إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقد علم أن جمع المال خير للأمة فقد غشهم بزعمك حين نهاهم عن جمع المال ، كذبت ورب السماء على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقد كان للأمة ناصحا وعليهم مشفقا ، وبهم رءوفا .

، ومتى زعمت أن جمع المال أفضل فقد زعمت أن الله عز وجل لم ينظر لعباده حين نهاهم عن جمع المال وقد علم أن جمع المال خير لهم ، أو زعمت أن الله تعالى لم يعلم أن الفضل في الجمع ؛ فلذلك نهاهم عنه ، وأنت عليم بما في المال من الخير والفضل فلذلك . ؛ رغبت في الاستكثار ، كأنك أعلم بموضع الخير والفضل من ربك ، تعالى الله عن جهلك أيها المفتون ، تدبر بعقلك ما دهاك به الشيطان حين زين لك الاحتجاج بمال الصحابة ، ويحك ! ما ينفعك الاحتجاج بمال عبد الرحمن بن عوف وقد ود عبد الرحمن بن عوف في القيامة أنه لم يؤت من الدنيا إلا قوتا .

وقد بلغني أنه لما توفي عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنا نخاف على عبد الرحمن فيما ترك فقال كعب سبحان الله ، وما تخافون على عبد الرحمن ؟! كسب طيبا وأنفق طيبا وترك طيبا فبلغ ذلك أبا ذر فخرج مغضبا يريد كعبا ، فمر بعظم لحي بعير فأخذه بيده ، ثم انطلق يريد كعبا ، فقيل لكعب :

إن أبا ذر يطلبك ، فخرج هاربا حتى دخل على عثمان يستغيث به ، وأخبره الخبر وأقبل ، أبو ذر يقص الأثر في طلب كعب حتى انتهى إلى دار عثمان فلما دخل قام كعب فجلس خلف عثمان هاربا من أبي ذر ، فقال له أبو ذر : هيه يا ابن اليهودية ، تزعم أن لا بأس بما ترك عبد الرحمن بن عوف ولقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما نحو أحد وأنا معه ، فقال : يا أبا ذر ، فقلت : لبيك يا رسول الله ، فقال : الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة ، إلا من قال هكذا وهكذا عن يمينه وشماله ، وقدامه وخلفه ، وقليل ما هم . ثم قال : يا أبا ذر ، قلت : نعم يا رسول الله بأبي أنت وأمي ، قال : ما يسرني أن لي مثل أحد أنفقه في سبيل الله أموت يوم أموت وأترك منه قيراطين ، قلت : أو قنطارين يا رسول الله ، قال : بل قيراطان . ثم قال : يا أبا ذر ، أنت تريد الأكثر وأنا أريد الأقل ، فرسول الله يريد هذا ، وأنت تقول يا ابن اليهودية : لا بأس بما ترك عبد الرحمن بن عوف ؟ ، كذبت وكذب من قال » فلم يرد عليه خوفا حتى ، خرج .


(وقد علم أن جمع المال خير للأمة فقد غشهم بزعمك حين نهاهم عن جمع المال، كذبت) في زعمك (ورب السماء على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقد كان للأمة ناصحا) لم يدخر عنهم من النصح شيئا (و) كان (عليهم مشفقا، وبهم بارا رحيما رؤوفا، ومتى زعمت أن جمع المال أفضل فقد زعمت أن الله -عز وجل- لم ينظر لعباده حين نهاهم عن جمع المال) ونبههم على عدم الافتتان به .

(وقد علم أن جمع المال خير لهم، [ ص: 215 ] أو زعمت أن الله لم يعلم أن الفضل في الجمع؛ فلذلك نهاهم عنه، وأنت عليم بما في المال من الخير والفضل؛ فلذلك رغبت في الاستكثار، كأنك أعلم بموضع الفضل والخير من ربك، تعالى الله عن جهلك أيها المفتون، تدبر ما دهاك به الشيطان حين زين لك الاحتجاج بمال الصحابة، ويحك! ما ينفعك الاحتجاج بمال عبد الرحمن بن عوف) رضي الله عنه (وقد ود ابن عوف في القيامة أنه لم يؤت في الدنيا إلا قوتا) إذ ما من أحد إلا وهو يتمنى كذلك، كما ورد في الخبر وتقدم .

(ولقد بلغني أنه لما توفي عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه) سنة اثنين وثلاثين، وصلى عليه عثمان، وقيل: الزبير، وقيل: ابنه (قال أناس من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إنا نخاف على عبد الرحمن) أي: في الآخرة (فيما ترك) قال أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف: صولحت امرأة عبد الرحمن من نصيبها ربع الثمن على ثمانين ألفا. وقال مجاهد: أصاب كل امرأة من نساء عبد الرحمن ربع الثمن ثمانون ألفا .

(فقال كعب) الأحبار رحمه الله تعالى (سبحان الله، وما تخافون على عبد الرحمن؟! كسب طيبا ) إذ كانت عامة أمواله من التجارة (وأنفق طيبا) إذ تصدق به مرات كما تقدم (وترك طيبا) ميراثا لورثته (فبلغ ذلك) الكلام (أبا ذر) الغفاري رضي الله عنه (فخرج مغضبا يريد كعبا، فمر) في طريقه (بلحى بعير) بكسر اللام، وهو عظم الحنك، وهو الذي عليه الأسنان (فأخذه بيده، ثم انطلق يطلب كعبا، فقيل لكعب: إن أبا ذر يطلبك، فخرج هاربا حتى دخل على عثمان رضي الله عنه) وهو يومئذ خليفة (يستغيث، وأخبره الخبر، فأقبل أبو ذر) رضي الله عنه (يقتص الأثر) أي: يتبعه (في طلب كعب حتى انتهى إلى دار عثمان) رضي الله عنه (فلما دخل قام كعب فجلس خلف عثمان هاربا من أبي ذر، فقال له أبو ذر: هيه) بكسر فسكون، كلمة استزادة (يا ابن اليهودية، تزعم أن لا بأس بما ترك عبد الرحمن بن عوف "لقد خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوما نحو أحد وأنا معه، فقال: يا أبا ذر، فقلت: لبيك يا رسول الله، فقال: الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة، إلا من قال هكذا عن يمينه وشماله، وقدامه وخلفه، وقليل ما هم. ثم قال: يا أبا ذر، قلت: نعم يا رسول الله بأبي أنت وأمي، قال: ما يسرني أن لي مثل أحد أنفقه في سبيل الله أموت يوم أموت وأترك منه قيراطين، قلت: أو قنطارين يا رسول الله، قال: بل قيراطين. ثم قال: يا أبا ذر، أنت تريد الأكثر وأنا أريد الأقل، فرسول الله يريد هذا، وأنت تقول يا ابن اليهودية: لا بأس بما ترك عبد الرحمن بن عوف، كذبت وكذب من قال" فلم يرد عليه خوفا، ثم خرج) .

قال العراقي: حديث أبي ذر: "الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة" متفق عليه، وقد تقدم دون هذه الزيادة التي في أوله من قول كعب حين مات عبد الرحمن بن عوف: "كسب طيبا، وترك طيبا" وإنكار أبي ذر عليه، فلم أقف على هذه الزيادة إلا في قول الحارث بن أسد المحاسبي: "بلغني" كما ذكر المصنف. وقد رواها أحمد وأبو يعلى أخصر من هذا .

ولفظ كعب: "إن كان قضى عنه حق الله فلا بأس به، فرفع أبو ذر عصاه، فضرب كعبا، وقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ما أحب أن لو تحول هذا الجبل لي ذهبا" الحديث، وفيه ابن لهيعة، انتهى .

قلت: حديث أبي ذر تقدم الكلام عليه في أول الفصل في هذا الكتاب، وهو بيان ذم المال، وقد رواها البخاري ومسلم بلفظ: "هم الأخسرون، فقال أبو ذر: من هم؟ فقال: هم الأكثرون مالا، إلا من قال هكذا وهكذا" وفي رواية لهما: "إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة إلا من أعطاه الله خيرا، فنفح فيه يمينه وشماله وبين يديه ووراءه، وعمل فيه خيرا".

وفي رواية: "إن الأكثرين هم المقلون" وروى ابن ماجه وابن حبان والضياء من حديث أبي ذر: "الأكثرون هم الأسفلون يوم القيامة، إلا من قال هكذا وهكذا، وكسبه من طيب" وعند الطيالسي بلفظ: "المكثرون".

وروى الخطيب مثله من حديث ابن عباس، وروى هناد في الزهد، وابن ماجه من حديث أبي هريرة: "الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة [ ص: 216 ] إلا من قال هكذا وهكذا".

وأما حديث أبي ذر: "ما أحب لو تحول هذا الجبل" إلخ، فرواه البخاري من حديثه، بلفظ: "ما أحب أن أحدا تحول لي ذهبا يمكث عندي منه دينار فوق ثلاث إلا دينارا أرصده لدين".

وعند أحمد والدارمي بلفظ: "ما أحب أن لي أحدا ذهبا أموت يوم أموت وعندي منه دينار، أو نصف دينار، إلا أن أرصده لغريم".

وعند أحمد وحده من حديث أبي ذر وعثمان معا: "ما أحب لو أن لي هذا الجبل ذهبا أنفقه ويتقبل مني، أذر خلفي منه شيئا".

وروى الطيالسي من حديث أبي ذر بلفظ: "ما يسرني أن لي أحدا ذهبا تأتي علي ثالثة وعندي منه دينار، إلا دينارا أرصده لغريم".

وروى ابن ماجه من حديث أبي هريرة: "ما أحب أن أحدا عندي ذهبا، فتأتي علي ثالثة وعندي منه شيء، إلا شيء أرصده في قضاء دين".

وقد رواه هناد ومسلم والبيهقي بلفظ: "ما يسرني".

وأخبرنا عمر بن أحمد بن عقيل بن أبي بكر الحسيني في آخرين، قالوا: أخبرنا عبد الله بن سالم، وأحمد بن علي ومحمد، قالوا: أخبرنا محمد بن العلاء الحافظ، أخبرنا علي بن يحيى، أخبرنا يوسف بن عبد الله، أخبرنا محمد بن عبد الرحمن الحافظ، أخبرنا أبو الفضل أحمد بن علي الحافظ ومستلميه رضوان بن محمد بن يوسف، قالا: أخبرنا عبد الرحمن بن أحمد الغزي، أخبرنا علي بن إسماعيل المخزومي، أخبرنا أبو الفرج الحراني، أخبرنا أبو المكارم أحمد بن محمد بن اللبان وأبو الحسن مسعود بن محمد بن أبي منصور، قالا: حدثنا أبو علي الحسن بن أحمد بن الحسين الحداد، حدثنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله الحافظ، حدثنا محمد بن أحمد بن محمد، حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد الكريم، حدثنا الحسن بن إسماعيل بن راشد الرملي، حدثنا حمزة بن ربيعة، حدثنا ابن شوذب، عن مطر بن حميد بن هلال، عن عبد الله بن الصامت ابن أخي أبي ذر قال: "دخلت مع عمي على عثمان، فقال لعثمان: ائذن لي بالربذة، فقال: نعم، ونأمر لك بنعم من نعم الصدقة، تغدو عليك وتروح، قال: لا حاجة لي في ذلك، تكفي أبا ذر صرمته ثم قال: اعزموا دنياكم، ودعونا وربنا أو ديننا، وكانوا يقتسمون مال عبد الرحمن بن عوف، وكان عنده كعب، فقال عثمان بن عفان لكعب: ما تقول فيمن جمع هذا المال، فكان يتصدق منه ويعطي ابن السبيل، ويفعل ويفعل؟ قال: إني لأرجو له خيرا، فغضب أبو ذر، ورفع العصا على كعب، وقال: وما يدريك يا ابن اليهودية؟! ليودن صاحب هذا المال يوم القيامة لو كانت عقارب تلسع السويداء من قلبه".

(وبلغنا أن عبد الرحمن بن عوف) رضي الله عنه (قدمت عليه عير) أي: قافلة (من اليمن فضجت المدينة) أي: أهلها (ضجة واحدة، فقالت عائشة) رضي الله عنها: (ما هذا؟ فقيل: عير قدمت لعبد الرحمن بن عوف، قالت: صدق الله ورسوله، فبلغ ذلك عبد الرحمن، فسألها، فقالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إني رأيت الجنة فرأيت فقراء المهاجرين والمسلمين يدخلون سعيا سعيا، ولم أر أحدا من الأغنياء يدخلها معهم إلا عبد الرحمن بن عوف، رأيته يدخلها معهم حبوا، فقال عبد الرحمن: إن العير وما عليها في سبيل الله، وإن أرقاءها أحرار؛ لعلي أن أدخلها معهم سعيا) .

قال العراقي: رواه أحمد مختصرا في كون عبد الرحمن يدخلها حبوا، دون ذكر فقراء المهاجرين والمسلمين، وفيه عمارة بن زاذان، مختلف فيه. انتهى .

قلت: لفظ أحمد من حديث عائشة: "رأيت عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا" ورواه أيضا الطبراني في الكبير، ومن طريقه أبو نعيم في الحلية، قال: حدثنا أبو يزيد القراطيسي، حدثنا أسد بن موسى، حدثنا عمارة بن زاذان، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك قال: "بينا عائشة في بيتها إذ سمعت صوتا رجت منه المدينة، فقالت: ما هذا؟ قالوا: عير قدمت لعبد الرحمن بن عوف من الشام، وكانت سبعمائة راحلة، فقالت عائشة: أما إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: رأيت عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا، فبلغ ذلك عبد الرحمن، فأتاها فسألها عما بلغه، فحدثته، فقال: فأنا أشهدك أنها بأحمالها وأقتابها وأحلاسها في سبيل الله" وعمارة بن زاذان الصيدلاني أبو سلمة البصري صدوق، ضعفه الدارقطني وغيره، وقد روى له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والترمذي وابن ماجه.

التالي السابق


الخدمات العلمية