إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقال أبو هريرة قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا هريرة ألا أريك الدنيا جميعها بما فيها فقلت بلى يا رسول الله ، فأخذ بيدي ، وأتى بي واديا من أودية المدينة ، فإذا مزبلة فيها رؤوس أناس ، وعذرات وخرق ، وعظام ، ثم قال : يا أبا هريرة ، هذه الرؤوس كانت تحرص كحرصكم ، وتأمل كأملكم ، ثم هي اليوم عظام بلا جلد ، ثم هي صائرة رمادا ، وهذه العذرات هي ألوان أطعمتهم ، اكتسبوها من حيث اكتسبوها ، ثم قذفوها في بطونهم ، فأصبحت والناس يتحامونها وهذه الخرق البالية كانت رياشهم ، ولباسهم ، فأصبحت والرياح تصفقها ، وهذه العظام عظام دوابهم التي كانوا ينتجعون عليها أطراف البلاد ، فمن كان باكيا على الدنيا فليبك ، قال : فما برحنا حتى اشتد بكاؤنا .

ويروى أن الله عز وجل لما أهبط آدم إلى الأرض قال له ابن للخراب ، ولد للفناء .

وقال داود بن هلال مكتوب في صحف إبراهيم عليه السلام : يا دنيا ، ما أهونك على الأبرار الذين تصنعت ، وتزينت لهم . إني قذفت في قلوبهم بغضك والصدود ، عنك ، وما خلقت خلقا أهون علي منك . كل شأنك صغير ، وإلى الفناء يصير . قضيت عليك يوم خلقتك أن لا تدومي لأحد ، ولا يدوم لك أحد ، وإن بخل بك صاحبك ، وشح عليك طوبى للأبرار الذين أطلعوني من قلوبهم على الرضا ، ومن ضميرهم على الصدق ، والاستقامة ، طوبى لهم ما لهم عندي من الجزاء إذا وفدوا إلي من قبورهم إلا النور يسعى أمامهم ، والملائكة حافون بهم حتى أبلغهم ما يرجون من رحمتي وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الدنيا موقوفة بين السماء والأرض منذ خلقها الله تعالى لم ينظر إليها ، وتقول يوم القيامة : يا رب ، اجعلني لأدنى أوليائك اليوم نصيبا ، فيقول : اسكتي يا لا شيء ، إني لم أرضك لهم في الدنيا أرضاك لهم اليوم .

وروي في أخبار آدم عليه السلام أنه لما أكل من الشجرة تحركت معدته لخروج الثفل ولم يكن ذلك مجعولا في شيء من أطعمة الجنة إلا في هذه الشجرة ، فلذلك نهيا عن أكلها ، قال : فجعل يدور في الجنة فأمر الله تعالى ملكا يخاطبه ، فقال له : قل له : أي شيء تريد ? قال آدم : أريد أن أضع ما في بطني من الأذى ، فقيل للملك : قل له : في أي مكان تريد أن تضعه أعلى الفرش ، أم على السرر ، أم على الأنهار ، أم تحت ظلال الأشجار ? هل ترى ههنا مكانا يصلح لذلك ؟ اهبط إلى الدنيا .


(وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة ألا أريك الدنيا جميعا بما فيها؟ قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بيدي، وأتى بي واديا من أودية المدينة، فإذا مزبلة فيها رؤوس ناس، وعذرات) جمع عذرة على وزن كلمة الخرء، ولا يعرف تخفيفها (وخرق، وعظام، ثم قال: يا أبا هريرة، هذه الرؤوس كانت تحرص كحرصكم، وتأمل آمالكم، ثم هي اليوم عظام بلا جلد، ثم هي صائرة رمادا، وهذه العذرات ألوان أطعمتهم، اكتسبوها من حيث اكتسبوها، ثم قذفوها من بطونهم، فأصبحت والناس يتحامونها) ، أي: يتباعدون عنها (وهذه الخرق البالية كانت لرياشهم، ولباسهم، فأصبحت والرياح تصفقها، وهذه العظام عظام دوابهم التي كانوا ينتجعون عليها أطراف البلاد، أي: يسيرون، ويقطعون، فمن كان باكيا على الدنيا فليبك، قال: فما برحنا حتى اشتد بكاؤنا) .

قال العراقي: لم أجد له أصلا .

قلت: لكن أورده صاحب القوت، عن الحسن مرسلا بنحوه، وسيأتي في أمثله الدنيا .

(وروي أن الله - عز وجل - لما أهبط آدم - عليه السلام - إلى الأرض قال) له (ابن للخراب، ولد للفناء) روى البيهقي في الشعب من رواية مؤمل بن إسماعيل، عن حماد بن سلمة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن أبي هريرة مرفوعا: إن ملكا بباب من أبواب السماء ينادي: يا بني آدم، لدوا للموت، وابنوا للخراب.

وروي أيضا من طريق موسى بن عبيدة، عن محمد بن ثابت، عن أبي حكيم مولى الزبير، عن الزبير رفعه: ما من صباح يصبح على العباد إلا وصارخ يصرخ: لدوا للموت، واجمعوا للفناء، وابنوا للخراب.

وموسى، وشيخه ضعيفان، وأبو حكيم مجهول، ولأبي نعيم في الحلية من حديث ابن وهب، عن يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن زحر أن أبا ذر، قال: تلدون للموت، وتبنون للخراب، وتؤثرون ما يفنى، وتتركون ما يبقى، وهو موقوف منقطع، وقد رواه أحمد في الزهد له من رواية ابن المبارك، عن أبي أيوب فأدخل بين عبيد الله، وأبي ذر رجلا .

وأخرج الثعلبي في التفسير، وفي القصص بإسناد واه جدا، عن كعب الأحبار، قال: صاح ورشان عند سليمان بن داود - عليهما السلام -، فقال: أتدرون ما يقول هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: يقول: لدوا للموت، [ ص: 85 ] وابنوا للخراب .

وأخرج أحمد في الزهد من طريق عبد الواحد بن زياد، قال: قال عيسى بن مريم - عليه السلام -: يا بني آدم، لدوا للموت ، وابنوا للخراب، تفنى نفوسكم، وتبلى دياركم .

وقد قيل في معنى ذلك:


له ملك ينادي كل يوم لدوا للموت وابنوا للخراب

وللحافظ ابن حجر في المعنى:


بني الدنيا أقلوا الهم فيها     فما فيها يؤول إلى الفوات
بناء للخراب وجمع مال     ليفنى والتوالد للممات

(وقال داود بن هلال) لم أجد له ترجمة: (مكتوب في صحف إبراهيم - عليه السلام -: يا دنيا، ما أهونك على الأبرار الذين تصنعت، وتزينت لهم. إني قذفت في قلوبهم بغضك، والصد عنك، وما خلقت خلقا أهون علي منك .

كل شأنك صغير، وإلى الفناء تصيرين .

قضيت عليك يوم خلقتك أن لا تدومي لأحد، ولا يدوم أحد لك، وإن بخل بك صاحبك، وشح عليك طوبى للأبرار الذين أطلعوني من قلوبهم على الرضا، ومن ضميرهم على الصدق، والاستقامة، طوبى لهم ما لهم عندي من الجزاء إذا وفدوا إلي من قبورهم إلا النور يسعى أمامهم، والملائكة حامون بهم حتى أبلغهم ما يرجون من رحمتي) .

أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب ذم الدنيا .

(وقال صلى الله عليه وسلم: الدنيا موقوفة بين السماء والأرض منذ خلقها الله تعالى لا ينظر إليها، وتقول يوم القيامة: يا رب، اجعلني لأدنى أوليائك نصيبا اليوم، فيقول: اسكتي يا لا شيء، إني لم أرضك لهم في الدنيا أرضاك لهم اليوم؟) ، ولفظ القوت: وجاء في الخبر أن الدنيا موقوفة بين السماء والأرض، لا ينظر الله إليها منذ خلقها إلى أن يفنيها، تقول: يا رب، لم تبغضني؟ لم تمقتني؟ فيقول تعالى: اسكتي يا لا شيء، وفي لفظ آخر: أنت وأهلك إلى النار.

وفي الحديث الآخر زيادة: إنها تبعث يوم القيامة، فيقول تعالى: ميزوا ما كان منها لي، وألقوا سائرها في النار، فتقول: يا رب اجعلني اليوم لأدنى عبادك في الجنة منزلة، فيقول: اسكتي يا لا شيء، أنا لم أرضك لهم في الدنيا أرضاك لهم اليوم عندي في دار كرامتي؟ انتهى .

وأخرج أبو نعيم في الحلية من طريق هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن علي بن الحسين، قال: قال علي بن أبي طالب: إذا كان يوم القيامة أتت الدنيا بأحسن زينتها، ثم قالت: يا رب، هبني لبعض أوليائك، فيقول الله لها: يا لا شيء اذهبي، فأنت لا شيء، أنت أهون من أن أهبك لبعض أوليائي، فتطوى كما يطوى الثوب الخلق، فتلقى في النار.

وسيأتي للمصنف بعض هذا في هذا الباب، وفيه التصريح بأنه من قول أبي هريرة، وقال العراقي: تقدم بعضه من رواية موسى بن بشار، ولم أجد باقيه. انتهى .

قلت: ووجد بخط الحافظ ابن حجر ما نصه: لابن ماجه نحوه، عن ثوبان (وروي في أخبار آدم - عليه السلام - أنه لما أكل من الشجرة تحركت معدته لخروج الثفل) بالضم الثخين الذي يبقى أسفل الصافي، (ولم يكن ذلك مجعولا في شيء من أطعمة الجنة إلا في هذه الشجرة، فلذلك نهيا عن أكلها، قال: فجعل يدور في الجنة فأمر الله ملكا يخاطبه، فقال: قل له: أي شيء تريد؟ قال) له (آدم: أريد أن أضع ما في بطني من الأذى، فقيل للملك: قل له: في أي مكان تضعه; على الفراش، أم على السرر، أم على الأنهار، أم تحت ظلال الأشجار؟ هل ترى ههنا موضعا يصلح لذلك؟ ولكن اهبط إلى الدنيا) ، قال: فتلطف الله تعالى بهذا المعنى، فأهبط إلى الأرض، فكان أول ما صنع في الأرض أن أحدث، فصارت الدنيا كنيف العقلاء، وسجن النبلاء .

هكذا أورده صاحب القوت .

التالي السابق


الخدمات العلمية