إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان علاج حب الجاه .

اعلم أن من غلب على قلبه حب الجاه صار مقصور الهم على مراعاة الخلق مشغوفا بالتودد إليهم والمراءاة ، لأجلهم ولا يزال في أقواله وأفعاله ملتفتا إلى ما يعظم منزلته عندهم وذلك بذر النفاق وأصل الفساد ويجر ذلك لا محالة إلى التساهل في العبادات ، والمراءاة بها ، وإلى اقتحام المحظورات للتوصل إلى اقتناص القلوب ولذلك شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم حب الشرف والمال وإفسادهما للدين بذئبين ضاريين وقال صلى الله عليه وسلم إنه ينبت النفاق كما ينبت الماء البقل إذ النفاق هو مخالفة الظاهر للباطن بالقول أو الفعل ، وكل من طلب المنزلة في قلوب الناس فيضطر إلى النفاق معهم وإلى التظاهر بخصال حميدة هو خال عنها ، وذلك هو عين النفاق .

فحب الجاه إذا من المهلكات ، فيجب علاجه وإزالته عن القلب فإنه ، طبع جبل عليه القلب كما جبل على حب المال ، وعلاجه مركب من علم وعمل .

أما العلم : فهو أن يعلم السبب الذي لأجله أحب الجاه ، وهو كمال القدرة على أشخاص الناس ، وعلى قلوبهم وقد بينا أن ذلك إن صفا وسلم فآخره الموت ، فليس هو من الباقيات الصالحات بل لو سجد لك كل من على بسيط الأرض من المشرق إلى المغرب فإلى خمسين سنة لا يبقى الساجد ولا المسجود له ويكون حالك كحال من مات قبلك من ذوي الجاه مع المتواضعين له .

فهذا لا ينبغي أن يترك به الدين الذي هو الحياة الأبدية التي لا انقطاع لها ومن فهم الكمال الحقيقي والكمال الوهمي كما سبق صغر الجاه في عينه ، إلا أن ذلك إنما يصغر في عين من ينظر إلى الآخرة كأنه يشاهدها ويستحقر العاجلة ويكون الموت كالحاصل عنده ويكون حاله كحال الحسن البصري حين كتب إلى عمر بن عبد العزيز أما بعد ، فكأنك بآخر من كتب عليه الموت قد مات ، فانظر كيف مد نظره نحو المستقبل ، وقدره كائنا .

وكذلك حال عمر بن عبد العزيز حين ، كتب في جوابه : أما بعد ، فكأنك بالدنيا لم تكن وكأنك بالآخرة لم تزل فهؤلاء كان التفاتهم إلى العاقبة ، فكان عملهم لها بالتقوى ؛ إذ علموا أن العاقبة للمتقين ، فاستحقروا الجاه والمال في الدنيا .


(بيان علاج حب الجاه) *

(اعلم أن من غلب على قلبه حب الجاه صار مقصور الهم على مراعاة الخلق) في أحوالهم (مشغوفا بالتودد إليهم، والمراياة لأجلهم) أي: إظهار الرياء (ولا يزال في أقواله وأفعاله وأعماله متلفتا إلى ما يعظم منزلته عندهم) ويرتفع مقامه وقدره لديهم (وذلك بذر النفاق) الذي يتولد منه (وأصل الفساد) الذي ينشأ عليه (ويجر ذلك لا محالة إلى التساهل في العبادات، والمراءاة بها، وإلى اقتحام المحظورات) وارتكابها (للتوصل إلى اقتناص القلوب) وتسخيرها (ولذلك شبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حب الشرف والمال وإفسادهما للدين بذئبين ضاريين) كما في حديث أسامة بن زيد عند الطبراني في الصغير، وفي الكبير من حديث ابن عباس، وفي بعض الروايات وصفهما بعاديين، كما في حديث عاصم بن عدي عند الطبراني في الأوسط، وفي أخرى وصفهما بجائعين كما في حديث كعب بن مالك عند أحمد والترمذي، وقد تقدم قريبا .

(وقال) أيضا: (إنه ينبت النفاق) في القلب (كما ينبت الماء البقل) أي: العشب، كما رواه الديلمي من حديث أبي هريرة بلفظ: "حب الغنى ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء العشب" وقد تقدم أيضا (إذ النفاق هو مخالفة الظاهر للباطن بالقول أو الفعل، وكل من طلب المنزلة في قلوب الناس فيضطر إلى النفاق معهم ) لا محالة (وإلى التظاهر بخصال حميدة) أي: يظهرها من نفسه بتكلف (هو خال عنها، وذلك هو عين النفاق، فحب الجاه إذا من المهلكات، فيجب علاجه وإزالته من القلب، فإنه طبع جبل القلب عليه كما جبل على حب المال، وعلاجه مركب من علم وعمل .

أما العلم: فهو أن يعلم السبب الذي لأجله أحب الجاه، وهو كمال القدرة على أشخاص الناس، وعلى قلوبهم)بملكها (وقد بينا) أيضا (أن ذلك) لا يصفو، و (إن صفا وسلم) من الكدر (فآخره الموت، فليس هو من الباقيات الصالحات) التي تستمر إلى ما بعد الموت (بل لو) فرض أنه (سجد لك كل من على بسيط الأرض من المشرق إلى المغرب) ودانوا لك (فإلى خمسين سنة لا يبقى الساجد ولا المسجود له) غالبا (ويكون حالك كحال من مات قبلك من ذوي الجاه مع المتواضعين له، فهذا لا ينبغي أن يترك به الدين الذي هو الحياة الأبدية التي لا انقطاع لها) بعد الموت (ومن فهم الكمال الحقيقي والكمال الوهمي كما سبق) ذكره قريبا (صغر الجاه في عينه، إلا أن ذلك إنما يصغر في عين من ينظر إلى الآخرة فكأنه يشاهدها) من وراء ستر رقيق (ويستحقر العاجلة) [ ص: 253 ] ويستهون أمرها (ويكون الموت كالحاصل عنده) حالا (ويكون حاله كحال الحسن البصري) رحمه الله تعالى (حيث كتب إلى عمر بن عبد العزيز) أخي عبد الملك وهو يومئذ خليفة:

(أما بعد، فكأنك بآخر من كتب عليه الموت قد مات، فانظر كيف مد نظره نحو المستقبل، وقدره كائنا. وكذلك عمر بن عبد العزيز، حيث كتب في جوابه: أما بعد، فكأنك بالدنيا لم تكن وكأنك بالآخرة لم تزل) وهذا الكتاب وجوابه أخرجهما أبو نعيم في الحلية، وقد تقدم ذكرهما في كتاب ذم الدنيا .

(فهؤلاء كان التفاتهم إلى العاقبة، فكان عملهم لها بالتقوى؛ إذ علموا أن العاقبة للمتقين، فاستحقروا المال والجاه في الدنيا) وإليه أشار القائل:


إن لله عبادا فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا     نظروا فيها فلما علموا
أنها ليست لحي وطنا     جعلوها لجة واتخذوا
صالح الأعمال فيها سفنا

التالي السابق


الخدمات العلمية