إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان حد السخاء والبخل وحقيقتهما .

لعلك تقول : قد عرف بشواهد الشرع أن البخل من المهلكات ، ولكن ما حد البخل ? وبماذا يصير الإنسان بخيلا ? وما من إنسان إلا وهو يرى نفسه سخيا ، وربما يراه غيره بخيلا ، وقد يصدر فعل من إنسان فيختلف فيه الناس ، فيقول قوم : هذا بخل ، ويقول آخرون : ليس هذا من البخل .

وما من إنسان إلا ويجد من نفسه حبا للمال ولأجله يحفظ المال ويمسكه ، فإن كان يصير بإمساك المال بخيلا ، فإذا لا ينفك أحد عن البخل .

وإذا كان الإمساك مطلقا لا يوجب البخل ، ولا معنى للبخل إلا الإمساك ، فما البخل الذي يوجب الهلاك وما حد السخاء الذي يستحق به العبد صفة السخاوة ، وثوابها ؟ فنقول : قد قال قائلون : حد البخل منع الواجب فكل من أدى ما يجب عليه فليس ببخيل ، وهذا غير كاف فإن من يرد اللحم مثلا إلى القصاب ، والخبز للخباز بنقصان حبة ، أو نصف حبة فإنه يعد بخيلا بالاتفاق .

وكذلك من يسلم إلى عياله القدر الذي يفرضه القاضي ، ثم يضايقهم في لقمة ازدادوها عليه ، أو تمرة أكلوها من ماله يعد بخيلا .

ومن كان بين يديه رغيف ، فحضر من يظن أنه يأكل معه فأخفاه عنه عد بخيلا .

وقال قائلون : البخيل هو الذي يستصعب العطية وهو أيضا قاصر فإنه إن أريد به أنه يستصعب كل عطية ، فكم من بخيل لا يستصعب العطية القليلة كالحبة ، وما يقرب منها ، ويستصعب ما فوق ذلك ، وإن أريد به أنه يستصعب بعض العطايا فما من جواد إلا وقد يستصعب بعض العطايا ، وهو ما يستغرق جميع ماله ، أو المال العظيم .

فهذا لا يوجب الحكم بالبخل .

وكذلك تكلموا في الجود فقيل : الجود عطاء بلا من ، وإسعاف من غير رؤية .

وقيل : الجود عطاء من غير مسألة على رؤية التقليل .

وقيل : الجود السرور بالسائل ، والفرح بالعطاء لما أمكن .

وقيل : الجود عطاء على رؤية أن المال لله تعالى ، والعبد لله عز وجل فيعطي ، عبد الله مال الله على غير رؤية الفقر .

وقيل من : أعطى البعض وأبقى البعض ، فهو صاحب سخاء ، ومن بذل الأكثر ، وأبقى لنفسه شيئا ، فهو صاحب جود ، ومن قاسى الضر ، وآثر غيره بالبلغة ، فهو صاحب إيثار ، ومن لم يبذل شيئا ، فهو صاحب بخل .

وجملة هذه الكلمات غير محيطة بحقيقة الجود والبخل ، بل نقول : المال خلق لحكمة ومقصود ، وهو صلاحه لحاجات الخلق ، ويمكن إمساكه عن الصرف إلى ما خلق للصرف إليه ، ويمكن بذله بالصرف إلى ما لا يحسن الصرف إليه ، ويمكن التصرف فيه بالعدل ، وهو أن يحفظ حيث يجب الحفظ ، ويبذل حيث يجب البذل .

فالإمساك حيث يجب البذل بخل ، والبذل حيث يجب الإمساك تبذير .

وبينهما وسط ، وهو المحمود وينبغي أن يكون السخاء والجود عبارة عنه ; إذ لم يؤمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالسخاء ، وقد قيل له : ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط وقال تعالى : والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ، فالجود وسط بين الإسراف والإقتار ، وبين البسط والقبض ، وهو أن يقدر بذله وإمساكه بقدر الواجب ، ولا يكفي أن يفعل ذلك بجوارحه ما لم يكن قلبه طيبا به غير منازع له فيه .

فإن بذل في محل وجوب البذل ، ونفسه تنازعه ، وهو يصابرها ، فهو متسخ وليس بسخي بل ينبغي أن لا يكون لقلبه علاقة مع المال إلا من حيث يراد المال له ، وهو صرفه إلى ما يجب صرفه إليه .

فإن قلت : فقد صار هذا موقوفا على معرفة الواجب ، فما الذي يجب بذله .

؟ فأقول إن : الواجب قسمان : واجب بالشرع ، وواجب بالمروءة والعادة .

والسخي هو الذي لا يمنع واجب الشرع ، ولا واجب المروءة ، فإن منع واحدا منهما ، فهو بخيل ، ولكن الذي يمنع واجب الشرع أبخل كالذي يمنع أداء الزكاة ويمنع عياله وأهله النفقة أو يؤديها ولكنه يشق عليه فإنه بخيل بالطبع ، وإنما يتسخى بالتكلف أو الذي يتيمم الخبيث من ماله ولا يطيب قلبه أن يعطي من أطيب ماله ، أو من وسطه فهذا كله بخل .

وأما واجب المروءة ، فهو ترك المضايقة ، والاستقصاء في المحقرات فإن ذلك مستقبح واستقباح ذلك يختلف بالأحوال والأشخاص .

فمن كثر ماله استقبح منه ما لا يستقبح من الفقير من المضايقة ويستقبح من الرجل المضايقة مع أهله ، وأقاربه ، ومماليكه ما لا يستقبح مع الأجانب ، ويستقبح من الجار ما لا يستقبح مع البعيد ، ويستقبح في الضيافة من المضايقة ما لا يستقبح في المعاملة فيختلف ذلك بما فيه من المضايقة في ضيافة ، أو معاملة ، وبما به المضايقة من طعام ، أو ثوب ; إذ يستقبح في الأطعمة ما لا يستقبح في غيرها ، ويستقبح في شراء الكفن مثلا ، أو شراء الأضحية أو شراء خبز الصدقة ما لا يستقبح في غيره من المضايقة .

وكذلك بمن معه المضايقة من صديق ، أو أخ ، أو قريب ، أو زوجة أو ولد ، أو أجنبي .

وبمن منه المضايقة من صبي ، أو امرأة ، أو شيخ ، أو شاب ، أو عالم ، أو جاهل ، أو موسر أو فقير .

فالبخيل هو الذي يمنع حيث ينبغي أن لا يمنع إما بحكم الشرع وإما بحكم المروءة وذلك لا يمكن التنصيص على مقداره .


(بيان حد السخاء والبخل وحقيقتهما)

(لعلك تقول: قد عرف بشواهد الشرع أن البخل من المهلكات، ولكن ما حد البخل؟ وبماذا يصير الإنسان بخيلا؟ وما من إنسان إلا وهو يرى نفسه سخيا، وربما يراه غيره بخيلا، وقد يصدر فعل من إنسان فيختلف فيه الناس، فيقول قوم: هذا بخل، ويقول آخرون: ليس هذا من البخل، وما من إنسان إلا ويجد في نفسه حبا للمال) ، ويضطر إليه (ولأجله يحفظ المال) عن البذل (ويمسكه، فإن كان يصير بإمساك المال بخيلا، فإذا لا ينفك أحد من البخل، وإذا كان الإمساك مطلقا لا يوجب البخل، ولا معنى للبخل إلا الإمساك، فما البخل الذي يوجب الهلاك) ، ويورث العقوبة والذم؟ (وما حد السخاء الذي يستحق العبد به صفة السخاوة، وثوابها؟ فنقول: قد قال قائلون: حد البخل ) في الشرع (منع الواجب) ، وعند العرب منع السائل بما يفضل عنده (فكل من أدى ما وجب عليه فليس ببخيل، وهذا غير كاف) في فهم المرام (فإن من يرد اللحم مثلا إلى القصاب، والخبز إلى الخباز) بعد ما اشتراهما (لنقصان حبة، أو نصف حبة) كما فعله مروان بن أبي حفصة في اللحم لما دعاه صاحبه (فإنه يعد بخيلا [ ص: 204 ] بالاتفاق) مع أنه لم يمنع الواجب، (وكذلك من يسلم إلى عياله القدر الذي يفرضه القاضي، ثم يضايقهم في لقمة زادوها عليه، أو ثمرة أكلوها من ماله عد بخيلا) مع أنه لم يضايق في القدر الواجب (ومن كان بين يديه رغيف، فحضر من يظن أنه يأكل معه فأخفاه عنه عد بخيلا) مع أن إشراكه في الرغيف لم يكن مما يجب حتى يكون إخفاؤه عنه بخلا .

(وقال قائلون: البخيل هو الذي يستصعب العطية) ، أي: يعدها صعبة على نفسه .

وقال صاحب الرسالة: حقيقة الجود أن لا يصعب عليه البذل (وهو أيضا قاصر) في فهم المرام (فإنه إن أريد به أنه يستصعب كل عطية، فكم من بخيل لا يستصعب العطية القليلة كالحبة، وما يقرب منها، ويستصعب ما فوقه، وإن أريد به أنه يستصعب بعض العطايا) لا كلها (فما من جواد إلا وقد يستصعب بعض العطايا، وهو ما يستغرق جميع ماله، أو المال العظيم) الذي له صورة (وهذا لا يوجب الحكم بالبخل، وكذلك تكلموا في الجود) واختلفوا فيه (فقيل: الجود عطاء بلا من، وإسعاف من غير رؤية) ، أي: لا يمن في عطائه، ولا يرى في نفسه أنه أسعف .

(وقيل: الجود عطاء من غير مسألة) ، بل يكون ابتداؤه (على رؤية التقليل) بأن يرى ما أعطاه قليلا (وقيل: الجود السرور بالسائل، والفرح بالعطاء لما أمكن) ، وقيل: الجود هو لين النفس بالعطاء، وسعة القلب للمواساة، وهذا نقله ابن العربي (وقيل: الجود عطاء على رؤية أن المال لله تعالى، والعبد لله تعالى، فيعطي عبد الله مال الله على غير رؤية الفقر) ، وهو قول لبعض الصوفية .

وقيل: الجود هو إجابة الخاطر الأول، وقيل: الجود إفادة ما يفنى لا لغرض (وقيل: ما أعطى البعض وأبقى البعض، فهو صاحب سخاء، ومن بذل الأكثر، وأبقى لنفسه شيئا، فهو صاحب جود، ومن قاسى الضراء، وآثر غيره بالبلغة، فهو صاحب إيثار، ومن لم يبذل شيئا، فهو صاحب بخل) ، وهذا القول نقله القشيري في الرسالة عن شيخه الأستاذ أبي علي الدقاق.

وقال بعضهم: السخاء إخراج العبد بعض ما يملكه بسهولة، والإيثار إخراجه جميع ما يملكه بسهولة مع حاجته إليه، وهذا القول بمعنى الذي نقله القشيري.

(وجملة هذه الكلمات غير محيطة بحقيقة البخل، والجود، بل نقول: المال خلق لحكمة ومقصود، وهو صلاحه لحاجات الخلق، ويمكن إمساكه عن الصرف إلى ما خلق للصرف إليه، ويمكن بذله بالصرف إلى ما لا يحسن الصرف إليه، ويمكن التصرف فيه بالعدل، وهو أن يحفظ حيث يجب الحفظ، ويبذل حيث يجب البذل، فالإمساك حيث يجب البذل بخل، والبذل حيث يجب الإمساك تبذير، وبينهما وسط، وهو المحمود) ، ومنه قول ابن الوردي:


بين تبذير وبخل رتبة وكلا هذين إن زاد قتل

(وينبغي أن يكون السخاء والجود عبارة عنه; إذ لم يؤمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالسخاء، وقد قيل له: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط ) ، فهذا إشارة إلى المقام الوسط (وقد قال تعالى: والذين إذا أنفقوا، لم يسرفوا، ولم يقتروا ، فالجود وسط بين الإسراف والإقتار، وبين البسط والقبض، وهو أن يقدر بذله وإمساكه بقدر الواجب، ولا يكفي أن يفعل ذلك بجوارحه ما لم يكن قلبه طيبا به) منشرحا (غير منازع له فيه، فإن بذل في محل وجوب البذل، ونفسه تنازعه، وهو يصابرها، فهو متسخ) ، أي: متكلف للسخاء (وليس بسخي) حقيقة (بل ينبغي أن لا يكون لقلبه علاقة مع المال إلا من حيث يراد المال له، وهو صرفه إلى ما يجب صرفه إليه) .

وقال الماوردي: حد السخاء بذل ما يحتاج إليه عند الحاجة، وأن يوصل إلى مستحقه بقدر الطاقة، [ ص: 205 ] وتدبير ذلك مستصعب .

ولعل بعض من يحب أن ينتسب إلى الكرم ينكر حد السخاء، ويجعل تقدير العطية فيه نوعا من البخل، وأن الجود بذل الموجود، وهذا تكليف يفضي إلى الجهل بمحدود الفضائل، ولو كان حد الجود بذل الموجود لما كان للسرف موضع، ولا للتبذير موقع، وقد ورد الكتاب والسنة بذمهما، وإذا كان السخاء محدودا، فمن وقف على حده سمي كريما، واستوجب المدح، ومن قصر عنه كان بخيلا، واستوجب الذم .

(فإن قلت: فقد صار هذا موقوفا على معرفة الواجب، فما الذي بذله يجب؟ فأقول: الواجب قسمان: واجب بالشرع، وواجب بالمروءة والعادة، والسخي هو الذي لا يمنع واجب الشرع، ولا واجب المروءة، فإن منع واحدا منهما، فهو بخيل، ولكن الذي يمنع واجب الشرع أبخل) ، أي: أشد في صفة البخل (كالذي يمنع أداء الزكاة) ، فلا يزكي (ويمنع عياله وأهله النفقة) ، فلا ينفق عليهم (أو يؤديها) ، أي: الزكاة (ولكن يشق عليه) ، ويستصعبه (فإنه بخيل بالطبع، وإنما يتسخى بالتكلف) من غير انشراح صدر (أو الذي يتيمم الخبيث من ماله) ، أي: يقصده، فمنه ينفق (ولا يطيب قلبه أن يعطي من أطيب ماله، أو من وسطه) ، وقد قال تعالى: ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون (فهذا كله بخل، وأما واجب المروءة، فهو ترك المضايقة، والاستقصاء في المحقرات) ، والتدقيق فيها (فإن ذلك مستقبح) مخالف وصف الكرم، وقد روي عن علي - رضي الله عنه -: ما استقصى كريم حقه قط كما تقدم .

(واستقباح ذلك يختلف بالأحوال والأشخاص) ، أي: باختلافها، فقد يكون في حال، وفي شخص يستقبح أشد الاستقباح دون حال، وشخص (فمن كثر ماله يستقبح منه ما لا يستقبح من الفقير) الذي لا مال له (من المضايقة) ، والاستقصاء في الحساب، والمعاملة (ويستقبح من الرجل المضايقة مع أهله، وأقاربه، ومماليكه ما لا يستقبح مع الأجانب، ويستقبح من الجار ما لا يستقبح مع البعيد، ويستقبح في الضيافة من المضايقة ما لا يستقبح أقل منه في المبايعة والمعاملة) ، والمحاسبة (فيختلف ذلك بما فيه من المضايقة في ضيافة، أو معاملة، وبما به المضايقة من طعام، أو ثوب; إذ يستقبح في الأطعمة ما لا يستقبح في غيرها، ويستقبح في شراء الكفن) للميت (مثلا، أو شراء الأضحية) لنسكه (أو خبز الصدقة) للفقراء (ما لا يستقبح في غيره من المضايقة، وكذلك بمن معه المضايقة من صديق، أو أخ، أو قريب، أو زوجة أو ولد، أو أجنبي) فيسامح مع الأول دون الأخير (وبمن منه المضايقة من صبي، أو امرأة، أو شيخ، أو شاب، أو عالم، أو جاهل، أو موسر) ، أي: غني (أو فقير) ، أو صالح، أو طالح، أو ذي مروءة، أو سوقي، فالبخيل هو الذي يمنع حيث ينبغي أن لا يمنع إما بحكم الشرع، وإما بحكم المروءة، (وذلك لا يمكن التنصيص على مقداره) لعدم الوقوف على حده .

التالي السابق


الخدمات العلمية