلك البشارة (فما الذي بلغ بك ذلك، قال: ما هو إلا ما رأيت، فلما وليت) بظهري (دعاني، فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد على أحد من المسلمين في نفسي عنتا، ولا حسدا على خير أعطاه الله إياه، فقال عبد الله) بن عمرو (فقلت له: هي التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق) .

رواه ابن أبي الدنيا في كتاب ذم الحسد، وقال العراقي: رواه أحمد بسند صحيح على شرط الشيخين، ورواه البزار، وسمى الرجل في رواية له: سفيان، فيها ابن لهيعة. انتهى .

قلت: وجدت بخط الحافظ في هامش المغني عند قوله: صحيح على شرط الشيخين ما لفظه: له علة، فإن الزهري لم يسمعه عن أنس، فيما يقال. ا ه .

والمسمى بسفيان في الأنصار من الصحابة ثلاثة: سفيان بن نصر بن زيد الخزرجي، وسفيان بن ثابت الأنصاري، وسفيان بن أمية الظفري، فالله أعلم أيهم أراده البزار؟ (وقال صلى الله عليه وسلم: ثلاثة لا ينجو منهن أحد; الظن) ، أي: سوء الظن بالناس (والطيرة) ، أي: التطير، وهو التشاؤم (والحسد) لذوي النعم على ما منحهم الله تعالى، (وسأحدثكم بالمخرج من ذلك) قالوا: أخبرنا يا رسول الله، قال: (إذا ظننت فلا تحقق) مقتضى ظنك، (وإذا تطيرت) من شيء (فامض) لمقصدك، (وإذا حسدت، فلا تبغ) ، أي: لا تجاوز الحد .

رواه ابن أبي الدنيا أيضا في كتاب ذم الحسد من حديث أبي هريرة، وفيه يعقوب بن محمد الزهري، وموسى بن يعقوب بن محمد الزهري، وموسى بن يعقوب الزمعي، ضعفهما الجمهور (وفي رواية: ثلاث لا ينجو منهن أحد، وقل من ينجو منهن) رواها ابن أبي الدنيا أيضا من رواية عبد الرحمن بن معاوية، وهو مرسل ضعيف، وتقدم في آفات اللسان حديث حارثة بن النعمان: ثلاث لازمات لأمتي; سوء الظن، والحسد، والطيرة، فإذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدت فاستغفر الله تعالى، وإذا تطيرت فامض.

رواه أبو الشيخ في التوبيخ، والطبراني في الكبير، وروى رستة في كتاب الإيمان له من مرسل الحسن بلفظ: ثلاث لم تسلم منها هذه الأمة: الحسد، والظن، والطيرة.

ألا أنبئكم بالمخرج منها؟ إذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدت فلا تبغ، وإذا تطيرت فامض (فأثبت في هذه الرواية إمكان النجاة، وقال صلى الله عليه وسلم: دب إليكم داء الأمم قبلكم; الحسد، والبغضاء) كانوا يتحاسدون، ويتباغضون (والبغضة هي الحالقة، لا أقول: حالقة الشعر، ولكن حالقة الدين، والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولن [ ص: 52 ] تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أنبئكم بما يثبت ذلك لكم؟ أفشوا السلام بينكم) .

رواه الطيالسي، وأحمد، وابن منيع، وعبد بن حميد، والترمذي، وابن أبي الدنيا، والشاشي، وابن قانع، وابن عبد البر في جامع العلم، والبيهقي، والضياء المقدسي، كلهم من طريق مولى للزبير، عن الزبير بن العوام مرفوعا .

(وقال صلى الله عليه وسلم: كاد الفقر) ، أي: مع الاضطرار إلى ما لا بد منه - كما سيأتي للمصنف - (أن يكون كفرا) ، أي: قارب أن يوقع في الكفر; لأنه يحمل على حسد الأغنياء، والحسد يأكل الحسنات، وعلى التذلل لهم بما يدنس به عرضه، ويثلم به دينه، وعلى عدم الرضا بالقضاء، وتسخط الرزق، وذلك إن لم يكن كفرا، فهو جار إليه، وقيل: المراد كاد أن يكفر نعمة الفقر؛ لثقل تحملها على النفس، وذلك لأن الفقر نعمة من الله داع إلى الإنابة، والالتجاء إليه، والطلب منه، وهو حلية الأنبياء، وزينة الأولياء، وزي الصلحاء، ومن ثم ورد في الخبر: إذا رأيت الفقر مقبلا، فقل مرحبا بشعار الصالحين، فهو نعمة جليلة، بيد أنه مؤلم شديد التحمل، (وكاد الحسد أن يغلب القدر) ، أي: كاد الحسد في قلب الحاسد أن يغلب العلم بالقدر، فلا يرى أن النعمة التي حسد عليها أنها صارت إليه بقدر الله، وقضائه، كما أنها لا تزول إلا بقضائه، وقدره، وغرض الحاسد زوال نعمة المحسود، ولو تحقق لم يحسده، واستسلم وعلم أن الكل بقدر .

قال العراقي: رواه أبو مسلم الكشي ، والبيهقي في الشعب من رواية يزيد الرقاشي ، عن أنس، ويزيد ضعيف، ورواه الطبراني في الأوسط من وجه آخر بلفظ: كادت الحاجة أن تكون، وفيه ضعف أيضا. انتهى .

قلت: قال الحافظ السخاوي في المقاصد: رواه أحمد بن منيع من طريق يزيد الرقاشي ، عن الحسن، أو أنس به مرفوعا، وهو عند أبي نعيم في الحلية، وأبي مسلم الكشي، وأبي علي بن السكن في مصنفه، والبيهقي في الشعب، وابن عدي في الكامل من طريق يزيد، عن الحسن بلا شك، وفي لفظ عند بعضهم: أن يسبق بدل أن يغلب، ويزيد ضعيف، ورواه الطبراني من طريق عمر بن عثمان الكلابي، عن عيسى بن يونس، عن سليمان التيمي، عن أنس مرفوعا، ولفظه: كاد الحسد أن يسبق القدر، وكادت الحاجة أن تكون كفرا، وفيه ضعف أيضا. انتهى .

قلت: وفي الميزان: يزيد الرقاشي تالف، وقد رواه أبو نعيم من طريق المسيب بن واضح، عن يوسف بن أسباط، عن سفيان، عن حجاج بن الفرافصة ، عن يزيد، وحجاج قال أبو زرعة: ليس بقوي، وقال الزركشي: لكن يشهد له ما خرجه النسائي، وابن حبان، وصححه من طريق أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري مرفوعا أنه كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر، فقال رجل: ويعتدلان؟ قال: نعم.

انتهى، وفي الحلية في ترجمة عكرمة أن لقمان قال لابنه: قد ذقت المرار، فليس شيء أمر من الفقر، وقال العسكري في الأمثال: ولا تكاد العرب تجمع بين كاد وأن، وبذلك نزل القرآن، ولكن كذا يرويه أصحاب الحديث .

هكذا نقله السخاوي، وفي الإنصاف لابن الأنباري: لا تستعمل أن مع كاد في اختيار; ولذلك لم يأت في القرآن، ولا في كلام فصيح; فأما حديث: كاد الفقر أن يكون كفرا، فإن صح فزيادة أن من كلام الراوي .

انتهى، وقال النووي: إثبات أن مع كاد جائز، ولكنه قليل، وقال ابن مالك: وقوع خبر كاد مقرونا بأن قد خفي على أكثر النحاة، والصحيح جوازه، لكنه قليل; ولذلك لم يقع في القرآن، لكن عدم وقوعه فيه لا يمنع من استعماله قياسا.

(لطيفة)

قال المناوي في شرحه: قد ألغز أبو العلاء المعري في لفظة كاد، فقال:


أنحوي هذا العصر ما هي لفظة لساني جرهم وثمود     إذا ما نفت والله أعلم أثبتت
وإن أثبتت قامت مقام جحود

قال الشهاب الحجازي: فلم أر أحدا أجاب، فقلت:


لقد كاد هذا اللغز يصدئ فكرتي     وما كدت أشفي علتي بورود
وهذا جواب يرتضيه ذوو النهى     وممتنع عن فهم كل بليد

وهذا الجواب لغز أيضا، وقد أوضحه بعضهم بقوله:


أشار الحجازي الإمام الذي حوى     علوما زكت من طارف وتليد
[ ص: 53 ] إلى كاد إفصاحا لذي الفضل والنهى     وأبهم أفكارا لكل بليد

.

التالي السابق


الخدمات العلمية