إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان صفة الدنيا بالأمثلة .

اعلم أن الدنيا سريعة الفناء قريبة الانقضاء تعد بالبقاء ثم تخلف في الوفاء تنظر إليها ، فتراها ساكنة مستقرة ، وهي سائرة سيرا عنيفا ومرتحلة ارتحالا سريعا ، ولكن الناظر إليها قد لا يحس بحركتها فيطمئن إليها ، وإنما يحس عند انقضائها ، ومثالها الظل ، فإنه متحرك ساكن متحرك في الحقيقة ساكن الظاهر ، لا تدرك حركته بالبصر الظاهر ، بل بالبصيرة الباطنة ولما ذكرت الدنيا عند الحسن البصري رحمه الله أنشد ، وقال:


أحلام نوم أو كظل زائل إن اللبيب بمثلها لا يخدع

وكان الحسن بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يتمثل كثيرا ويقول .

يا أهل لذات دنيا لا بقاء لها إن اغترارا بظل زائل حمق وقيل إن هذا من قوله ويقال إن أعرابيا : نزل بقوم ، فقدموا إليه طعاما ، فأكل ، ثم قام إلى ظل خيمة لهم ، فنام هناك فاقتلعوا الخيمة فأصابته الشمس ، فانتبه ، فقام وهو يقول .

ألا :

إنما الدنيا كظل بنيته     ولا بد يوما أن ظلك زائل

وكذلك قيل :


وإن امرأ دنياه أكبر همه     لمستمسك منها بحبل غرور

.


(بيان صفة الدنيا بالأمثلة)

(اعلم) هداك الله تعالى (أن الدنيا سريعة الفناء) ، أي: تفنى سريعا (قريبة الانقضاء) ، أي: تنقضي قريبا (تعد) محبيها (بالبقاء) ، أي: تمنيهم بأنهم يبقون فيها (ثم تخلف الوفاء) ، وهذا معنى قول علي - رضي الله عنه - في بعض خطبه، ووعدها خلف (تنظر إليها، فتراها ساكنة مستقرة، وهي سائرة سيرا عنيفا) ، أي: شديدا (ومرتحلة ارتحالا سريعا، ولكن الناظر إليها قد لا يحس بحركتها فيطمئن إليها، وإنما يحس عند انقضائها، ومثالها الظل، فإنه متحرك ساكن) ، أي: متصف بوصفين: التحرك والسكون، باعتبارين مختلفين (متحرك في الحقيقة) ، ولولا ذلك لما انتقل (ساكن في الظاهر، ولكن لا تدرك حركته بالبصر الظاهر، بل بالبصيرة الباطنة) ، وقد جاء تشبيهها به في كلام علي - رضي الله عنه -، وغيره، تارة بالظل الزائل، وتارة بالفيء المائل، ومنه قول الشاعر:


إنما الدنيا كظل زائل

(ولما ذكرت الدنيا عند الحسن البصري - رحمه الله تعالى - أنشد، وقال) :


(أحلام نوم أو كظل زائل     إن اللبيب بمثلها لا يخدع)

وكان الحسن بن علي - رضي الله عنهما - يتمثل، ويقول:


يا أهل لذات دنيا لا بقاء لها     إن اغترارا بظل زائل حمق

(وكان يرى أنه من قوله) ، أي: هو الذي أنشأه (ويقال: نزل أعرابي بقوم، فقدموا إليه طعاما، فأكل، ثم قام إلى ظل خيمة لهم، فنام هناك فاقتلعوا الخيمة فأصابته الشمس، فانتبه من النوم، فقام وهو يقول:


إلا إنما الدنيا كظل بنيته     ولا بد يوما أن ظلك زائل)

(وكذلك قيل:


وإن امرأ دنياه أكبر همه     لمستمسك منها بحبل غرور )

.

هكذا أنشده الأصمعي، وله قصة .

(مثال آخر للدنيا) (اعلم أن الدنيا من حيث التغرير بخيالاتها) ، أي: إيقاع الغرور بما يتخيل منها، (ثم الإفلاس منها بعد إفلاتها) ، أي: اليأس منها بعد شرودها (تشبه خيالات المنام وأضغاث الأحلام) ، وهي أخلاط منامات، واحدها ضغث حلم من ذلك; لأنه يشبه الرؤيا الصادقة، وليس بها، (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الدنيا حلم، وأهلها عليها مجازون، ومعاقبون) .

قال العراقي: لم أجد له أصلا .

(وقال يونس بن عبيد) بن دينار العبسي أبو عبيد البصري، ثقة ثبت، فاضل ورع، مات سنة تسعة وثلاثين، روى له الجماعة: (ما شبهت نفسي في الدنيا إلا كرجل نائم، فرأى في منامه ما يكره، فبينما هو كذلك; إذ انتبه) من نومه (فكذلك الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا، فإذا ليس بأيديهم مما ركنوا إليه، وفرحوا به) ، وقوله: الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا، هو من قول علي - رضي الله عنه - قاله السخاوي في المقاصد، ورواه أبو نعيم في الحلية من طريق المعافى بن عمران، عن سفيان الثوري من قوله: (وقيل لبعض الحكماء) : أي شيء أشبه بالدنيا؟ قال: أحلام النائم .

التالي السابق


الخدمات العلمية