إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقال عيسى عليه السلام : لا تتخذوا الدنيا ربا فتتخذكم عبيدا ، اكنزوا كنزكم عند من لا يضيعه ، فإن صاحب كنز الدنيا يخاف عليه الآفة ، وصاحب كنز الله لا يخاف عليه الآفة وقال عليه أفضل الصلاة والسلام : يا معشر الحواريين ، إني قد كببت لكم الدنيا على وجهها ، فلا تنعشوها بعدي ، فإن من خبث الدنيا أن عصي الله فيها ، وإن من خبث الدنيا أن الآخرة لا تدرك إلا بتركها ، ألا فاعبروا الدنيا ، ولا تعمروها ، واعلموا أن أصل كل خطيئة حب الدنيا ، ورب شهوة ساعة أورثت أهلها حزنا طويلا .

وقال أيضا بطحت لكم الدنيا وجلستم على ظهرها فلا ينازعنكم فيها الملوك والنساء ، فأما الملوك ، فلا تنازعوهم الدنيا ; فإنهم لن يعرضوا لكم ما تركتموهم ودنياهم ، وأما النساء فاتقوهن بالصوم والصلاة وقال أيضا الدنيا طالبة ومطلوبة ; فطالب الآخرة تطلبه الدنيا حتى يستكمل فيها رزقه وطالب الدنيا تطلبه الآخرة حتى يجيء الموت فيأخذ بعنقه وقال موسى ابن يسار قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله عز وجل لم يخلق خلقا أبغض إليه من الدنيا وإنه ، منذ خلقها لم ينظر إليها .

وروي أن سليمان بن داود عليهما السلام مر في موكبه والطير تظله والجن والإنس عن يمينه وشماله ، قال : فمر بعابد من بني إسرائيل ، فقال : والله يا ابن داود لقد آتاك الله ملكا عظيما ، قال : فسمع سليمان وقال : لتسبيحة في صحيفة مؤمن خير مما أعطي ابن داود فإن ما أعطي ابن داود يذهب ، والتسبيحة تبقى .

وقال صلى الله عليه وسلم : ألهاكم التكاثر ، يقول ابن آدم : مالي ، مالي ، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأبقيت وقال صلى الله عليه وسلم إن : الدنيا دار من لا دار له ومال من لا مال له ولها يجمع من لا عقل له وعليها يعادي من لا علم له ، وعليها يحسد من لا فقه له ، ولها يسعى من لا يقين له وقال صلى الله عليه وسلم : من أصبح والدنيا أكبر همه ، فليس من الله في شيء وألزم الله قلبه أربع خصال هما لا ينقطع عنه أبدا ، وشغلا لا يتفرغ منه أبدا ، وفقرا لا يبلغ غناه أبدا ، وأملا لا يبلغ منتهاه أبدا .


(وقال عيسى - عليه السلام -: لا تتخذوا الدنيا ربا فتتخذكم عبيدا، اكنزوا كنزكم عند من لا يضيعه، فإن صاحب كنز الدنيا يخاف عليه الآفة، وصاحب كنز الله لا يخاف عليه الآفة) .

أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب ذم الدنيا .

(وقال - عليه السلام - أيضا: يا معشر الحواريين، إني قد أكببت لكم الدنيا على وجهها، فلا تنعشوها بعدي، فإن من خبث الدنيا أن الله عصي فيها، وإن من خبث الدنيا أن الآخرة لا تدرك إلا بتركها، ألا فاعبروا الدنيا، ولا تعمروها، واعلموا أن أصل كل خطيئة حب الدنيا، ورب شهوة ساعة ورثت أهلها حزنا طويلا) .

أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب ذم الدنيا، وفي الحلية لأبي نعيم من ترجمة الثوري، قال عيسى - عليه السلام -: حب الدنيا رأس كل خطيئة، وقد تقدم .

وفي الفردوس للديلمي بلا سند من حديث ابن عمر: الدنيا منظرة الآخرة فاعبروها، ولا تعمروها.

(وقال) - عليه السلام - أيضا: (بطحت لكم الدنيا) ، أي: مهدت وفرشت (وجلستم على ظهرها فلا ينازعنكم فيها الملوك والنساء، فأما الملوك، فلا تنازعوهم الدنيا; فإنهم لن يتعرضوا لكم ما تركتموهم ودنياهم، وأما النساء فاتقوهن بالصوم والصلاة) .

أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب ذم الدنيا .

(وقال) - عليه السلام -: أيضا (الدنيا طالبة ومطلوبة; فطالب الآخرة تطلبه الدنيا حتى يستكمل رزقه) الذي كتب له فيها (وطالب [ ص: 83 ] الدنيا تطلبه الآخرة حتى يجيء الموت فيأخذه بعنقه) .

أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب ذم الدنيا، وقد رواه صاحب الحلية من حديث ابن مسعود مرفوعا، قال: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا جبرون بن عيسى المصري، حدثنا يحيى بن سليمان، حدثنا فضيل بن عياض، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أسر في قلبه حب الدنيا التاط فيها بثلاثة: شقاء لا ينفد، وحرص لا يبلغ مناه، وأمل لا يبلغ منتهاه، فالدنيا طالبة ومطلوبة، فمن طلب الدنيا طلبته الآخرة حتى يأتيه الموت فيأخذ بعنقه، ومن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستوفي منها رزقه.

قال أبو نعيم: غريب من حديث فضيل، والأعمش، وحبيب: لم نكتبه إلا من حديث جبرون، عن يحيى.

(قال موسى بن يسار) القرشي المطلبي المدني مولى قيس بن مخرمة، وهو عم محمد بن إسحاق بن يسار، قال ابن معين: ثقة، وذكره ابن حبان في كتاب الثقات، استشهد به البخاري، وروى له الباقون سوى الترمذي.

(قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله جل ثناؤه لم يخلق خلقا أبغض إليه من الدنيا، وإنه منذ خلقها لم ينظر إليها) نظر رضا، وإلا فهو ينظر إليها نظر تدبير، ولولا ذلك لاضمحلت .

رواه ابن أبي الدنيا في ذم الدنيا، عن موسى أنه بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فذكره .

قال العراقي: ورواه البيهقي في الشعب من طريقه، وهو مرسل .

قلت: ورواه الحاكم في التاريخ مرفوعا من حديث أبي هريرة بلفظ: إن الله لم يخلق خلقا أبغض إليه من الدنيا، وما نظر إليها منذ خلقها بغضا لها، وفي إسناده داود بن المحبر، قال أحمد والنسائي: متروك، وروى ابن عساكر في التاريخ من مرسل علي بن الحسين بن علي: إن الله تعالى لما خلق الدنيا أعرض عنها، فلم ينظر إليها من هوانها عليه .

ومن حديث أبي هريرة مرفوعا: إن الله لما خلق الدنيا نظر إليها، ثم أعرض عنها، ثم قال: وعزتي وجلالي لا أنزلتك إلا في شرار خلقي.

(وروي أن سليمان بن داود - عليهما السلام - مر في موكبه) ، أي: في زينته وحشمته مع عسكره (والطير تظله) عن حر الشمس (والجن والإنس عن يمينه وشماله، قال: فمر بعابد من عباد بني إسرائيل، فقال: والله يا ابن داود لقد آتاك الله ملكا عظيما، قال: فسمع سليمان) - عليه السلام - ذلك (فقال: لتسبيحة في صحيفة مؤمن خير مما أعطي ابن داود) يعني نفسه (فإن ما أعطي ابن داود يذهب، والتسبيحة تبقى) .

أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب ذم الدنيا، وقال صاحب الحلية: حدثنا أحمد بن جعفري، حدثنا عبد الله بن أحمد، حدثنا أحمد بن محمد بن أيوب، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن إدريس بن وهب، حدثني أبي قال: كان لسليمان - عليه السلام - ألف بيت من قوارير، وأسفله حديد، فركب الريح يوما فمر بحراث، فنظر إليه الحراث، فقال: لقد أوتي آل داود ملكا عظيما، فحملته الريح لسليمان، قال: فنزل حتى [...]، فقال: إني سمعت قولك، لتسبيحة واحدة لله تعالى منك خير مما أعطيه ابن داود، فقال الحراث: ذهب همك كما أذهب همي .

(وقال صلى الله عليه وسلم: ألهاكم التكاثر، يقول ابن آدم: مالي، مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت) .

قال العراقي: رواه مسلم من حديث عبد الله بن الشخير. انتهى .

قلت: وكذلك رواه الطيالسي، وسعيد بن منصور، وأحمد، وعبد بن حميد، والترمذي، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، والحاكم، وابن حبان، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية، كلهم من طريق مطرف بن عبد الله بن الشخير ، عن أبيه، ولفظهم: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: ألهاكم التكاثر ، وفي لفظ: وقد أنزلت عليه ألهاكم التكاثر ، وهو يقول: ابن آدم... إلخ .

وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، ومسلم، وابن مردويه من حديث أبي هريرة يقول العبد: مالي، مالي، وإنما له من ماله ثلاثة: ما أكل فأفنى، وما لبس فأبلى، أو تصدق فأبقى، وما سوى ذلك فهو ذاهب، وتاركه للناس.

وأخرج عبد بن حميد، عن الحسن مرسلا مرفوعا: يقول ابن آدم: مالي، وما له من ماله إلا ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فأمضى.

(وقال صلى الله عليه وسلم: الدنيا دار من لا دار له) ، قال الطيبي: لما كان القصد الأول من الدار الإقامة مع عيش هني أبدي، والدنيا بخلافه لم تستحق أن تسمى دارا، فمن داره الدنيا، فلا دار [ ص: 84 ] له .

وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ، قال عيسى - عليه السلام -: من ذا الذي يبني على البحر دارا، ذلكم الدنيا، فلا تتخذوها قرارا (ومال من لا مال له) ; لأن القصد من المال الإنفاق في وفرة القرب، فمن أتلفه في شهواته، واستيفاء لذاته، فحقيق بأن يقال: لا مال له، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ; ولذلك قدم الظرف على عامله في قوله: (ولها يجمع من لا عقل له) لغفلته عما يهمه في الآخرة، ويراد منه في الدنيا، والعاقل إنما يجمع للدار الآخرة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى (وعليها يعادي من لا علم عنده، وعليها يحسد من لا فقه له، ولها يسعى من لا يقين له) .

قال العراقي: رواه أحمد من حديث عائشة مقتصرا على قوله: دار من لا دار له، ولها يجمع من لا عقل له دون بقيته .

وزاد ابن أبي الدنيا، والبيهقي في الشعب من طريقه، ومال من لا مال له. انتهى .

قلت: رواه أحمد من طريق ذويد، عن أبي إسحاق، عن عروة، عن عائشة، ورجاله رجال الصحيح غير ذويد، وهو ثقة .

رواه البيهقي أيضا من حديث ابن مسعود موقوفا، قال المنذري: وإسناده جيد .

(وقال صلى الله عليه وسلم: من أصبح والدنيا أكبر همه، فليس من الله في شيء) ، أي: لا حظ له في قربه ومحبته ورضاه .

رواه ابن أبي الدنيا من حديث أنس، ورواه الطبراني في الأوسط من حديث أبي ذر، والحاكم من حديث حذيفة .

قال العراقي: وكلها ضعيفة، ورواه هنا أيضا عن حذيفة، وعند الحاكم من حديث ابن مسعود بسند فيه تالف بلفظ: من أصبح وهمه غير الله، فليس من الله، ومن أصبح لا يهتم بالمسلمين، فليس منهم، ورواه البيهقي، وابن النجار من حديث أنس بلفظ: وأكبر همه .

(وقال صلى الله عليه وسلم: من أصبح، والدنيا أكبر همه ألزم الله قلبه أربع خصال) لا ينفك من واحدة حتى يأتيه الموت (هما لا ينقطع منه أبدا، وشغلا لا يتفرغ منه أبدا، وفقرا لا يبلغ غناه أبدا، وأملا لا يبلغ منتهاه أبدا) .

رواه الديلمي في الفردوس من حديث ابن عمر.

قال العراقي: وإسناده ضعيف، والمصنف خلط الحديثين، فجعلهما حديثا واحدا .

التالي السابق


الخدمات العلمية