إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان الكمال الحقيقي والكمال الوهمي الذي لا حقيقة له .

قد عرفت أنه لا كمال بعد فوات التفرد بالوجود إلا في العلم والقدرة ولكن ، الكمال الحقيقي فيه ملتبس بالكمال الوهمي ، وبيانه أن كمال العلم لله تعالى ، وذلك من ثلاثة أوجه :

أحدها : من حيث كثرة المعلومات وسعتها فإنه محيط بجميع المعلومات فلذلك كلما كانت علوم العبد أكثر كان أقرب إلى الله تعالى .

الثاني : من حيث تعلق العلم بالمعلوم على ما هو به وكون المعلوم مكشوفا به كشفا تاما ؛ فإن المعلومات مكشوفة لله تعالى بأتم أنواع الكشف على ما هي عليه فلذلك ، مهما كان علم العبد أوضح وأيقن وأصدق وأوفق للمعلوم في تفاصيل صفات المعلوم كان أقرب إلى الله تعالى .

الثالث : من حيث بقاء العلم أبد الآباد بحيث لا يتغير ولا يزول ؛ فإن علم الله تعالى باق لا يتصور أن يتغير ، فكذلك مهما كان علم العبد بمعلومات لا يقبل التغير والانقلاب كان أقرب إلى الله تعالى .

والمعلومات قسمان : متغيرات وأزليات .

أما المتغيرات فمثالها العلم بكون زيد في الدار فإنه علم له معلوم ولكنه ، يتصور أن يخرج زيد من الدار ، ويبقى اعتقاد كونه في الدار كما كان فينقلب جهلا فيكون نقصانا لا كمالا فكلما ، اعتقدت اعتقادا موافقا وتصور أن ينقلب المعتقد فيه عما اعتقدته كنت بصدد أن ينقلب كمالك نقصا ، ويعود علمك جهلا .

ويلتحق بهذا المثال جميع متغيرات العالم ، كعلمك مثلا بارتفاع جبل ومساحة أرض وبعدد البلاد ، وتباعد ما بينها من الأميال والفراسخ ، وسائر ما يذكر في المسالك والممالك ، وكذلك العلم باللغات التي هي اصطلاحات تتغير بتغير الأعصار والأمم والعادات ، فهذه علوم معلوماتها مثل الزئبق تتغير من حال إلى حال فليس فيه كمال إلا في الحال ، ولا يبقى كمالا في القلب .

القسم . الثاني هو : المعلومات الأزلية وهو ، جواز الجائزات ، ووجوب الواجبات ، واستحالة المستحيلات ، فإن هذه معلومات أزلية أبدية ؛ إذ لا يستحيل الواجب قط جائزا ، ولا الجائز محالا ، ولا المحال واجبا .

فكل ، هذه الأقسام داخلة في معرفة الله ، وما يجب له ، وما يستحيل في صفاته ، ويجوز في أفعاله ، فالعلم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله وحكمته في ملكوت السموات والأرض وترتيب الدنيا والآخرة وما يتعلق به هو الكمال الحقيقي الذي يقرب من يتصف به من الله تعالى ويبقى كمالا للنفس بعد الموت وتكون هذه المعرفة نورا للعارفين بعد الموت ، يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا ، أي : تكون هذه المعرفة رأس مال وصل إلى كشف ما لم ينكشف في الدنيا ، كما أن من معه سراج خفي فإنه يجوز أن يصير ذلك سببا لزيادة النور بسراج آخر يقتبس منه ، فيكمل النور الخفي على سبيل الاستتمام ومن ليس معه أصل السراج فلا مطمع له في ذلك فمن ليس معه أصل معرفة الله تعالى لم يكن له مطمع في هذا النور فيبقى كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها بل كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض فإذا : لا سعادة إلا في معرفة الله تعالى وأما ما عدا ذلك من المعارف ، فمنها : ما لا فائدة له أصلا ، كمعرفة الشعر وأنساب العرب وغيرهما ومنها : ما له منفعة في الإعانة على معرفة الله تعالى ، كمعرفة لغة العرب ، والتفسير ، والفقه ، والأخبار فإن معرفة لغة العرب تعين على معرفة تفسير القرآن ، ومعرفة التفسير تعين على معرفة ما في القرآن من كيفية العبادات والأعمال التي تفيد تزكية النفس ، ومعرفة طريق تزكية النفس تفيد استعداد النفس لقبول الهداية إلى معرفة الله سبحانه وتعالى كما قال تعالى : قد أفلح من زكاها وقال عز وجل : والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا فتكون جملة هذه المعارف كالوسائل إلى تحقيق معرفة الله تعالى ، وإنما الكمال في معرفة الله ، ومعرفة صفاته وأفعاله ، وينطوي فيه جميع المعارف المحيطة بالموجودات ؛ إذ الموجودات كلها من أفعاله ، فمن عرفها من حيث هي فعل الله تعالى .

ومن حيث ارتباطها بالقدرة والإرادة والحكمة فهي من تكملة معرفة الله تعالى هذا حكم كمال العلم ذكرناه وإن لم يكن لائقا بأحكام الجاه والرياء ولكن أوردناه لاستيفاء أقسام الكمال .


(بيان الكمال الحقيقي والكمال الوهمي الذي لا حقيقة له) *

(قد عرفت أنه لا كمال بعد فوات التفرد بالوجود إلا في العلم والقدرة، لكن الكمال الحقيقي فيه ملتبس بالكمال الوهمي، وبيانه أن كمال العلم لله تعالى، وذلك من ثلاثة أوجه:

أحدها: من حيث كثرة المعلومات) كلياتها وجزئياتها، لا ساحل لبحر معلوماته، بل تنفد البحار لو كانت مدادا لكلمات ربي (فكذلك كلما كانت علوم العبد أكثر) وأوسع كان (أقرب إلى الله عز وجل) أعني: قربا بالمرتبة والدرجة لا بالمكان .

(والثاني: من حيث تعلق العلم بالمعلوم على ما هو به) أي: على حقيقته (وكون المعلوم مكشوفا به كشفا تاما؛ فإن المعلومات) مع سعتها (مكشوفات لله تعالى بأتم أنواع الكشف على ما هي عليها، فكذلك مهما كان علم العبد أوضح وأيقن) بالأدلة والبراهين، ثم بالكشف الإلهي (وأصدق وأوفق للمعلوم في تفاصيل صفات المعلوم كان أقرب إلى الله تعالى) بالمرتبة والدرجة .

(والثالث: من حيث بقاء العلم أبد الآباد من حيث لا يتغير ولا يزول؛ فإن علم الله تعالى باق ولا يتصور) فيه (أن يتغير ولا يزول، فكذلك مهما كان علم العبد بمعلومات لا يقبل التغير والانقلاب كان أقرب إلى الله تعالى) بالمرتبة والدرجة .

وقد عرف حظ العبد من وصف العلم في هذه الوجوه الثلاثة، ولكن يفارق علمه علم الله تعالى في خواص ثلاثة:

إحداها: في المعلومات، في كثرتها، فإن معلومات العبد وإن كثرت واتسعت فهي محصورة في قلبه، فأنى تناسب ما لا نهاية له؟!

والثانية: إن كشفت فلا تبلغ الغاية التي لا ممكن وراءها .

والثالثة: أن علم الله بالأشياء غير مستفاد بالأشياء، بل الأشياء مستفادة منه، وعلم العبد بالأشياء تابع للأشياء وحاصل بها .

(والمعلومات) بأسرها (قسمان: متغيرات وأزليات، أما المتغيرات فمثالها العلم بكون زيد في الدار) مثلا (فإنه علم له معلوم، ولكن يتصور) في الذهن (أن يخرج زيد من الدار، ويبقى اعتقاد كونه في الدار كما كان) أولا (فينقلب جهلا) إذ خالف المعلوم (فيكون نقصانا لا كمالا، فكل ما اعتقدت اعتقادا موافقا له وتصور أن ينقلب المعتقد فيه عما اعتقدته كنت بصدد أن ينقلب كمالك نقصا، ويعود علمك جهلا، ويلتحق بهذا المثال جميع متغيرات العالم، كعلمك مثلا بارتفاع جبل من الجبال وساحة أرض) أي: ذرعها (وتعدد البلاد، وتباعد ما بينها من الأميال والفراسخ، وسائر ما يذكر في المسالك والممالك، وكذلك العلم باللغات التي هي اصطلاحات) ومواصفات (تتغير بتغير الأعصار والأمم والعادات، فهذه [ ص: 246 ] علوم معلوماتها مثل الزئبق) وهو الذي يشبه الفضة لكنه يترجرج، يستخرج من المعادن ومن حجاراتها بالنار (يتغير من حال إلى حال) ولا يثبت على حالة واحدة (فليس فيه كمال إلا في الحال، ولا يبقى كمالا في القلب .

والقسم الثاني: هي المعلومات الأزلية، وهي جواز الجائزات، ووجوب الواجبات، واستحالة المستحيلات، فإن هذه معلومات أبدية أزلية؛ إذ لا يستحيل الواجب قط جائزا، ولا الجائز محالا، ولا المحال واجبا، وكل هذه الأقسام داخلة في معرفة الله تعالى، وما يجب له، وما يستحيل في صفاته، ويجوز في أفعاله، فالعلم بالله وبصفاته وأفعاله وحكمته) الكائنة (في ملكوت السموات والأرض وترتيب الدنيا والآخرة وما يتعلق به) أي: بهذا العلم (هو الكمال الحقيقي الذي يقرب من يتصف به من الله تعالى) قرب مرتبة ودرجة (ويبقى كمالا للنفس بعد الموت) أي: بعد مفارقة الروح البدن .

(فتكون هذه المعرفة نورا للعارفين بعد الموت، يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا ، أي: تكون هذه المعارف رأس مال يوصل إلى كشف ما لم ينكشف في الدنيا، كما أن من معه سراج خفي فإنه يجوز أن يصير ذلك سببا لزيادة النور بسراج آخر يقتبس منه، فيكمل النور بذلك النور الخفي على سبيل الاستتمام) فذلك السراج الخفي هو المعرفة المشار إليها (ومن ليس معه أصل السراج فلا مطمع له في ذلك) أي: في الاقتباس وزيادة الانكشاف (فمن ليس له أصل معرفة الله تعالى لم يكن له مطمع في هذا النور فيبقى) في يوم القيامة ( كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ) لشدة رسوخه بها، كلما خرج من ظلمة وقع في أخرى .

(بل كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض ) والمراد بها قلوب الكفار، فإن النور يراد للهداية، فالمصروف عن طريق الهدى باطل وظلمة، بل أشد من الظلمة؛ لأن الظلمة لا تهدي إلى الباطل كما لا تهدي إلى الحق، وعقول الكفار انتكست، وكذلك سائر إدراكاتهم، وتعاونت على الضلال، فمثالهم هذا، والبحر اللجي هو الدنيا، والموج الأول موج الشهوات، والثاني موج الصفات السبعية، والسحاب الاعتقادات الخبيثة، فكل ذلك حاجب عن معرفة الأشياء الغريبة، فضلا عن البعيدة، فضلا عن معرفة الله تعالى .

(فإذا: لا سعادة) ولا كمال (إلا في معرفة الله تعالى) ولها سبيلان:

أحدهما السبيل الحقيقي، وذلك مسدود، إلا في حق الله تعالى، فلا يشرئب أحد بملاحظته إلا اندهش .

والثاني: معرفة الأسماء والصفات، وفيه تتفاوت مراتب العارفين .

(وأما عدا ذلك من المعارف، فمنها: ما لا فائدة له أصلا، كمعرفة الشعر وأنساب العرب) جاهليتها وإسلامها (وغيرهما) أما الشعر فكلام حسنه حسن وقبيحه قبيح، فلا ترتب عليه فائدة دينية، وأما الأنساب فالعلم بها علم لا ينفع وجهالة لا تضر، ويتصور ترتب الفوائد في كل من العلمين في الدين لكن بوسائط بعيدة .

(ومنها: ما له فائدة تؤدي إلى معرفة الله تعالى، كمعرفة لغة العرب، والتفسير، والفقه، والأخبار) النبوية (فإن معرفة لغة العرب تعين على معرفة تفسير القرآن، ومعرفة التفسير تعين على معرفة ما في القرآن من كيفية العبادات والأعمال التي تفيد تزكية النفس، ومعرفة طريق تزكية النفس تفيد في استعداد النفس) وتهيئتها (لقبول) أنوار (الهداية إلى معرفة الله) كما هي (كما قال تعالى: قد أفلح من زكاها ) أي: طهرها من شوائب الشرك (وقال تعالى: والذين جاهدوا فينا ) أي: جاهدوا أنفسهم بإماتتها عن الرذائل لأجلنا ( لنهدينهم سبلنا ) أي: طريق معرفتنا بالهداية ثمرة المجاهدة كما تقدم .

(فتكون جملة هذه المعارف كالوسائل إلى تحقيق معرفة الله، وإنما الكمال معرفة الله، ومعرفة صفاته وأفعاله، وينطوي فيه جميع المعارف [ ص: 247 ] المحيطة بالموجودات؛ إذ الموجودات كلها من أفعاله، فمن عرفها من حيث هي فعل الله تعالى، ومن حيث ارتباطها بالقدرة والإرادة والحكمة فهي من تكملة معرفة الله تعالى) وكل معرفة خارجة عن ذلك فليس فيها كبير شرف، وأيضا فإن شرف كل علم بشرف معلومه، وأشرف المعلومات هو الله تعالى؛ فلذلك كانت معرفته أشرف المعارف، ويليه ما هو تكملة لها. هذا حكم كمال العلم، ذكرناه وإن لم يكن لائقا بأحكام الجاه والرياء، ولكن أوردناه لاستيفاء أقسام الكلام .

التالي السابق


الخدمات العلمية