إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وبعد فإني رأيت الهالك المؤثر للدنيا سروره ممزوج بالتنغيص فينفجر عنه أنواع الهموم وفنون المعاصي ، وإلى البوار والتلف مصيره فرح الهالك برجاء ، فلم تبق له دنياه ولم يسلم له دينه ، خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين فيا لها ، من مصيبة ما أفظعها ! ورزية ما أجلها ألا فراقبوا الله إخواني ، ولا يغرنكم الشيطان وأولياؤه من الآنسين بالحجج الداحضة عند الله ؛ فإنهم يتكالبون على الدنيا ، ثم يطلبون لأنفسهم المعاذير والحجج ، ويزعمون أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت لهم أموال فيتزين المغرورون بذكر الصحابة ؛ ليعذرهم الناس على جمع المال ، ولقد دهاهم الشيطان وما يشعرون .

ويحك أيها المفتون ! إن احتجاجك بمال عبد الرحمن بن عوف مكيدة من الشيطان ، ينطق بها على لسانك فتهلك ؛ لأنك متى زعمت أن أخيار الصحابة أرادوا المال للتكاثر والشرف والزينة فقد اغتبت السادة ونسبتهم إلى أمر عظيم ، ومتى زعمت أن جمع المال الحلال أعلى وأفضل من تركه فقد ازدريت محمدا والمرسلين ونسبتهم إلى قلة الرغبة ، والزهد في هذا الخير الذي رغبت فيه أنت وأصحابك من جمع المال ، ونسبتهم إلى الجهل إذ لم يجمعوا المال كما جمعت ومتى زعمت أن جمع المال الحلال أعلى من تركه فقد زعمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينصح للأمة ؛ إذ نهاهم عن جمع المال .


وذكر المصنف هذه العبارة أيضا في كتاب الفقر والزهد (وبعد فإني رأيت الهالك المؤثر للدنيا) على الآخرة (سروره ممزوج بالتنغيص) أي: التكدير (فتتفجر عنه أنواع الهموم) وتنبعث عنه أصناف الغموم (وفنون المعاصي، وإلى التلف والبوار) أي: الهلاك (مصيره) أي: مرجعه (فرح الهالك برجاء، فلم تبق له دنياه ولم يسلم له دينه، خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين، فيالها من مصيبة ما أفظعها!) أي: أشدها قبحا (ورزية ما أجلها) أي: أعظمها (ألا فراقبوا الله إخواني، ولا يغرنكم الشيطان وأولياؤه من الآنسين) أي: المتمسكين (بالحجج الداحضة عند الله؛ فإنهم يتكالبون على الدنيا، ثم يطلبون لأنفسهم المعاذير والحجج، ويزعمون أن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانت لهم أموال) واسعة وأملاك (فيتزين المغرور بذكر الصحابة؛ ليعذرهم الناس على جمع المال، ولقد دهاهم الشيطان وما يشعرون، ويحك أيها المفتون! إن احتجاجك بمال عبد الرحمن بن عوف) رضي الله عنه وأضرابه من الصحابة ممن كان له مال، قال الزهري: تصدق عبد الرحمن بن عوف على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشطر ماله أربعة آلاف، ثم تصدق بأربعين ألف دينار، ثم حمل على خمسمائة راحلة في سبيل الله، وكان عامة ماله من التجارة.

(مكيدة للشيطان، ينطق على لسانك لتهلك؛ لأنك متى زعمت أن أخيار الصحابة أرادوا المال للتكاثر) والتفاخر (والشرف والزينة) وأمثال ذلك (فقد اغتبت السادة الأخيار) أي: ذكرتهم بسوء (ونسبتهم إلى أمر عظيم، ومتى زعمت أن جمع المال الحلال أعلى) مقاما (وأفضل من تركه فقد ازدريت بمحمد -صلى الله عليه وسلم- والمرسلين) والصديقين (ونسبتهم إلى قلة الرغبة، والزهد في هذا الخير الذي رغبت فيه أنت وأصحابك من جمع المال، ونسبتهم إلى الجهل) ونسبت نفسك إلى العلم (إذ لم يجمعوا المال كما جمعت) فكأنه لجهلهم في طريق الجمع .

(ومتى زعمت أن جمع المال الحلال أعلى من تركه فقد زعمت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم ينصح الأمة؛ إذ نهاهم عن جمع المال) .

قال العراقي: روى ابن عدي من حديث ابن مسعود: "ما أوحى الله إلي أن أجمع المال وأكون من التاجرين" الحديث .

ولأبي نعيم، والخطيب في التاريخ، والبيهقي في الزهد من حديث الحارث بن سويد في أثناء حديث: "لا تجمعوا ما لا تأكلون" وكلاهما ضعيف. اهـ .

قلت: وروى الحاكم في تاريخه من حديث أبي ذر: "ما أوحى الله إلي أن أكون تاجرا، ولا أن أجمع المال مكاثرا، ولكن أوحى إلي أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين".

ورواه أبو نعيم في الحلية، عن أبي مسلم الخولاني مرسلا، بلفظ: "ما أوحى الله إلي أن أجمع المال وأكون من التاجرين" والباقي سواء .

التالي السابق


الخدمات العلمية