إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وحكي أن قوما من العرب جاءوا إلى قبر بعض أسخيائهم للزيارة ، فنزلوا عند قبره ، وباتوا عنده ، وقد كانوا جاءوا من سفر بعيد ، فرأى رجل منهم في النوم صاحب القبر وهو يقول له : هل لك أن تبادل بعيرك بنجيبي وكان السخي الميت قد خلف نجيبا معروفا به ; ولهذا الرجل بعير سمين ، فقال له في النوم : نعم فباعه في النوم بعيره بنجيبه فلما وقع بينهما العقد عمد هذا الرجل إلى بعيره ، فنحره في النوم ، فانتبه الرجل من نومه ، فإذا الدم يثج من نحر بعيره ، فقام الرجل ، فنحره ، وقسم لحمه فطبخوه ، وقضوا حاجتهم منه ، ثم رحلوا ، وساروا ، فلما كان اليوم الثاني ، وهم في الطريق استقبلهم ركب ، فقال رجل منهم : من فلان بن فلان منكم باسم ذلك الرجل فقال أنا ، فقال له : هل بعت من فلان بن فلان شيئا ، وذكر الميت صاحب القبر قال : نعم بعت بعيري بنجيبه في النوم ، فقال : خذ هذا نجيبه ، ثم قال : هو أبي ، وقد رأيته في النوم ، وهو يقول : إن كنت ابني فادفع نجيبي إلى فلان بن فلان ، وسماه .

وقدم رجل من قريش من السفر ، فمر برجل من الأعراب على قارعة الطريق قد أقعده الدهر وأضر به المرض ، فقال : يا هذا ، أعنا على الدهر ، فقال الرجل لغلامه : ما بقي معك من النفقة فادفعه إليه ، فصب الغلام في حجر الأعرابي أربعة آلاف درهم ، فذهب لينهض فلم يقدر من الضعف فبكى ، فقال له الرجل : ما يبكيك ? لعلك استقللت ما أعطيناك ، قال : لا ، ولكن ذكرت ما تأكل الأرض من كرمك فأبكاني .

واشترى عبد الله بن عامر من خالد بن عقبة بن أبي معيط داره التي في السوق بتسعين ألف درهم ، فلما كان الليل سمع بكاء أهل خالد ، فقال لأهله : ما لهؤلاء ? قالوا : يبكون لدارهم فقال : يا غلام ، ائتهم فأعلمهم أن المال والدار لهم جميعا .

وقيل بعث : هارون الرشيد إلى مالك بن أنس رحمه الله بخمسمائة دينار فبلغ ذلك الليث بن سعد فأنفذ إليه ألف دينار ، فغضب هارون ، وقال أعطيه : خمسمائة ، وتعطيه ألفا ، وأنت من رعيتي ? فقال : يا أمير المؤمنين ، إن لي من غلتي كل يوم ألف دينار فاستحييت أن أعطي مثله أقل من دخل يوم وحكي أنه لم تجب عليه الزكاة مع أن دخله كل يوم ألف دينار وحكي أن امرأة سألت الليث بن سعد رحمة الله عليه شيئا من عسل فأمر لها بزق من عسل ، فقيل له : إنها كانت تقنع بدون هذا ، فقال : إنها سألت على قدر حاجتها ونحن نعطيها ، على قدر النعمة علينا وكان الليث بن سعد لا يتكلم كل يوم حتى يتصدق على ثلثمائة وستين مسكينا .

وقال الأعمش اشتكت شاة عندي ، فكان خيثمة بن عبد الرحمن يعودها بالغداة والعشي ، ويسألني هل استوفت علفها ? وكيف صبر الصبيان منذ فقدوا لبنها ? وكان تحتي لبد أجلس عليه ، فإذا خرج ، قال : خذ ما تحت اللبد حتى وصل إلي في علة الشاة أكثر من ثلثمائة دينار من بره حتى تمنيت أن الشاة لم تبرأ .

وقال عبد الملك بن مروان لأسماء بن خارجة بلغني عنك خصال فحدثني بها ، فقال : هي من غيري أحسن منها مني فقال عزمت عليك إلا حدثتني بها فقال : يا أمير المؤمنين ، ما مددت رجلي بين يدي جليس لي قط ، ولا صنعت طعاما قط فدعوت عليه قوما إلا كانوا أمن علي مني عليهم ، ولا نصب لي رجل وجهه قط يسألني شيئا فاستكثرت شيئا أعطيه إياه .

ودخل سعيد بن خالد على سليمان بن عبد الملك وكان سعيد رجلا جوادا فإذا لم يجد شيئا كتب لمن سأله صكا على نفسه حتى يخرج عطاؤه فلما نظر إليه سليمان تمثل بهذا البيت فقال .


إني سمعت مع الصباح مناديا يا من يعين على الفتى المعوان

ثم قال : ما حاجتك ? قال : ديني ، قال : وكم هو ? قال : ثلاثون ألف دينار ، قال : لك دينك ، ومثله .

وقيل : مرض قيس بن سعد بن عبادة فاستبطأ إخوانه فقيل له : إنهم يستحيون مما لك عليهم من الدين ، فقال : أخزى الله مالا يمنع الإخوان من الزيارة ، ثم أمر مناديا ، فنادى : من كان عليه لقيس بن سعد حق ، فهو منه بريء . قال فانكسرت درجته بالعشي لكثرة من زاره وعاده .

عن أبي إسحاق قال : صليت العصر في مسجد الأشعث بالكوفة أطلب غريما لي ، فلما صليت ، وضع بين يدي حلة ونعلان ، فقلت : لست من أهل هذا المسجد فقالوا : إن الأشعث بن قيس الكندي قدم البارحة من مكة ، فأمر لكل من صلى في المسجد بحلة ونعلين .

وقال الشيخ أبو سعد الحركوشي النيسابوري رحمه الله سمعت محمد بن محمد الحافظ يقول : سمعت الشافعي المجاور بمكة يقول : كان بمصر رجل عرف بأن يجمع للفقراء شيئا ، فولد لبعضهم مولود قال فجئت إليه وقلت له ولد لي ، مولود ، وليس معي شيء ، فقام معي ودخل على جماعة ، فلم يفتح بشيء ، فجاء إلى قبر رجل ، وجلس عنده ، وقال : رحمك الله ; كنت تفعل ، وتصنع وإني درت اليوم على جماعة فكلفتهم دفع شيء لمولود ، فلم يتفق لي شيء . قال : ثم قام ، وأخرج دينارا وقسمه ، نصفين ، وناولني نصفه ، وقال : هذا دين عليك إلى أن يفتح الله عليك بشيء ، قال : فأخذته ، وانصرفت ، فأصلحت ما اتفق لي به قال ، فرأى ذلك المحتسب تلك الليلة ذلك الشخص في منامه ، فقال : سمعت جميع ما قلت ، وليس لنا إذن في الجواب ، ولكن احضر منزلي ، وقل لأولادي يحفروا مكان الكانون ، ويخرجوا قرابة فيها خمسمائة دينار فاحملها ، إلى هذا الرجل ، فلما كان من الغد تقدم إلى منزل الميت ، وقص عليهم القصة ، فقالوا له : اجلس ، وحفروا الموضع ، وأخرجوا الدنانير ، وجاءوا بها فوضعوها بين يديه ، فقال هذا مالكم ، وليس لرؤياي حكم ، فقالوا : هو يتسخى ميتا ، ولا نتسخى نحن أحياء ، فلما ألحوا عليه حمل الدنانير إلى الرجل صاحب المولود ، وذكر له القصة ، قال : فأخذ منها دينارا فكسره نصفين ، فأعطاه النصف الذي أقرضه ، وحمل النصف الآخر ، وقال : يكفيني هذا ، وتصدق به على الفقراء ، فقال أبو سعيد : فلا أدري ، أي هؤلاء أسخى .


(وحكي أن قوما من العرب جاءوا إلى قبر بعض أسخيائهم) ممن كان مشهورا بالجواد (للزيارة، فنزلوا عند قبره، وباتوا عنده، وقد كانوا جاءوا من سفر بعيد، فرأى رجل منهم في النوم صاحب القبر وهو يقول له: هل لك أن تبادل بعيرك ببختي) بالضم نوع من الإبل، ويجمع على البخت، والبخاتي، قال الشاعر:


لبن البخت في قصاع الخلنج

(وقد كان خلف السخي الميت بختيا معروفا; ولهذا الرجل بعير سمين، فقال له في النوم: نعم) أبادله (وباعه في النوم بعيره) الذي يركبه (ببختيه) الذي خلفه (فلما وقع بينهم العقد عمد هذا الرجل إلى بعيره، فنحره في النوم، فانتبه الرجل من نومه، فإذا الدم يثج) ، أي: ينبعث (من نحر بعيره، فقام الرجل من النوم، فنحره، وقسم لحمه فطبخوا، وقضوا حاجتهم من الأكل، ثم رحلوا، وساروا، فلما كان اليوم الثاني، وهم في الطريق استقبلهم ركب، فقال رجل منهم: من فلان بن فلان منكم) ، وسماه (باسم ذلك الرجل) ، واسم أبيه (فقال) الرجل: (أنا، فقال: هل بعت من فلان شيئا، وذكر) اسم (الميت صاحب القبر) الذي باتوا عنده (قال: نعم بعت منه بعيري ببختيه في النوم، فقال: خذ هذا بختيه، ثم قال: هو) ، أي: صاحب القبر (أبي، وقد رأيته في النوم، وهو يقول لي: إن كنت ابني فادفع بختي إلى فلان، وسماه) .

أخرجه أبو الحسن المدائني في أخبار الأسخياء .

(وقدم رجل من قريش من السفر، فمر برجل من الأعراب على قارعة الطريق) ، أي: وسطها (قد أقعده الدهر وأضر به المرض، فقال: يا هذا، أعنا على) نوائب (الدهر، فقال الرجل لغلامه: ما بقي معك من النفقة فادفعه إليه، فصب الغلام في حجر الأعرابي أربعة آلاف درهم، فذهب لينهض) ، أي: يقوم (فلم يقدر من الضعف فبكى، فقال له الرجل: ما يبكيك؟ لعلك استقللت ما أعطيناك، قال: لا، ولكن ذكرت ما تأكل الأرض من كرمك فأبكاني) .

أخرجه أبو الحسن المدائني.

(واشترى عبد الله بن عامر) بن كريز العبسي القرشي - تقدم ذكره قريبا - (من خالد بن عقبة بن أبي معيط) بن أبي عمر بن أمية بن عبد شمس الأموي أخو الوليد، كان من مسلمة الفتح، ونزل الرقة، وبها ولده، وذكره صاحب تاريخها، فيمن نزلها من الصحابة، وله أثر في حصار عثمان يوم الدار (داره التي في السوق) بالمدينة (بتسعين ألف درهم ، فلما كان الليل سمع عبد الله بكاء أهل خالد، فقال لأهله: ما لهؤلاء؟ قالوا: يبكون لدارهم، قال: يا غلام، ائتهم فأعلمهم أن الدار والمال لهم جميعا) .

أخرجه أبو الحسن المدائني.

(وقيل: أنفذ هارون الرشيد إلى) أبي عبد الله (مالك بن أنس) الإمام (رحمه الله خمسمائة دينار) هدية (فبلغ ذلك الليث بن سعد) أبا الحارث الفهري المصري الفقيه - رحمه الله تعالى - (فأنفذ إليه ألف دينار، فغضب هارون لما بلغه ذلك، وقال: أعطيه خمسمائة، وتعطيه ألفا، وأنت من رعيتي؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن لي من غلتي) التي أستغلها من أرضي (كل يوم ألف دينار) ، أي: عبرته (واستحييت أعطي مثله) في جلالة قدره (أقل من دخل يوم) نقله محمد بن صالح الأشج، وقال أيضا: قدم منصور بن عمار على الليث فوصله بألف دينار، واحترق بيت عبد الله بن لهيعة، فوصله بألف دينار، وقال شعيب بن الليث: خرجت مع أبي حاجا، فقدم المدينة فبعث إليه مالك بطبق رطب، فجعل على الطبق ألف دينار، ورده إليه، وقال ابن وهب: كان الليث يصل مالكا بمائة دينار في كل سنة، وكتب مالك إليه: إن علي دينا، فبعث إليه بخمسمائة دينار، وعنه قال: كتبت إلى الليث: إني أجهز ابنتي على زوجها، فبعث إلي بشيء من [...] قال: فبعث إليه [...] عصفرا، فصنع منه بخمسمائة دينار، وبقي [ ص: 187 ] عنده فضلة .

(وحكي أنه لم تجب عليه الزكاة مع أن دخله كل يوم ألف دينار) ، وروى محمد بن رمح، قال: كان دخل الليث في كل سنة ثمانين ألف دينار إلى خمسة وعشرين ألفا تأتي عليه السنة، وعليه دين، وقال شعيب بن الليث: يستغل أبي في السنة ما بين عشرين ألف دينار إلى خمسة وعشرين ألفا، تأتي عليه السنة وعليه دين، وقال أبو سعيد بن يونس: وكانت غلته من قرية قرقشنده على أربعة فراسخ من مصر، وبها كانت ولادته (وروي أن امرأة) فقيرة (سألت الليث بن سعد شيئا من عسل) في سكرجة (فأمر لها بزق من عسل، فقيل له: إنها كانت تقنع بدون هذا، فقال: إنها سألت على قدر حاجتها، ونعطيها على قدر النعمة علينا) لنتخلق بخلق الله تعالى، فإنه يعطي الحسنة إذا هم بها العبد أجرا، فإذا عملها أعطاه عشرا إلى سبعمائة، والله يضاعف لمن يشاء، وهذا في الرسالة القشيرية.

(وكان الليث بن سعد) سريا من الرجال نبيلا سخيا (لا يتكلم كل يوم حتى يتصدق على ثلاثمائة وستين مسكينا) ، وله مناقب جمة أوردها الذهبي في تاريخ الإسلام، ومنها قال الحارث بن مسكين: اشترى قوم من الليث ثمرة، فاستغلوها، فاستقالوه فأقالهم، وأمر لهم بخمسين دينارا، فقيل له في ذلك، فقال: إنهم قد كانوا أملوا فيه أملا، فأحببت أن أعوضهم من أملهم بهذا - رحمه الله تعالى -، ونفعنا به .

(وقال) سليمان بن مهران (الأعمش) الكوفي - رحمه الله تعالى - (اشتكت شاة عندي، فكان خيثمة بن عبد الرحمن) بن أبي بسرة الجعفي الكوفي، لأبيه وجده صحبة، قال العجلي: وكان خيثمة رجلا صالحا، وكان سخيا، ولم ينج من فتنة ابن الأشعث بالكوفة إلا رجلان: إبراهيم النخعي وخيثمة، وقد تقدم له ذكر في آداب الصحبة (يعودها بالغداة والعشي، ويسألني هل استوفت علفها؟ وكيف صبر الصبيان منذ فقدوا لبنها؟) ، قال الأعمش: (وكان تحتي لبد أجلس عليه، فإذا خرج، قال: خذ ما تحت اللبد) فآخذه (حتى وصل إلي في علة الشاة أكثر من ثلاثمائة دينار من بره) ، وصلته (حتى تمنيت أن الشاة لم تبرأ) مات خيثمة سنة ثمانين قبل أبي وائل، روى له الجماعة .

(وقال عبد الملك بن مروان) بن الحكم الأموي (لأسماء بن خارجة) بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري، نزيل الكوفة ابن أخي عيينة بن حصن، لأبيه وعمه صحبة (بلغني عنك خصال فحدثني بها، فقال: هي من غيري أحسن منها مني) ، قال عبد الملك: (عزمت عليك إلا حدثتني بها، قال: يا أمير المؤمنين، ما مددت رجلي بين يدي جليس لي قط، ولا صنعت طعاما قط فدعوت عليه قوما إلا كانوا أمن علي مني عليهم، ولا نصب لي رجل وجهه قط ليسألني شيئا فاستكثرت شيئا أعطيه إياه) .

أخرجه المدائني.

(ودخل سعيد بن خالد) بن عمرو بن عثمان بن عفان القرشي الأموي أبو خالد، ويقال له: أبو عثمان المدني، سكن دمشق، وكانت داره ناحية سوق القمح، وأمه أم عثمان بنت سعيد بن العاص، ذكره ابن حبان في الثقات، روى له مسلم حديثا واحدا (على سليمان بن عبد الله) بن مروان (وكان سعيد رجلا جوادا) ممدوحا، قال الزبير بن بكار: من أكثر الناس مالا، وله ولد كثير، وله يقول الفرزدق:


وكل امرئ يرضى وإن كان ملا     إذا نال نصفا من سعيد بن خالد
له من قريش طيبوها وفيضها     وإن عض كفى أمه كل حاسد

(فإن لم يجد شيئا كتب لمن سأله صكا على نفسه) ، والصك الكتاب الذي تكتب فيه المعاملات والأقارير، وجمعه صكوك وأصك، وهو فارسي معرب، وكانت الأرزاق تكتب صكاكا، فتخرج مكتوبة، فتباع، فنهي عن شراء الصكاك (حتى يخرج عطاؤه) من الديوان، فلما نظر إليه سليمان تمثل بهذا البيت:


( إني سمعت مع الصباح مناديا     يا من يعين على الفتى المعوان

ثم قال: ما حاجتك؟ قال: ديني، قال: وكم هو؟ قال: ثلاثون ألف دينار، قال: لك دينك، ومثله) .

أخرجه أبو الحسن المدائني (وقيل: مرض قيس بن سعد بن عبادة) الخزرجي الأنصاري - رضي الله عنه - (فاستبطأ إخوانه) الذين كانوا [ ص: 188 ] يأتونه (فقيل: إنهم يستحيون مما لك عليهم من الدين، فقال: أخزى الله مالا يمنع الإخوان من الزيارة، ثم أمر مناديا، فنادى: من كان عليه لقيس بن سعد حق، فهو منه في حل .

قال) الواقدي: (فكسرت درجته) من الازدحام (بالمشي لكثرة من عاده) .

نقله القشيري في الرسالة .

(وعن أبي إسحاق) عمرو بن عبد الله الحمداني السبيعي الكوفي مات سنة 129 (قال: صليت) صلاة (الفجر في مسجد الأشعث) بن قيس بن معدي كرب الكندي الصحابي أبي محمد، نزل الكوفة، وكان سريا سخيا، مات سنة أربعين، وله دار ومسجد (بالكوفة أطلب غريما لي، فلما صليت، وضع بين يدي حلة ونعلان، فقلت: لست من أهل هذا المسجد، فقيل: إن الأشعث بن قيس الكندي قدم البارحة من مكة، فأمر لكل من صلى في المسجد بحلة ونعلين) .

أخرجه المدائني رواية عن أبي إسحاق، وهو في الرسالة للقشيري بنحوه، ولم يقل: عن أبي إسحاق.

(وقال الشيخ أبو سعيد) عبد الملك بن محمد بن إبراهيم (الخركوشي النيسابوري رحمه الله) ، وخركوش سكة بنيسابور، الزاهد الواعظ الفقيه الشافعي، رحل إلى العراق، والحجاز، ومصر، وجالس العلماء، وصنف التصانيف المفيدة في علوم الشريعة، ودلائل النبوة، وسير العباد .

روى عن أبي عمرو بن نجيد السلمي، وأبي سهل بشر بن أحمد الإسفرايني، وعنه الحاكم أبو عبد الله، وأبو محمد الخلال، وتفقه على أبي الحسن الماسرجسي ، وجاور بمكة عدة سنين، وعاد إلى نيسابور، وبذل النفس والمال للغرباء والفقهاء، وبنى بمارستان، ووقف عليه الوقوف الكثيرة، وتوفي سنة تسع وأربعمائة بنيسابور (سمعت محمد بن محمد الحافظ يقول: سمعت الشافعي المجاور بمكة يقول: كان بمصر رجل عرف بأن يجمع للفقراء شيئا، فولد لبعضهم ولد، قال: فجئت إليه، فقلت له: ولد مولود، وليس معي شيء، فقام معي فدخل على جماعة، فلم يفتح بشيء، فجاء إلى قبر رجل، وجلس عنده، وقال: رحمك الله; كنت تفعل، وتصنع) ، وذكر من أمور الخير (وإني درت اليوم على جماعة كلفتهم دفع شيء لمولود، فلم يتفق لي شيء .

قال: ثم قام، وأخرج دينارا، فكسره نصفين، وناولني نصفه، وقال: هذا دين عليك إلى أن يفتح عليك بشيء، قال: فأخذته، وانصرفت، فأصلحت ما اتفق لي به، فرأى ذلك المحتسب تلك الليلة ذلك الشخص في منامه، فقال: سمعت جميع ما قلت، وليس لنا إذن في الجواب، ولكن احضر منزلي، وقل لأولادي يحفروا مكان الكانون، ويخرجوا قرابة فيها خمسمائة دينار، احملها إلى هذا الرجل .

قال: فلما كان من الغد تقدم إلى منزل الميت، وقص عليهم القصة، فقالوا له: اجلس، وحفروا الموضع، وأخرجوا الدنانير، وجاءوا بها فوضعوها بين يديه، فقال) المحتسب: (هذا مالكم، وليس لرؤياي حكم، فقالوا: هو يسخى ميتا، ولا نسخى نحن أحياء، فلما ألحوا عليه حمل الدنانير إلى الرجل صاحب المولود، وذكر له القصة، قال: فأخذ منها دينارا، وكسره بنصفين، فأعطاه النصف الذي أقرضه، وحمل النصف الآخر، وقال: يكفيني هذا، وتصدق به على الفقراء، فقال أبو سعيد: فلا أدري، أي هؤلاء أسخى) ! الميت أم أولاده أم المحتسب أم صاحب المولود، والذي يظهر أن صاحب المولود أسخى هؤلاء، فإنه جاد وآثر مع شدة احتياجه .

ومما يشبه هذه الحكاية ما حكى أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي الكاتب، قال: كنت عند الوزير أبي محمد المهلبي ذات يوم، فدخل الحاجب، فاستأذن للشريف المرتضى الموسوي، فأذن له، فلما دخل قام إليه وأكرمه، وأجلسه معه في دسته، وأقبل عليه يحدثه، فلما فرغ من حكايته ومهماته قام، فقدم إليه وودعه وخرج، فلم يكن ساعة حتى دخل الحاجب، واستأذن للشريف الرضي أخيه، وكان الوزير قد ابتدأ بكتابة رقعة، فألقاها، وقام كالمندهش حتى استقبله من دهليز الدار، وأخذ بيده، وأعظمه، وأجلسه معه في دسته، ثم جلس بين يديه متواضعا، وأقبل عليه [ ص: 189 ] بمجامعه، فلما خرج الرضي خرج معه يشيعه إلى باب الدار، ثم رجع، فلما خف المجلس، قلت: أيأذن الوزير - أعزه الله - أن أسأل عن شيء؟ قال: نعم، وكأني بك تسأل عن زيادتي في إعظام الرضي على أخيه المرتضى، والمرتضى أسن وأعلم، فقلت: نعم، أيد الله الوزير، فقال: اعلم أنا أمرنا بحفر النهر الفلاني، وللشريف المرتضى على ذلك النهر ضيعة، فتوجه عليه مقدار ستة عشر درهما، أو نحوه، فكاتبني بعدة رقاع يسأل في تخفيف ذلك المقدار عنه، وأما أخوه الرضي فبلغني أنه ذات يوم قد ولد له غلام فأرسلت إليه بطبق فيه ألف دينار فرده، وقال: قد علم الوزير أني لا أقبل من أحد شيئا، فرددته إليه، وقلت: يفرقه الشريف على ملازميه من طلاب العلم، فلما جاء الطبق، وحوله طلاب العلم، وقال: ها هم حضور، فليأخذ كل واحد منهم ما يريد، فقام رجل منهم وأخذ دينارا فقرض من جانبه قطعة وأمسكها، ورد الدينار إلى الطبق، فسأله الشريف عن ذلك، فقال: إني احتجت إلى دهن السراج ليلة، ولم يكن الخازن حاضرا، فاقترضت من فلان البقال دهنا للسراج، فأخذت هذه القطعة لأدفعها إليه، وكان طلبة العلم الملازمون للشريف في دار قد اتخذها لهم سماها دار العلم، وعين إليهم جميع ما يحتاجون إليه، فلما سمع الرضي ذلك أمر في الحال بأن يتخذ للخزانة مفاتيح بعدد الطلبة، ويدفع إلى كل منهم مفتاح ليأخذ ما يحتاج إليه لا ينظر خازنا، ورد الطبق على هذه الصورة، فكيف لا أعظم من هذه حاله .

التالي السابق


الخدمات العلمية