إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان علاج كراهة الذم .

قد سبق أن العلة في كراهة الذم هو ضد العلة في حب المدح ، فعلاجه أيضا يفهم منه .

والقول الوجيز فيه أن من ذمك لا يخلو من ثلاثة أحوال :

إما أن يكون قد صدق فيما قال وقصد به ، النصح والشفقة وإما أن يكون صادقا ولكن قصده الإيذاء والتعنت وإما أن يكون كاذبا .

فإن كان صادقا وقصده النصح فلا ينبغي أن تذمه ، وتغضب عليه ، وتحقد بسببه ، بل ينبغي أن تتقلد منته ؛ فإن من أهدى إليك عيوبك فقد أرشدك إلى المهلك ؛ حتى تتقيه فينبغي أن تفرح به ، وتشتغل بإزالة الصفة المذمومة عن نفسك إن قدرت عليها ، فأما اغتمامك بسببه وكراهتك له وذمك إياه فإنه غاية الجهل وإن كان قصده التعنت فأنت قد انتفعت بقوله إذ أرشدك إلى عيبك إن كنت جاهلا به أو ذكرك عيبك إن كنت غافلا عنه ، أو قبحه في عينك ؛ لينبعث حرصك على إزالته إن كنت قد استحسنته .

وكل ذلك أسباب سعادتك وقد استفدته منه فاشتغل بطلب السعادة فقد أتيح لك أسبابها بسبب ما سمعته من المذمة .

فمهما قصدت الدخول على ملك وثوبك ملوث بالعذرة وأنت لا تدري ولو دخلت عليه كذلك لخفت أن يحز رقبتك لتلويثك مجلسه بالعذرة فقال قائل : أيها الملوث بالعذرة طهر نفسك فينبغي أن تفرح به ؛ لأن تنبيهك بقوله غنيمة وجميع مساوي الأخلاق مهلكة في الآخرة ، والإنسان إنما يعرفها من قول أعدائه فينبغي أن يغتنمه .

وأما ، قصد العدو التعنت فجناية منه على دين نفسه ، وهو نعمة منه عليك فلم تغضب عليه بقول انتفعت به أنت وتضرر هو به. .

الحالة ؟! الثالثة : أن يفتري عليك بما أنت بريء منه عند الله تعالى فينبغي أن لا تكره ذلك ، ولا تشتغل بذمه ، بل تتفكر في ثلاثة أمور :

أحدها : أنك إن خلوت من ذلك العيب فلا تخلو عن أمثاله وأشباهه ، وما ستره الله من عيوبك أكثر فاشكر الله تعالى ؛ إذ لم يطلعه على عيوبك ، ودفعه عنك بذكر ما أنت بريء عنه .

. والثاني : أن ذلك كفارات لبقية مساويك وذنوبك ، فكأنه رماك بعيب أنت بريء منه ، وطهرك من ذنوب أنت ملوث بها ، وكل من اغتابك فقد أهدى إليك حسناته وكل من مدحك فقد قطع ظهرك .

فما بالك تفرح بقطع الظهر وتحزن لهدايا الحسنات التي تقربك إلى الله تعالى ، وأنت تزعم أنك تحب القرب من الله .

؟! وأما الثالث فهو أن المسكين قد جنى على دينه حتى سقط من عين الله وأهلك نفسه بافترائه وتعرض لعقابه الأليم ، فلا ينبغي أن تغضب عليه مع غضب الله عليه ، فتشمت به الشيطان ، وتقول : اللهم أهلكه بل ينبغي أن تقول : اللهم أصلحه ، اللهم تب عليه اللهم ارحمه كما قال صلى الله عليه وسلم : اللهم اغفر لقومي ، اللهم اهد قومي ؛ فإنهم لا يعلمون .

لما أن كسروا ثنيته وشجوا وجهه وقتلوا عمه حمزة يوم أحد .

ودعا إبراهيم بن أدهم لمن شج رأسه بالمغفرة ، فقيل له في ذلك ، فقال علمت : أني مأجور بسببه وما نالني منه إلا خير فلا أرضى أن يكون هو معاقبا بسببي .

ومما يهون عليك كراهة المذمة قطع الطمع فإن من استغنيت عنه مهما ذمك لم يعظم أثر ذلك في قلبك وأصل الدين القناعة ، وبها ينقطع الطمع عن المال والجاه ، وما دام الطمع قائما كان حب الجاه والمدح في قلب من طمعت فيه غالبا ، وكانت همتك إلى تحصيل المنزلة في قلبه مصروفة ، ولا ينال ذلك إلا بهدم الدين فلا ينبغي أن يطمع طالب المال والجاه ، ومحب المدح ، ومبغض الذم ، في سلامة دينه ؛ فإن ذلك بعيد جدا .


(بيان علاج كراهية الذم) *

(قد سبق) قريبا (أن العلة في كراهية الذم هو ضد العلة في حب المدح، فعلاجه أيضا يفهم منه، والقول الوجيز) أي: المختصر الخالي عن التطويل (فيه أن من ذمك) في شيء من أمورك (لا يخلو من ثلاثة أحوال: إما أن يكون صادقا فيما قال، وقد قصد) في قوله (النصح) لك (والشفقة) عليك (وإما أن يكون صادقا) فيما قال (ولكنه قصد الإيذاء) لك (والتعنت) أي: إيقاعك في العنت وهو المشقة (أو يكون كاذبا) فيما قال .

(فإن كان صادقا وقصده النصح) والشفقة (فلا ينبغي أن تذمه، وتغضب عليه، وتحقد بسببه، بل ينبغي أن تتقلد منه منة؛ فإن من أهدى إليك عيوبك فقد أرشدك إلى) ما هو (المهلك لك؛ حتى تتقيه) وتتحفظ منه (فينبغي أن تفرح به، وتشتغل بإزالة الصفة المذمومة) التي هي عابتك (عن نفسك إن قدرت عليها، فأما اغتمامك بسببه وكراهتك له وذمك إياه فإنه غاية الجهل) ونهاية الحمق .

(وإن كان قصده التعنت فإنك قد انتفعت بقوله إذ أرشدك إلى عيبك إن كنت جاهلا) به (أو ذكرك عيبك إن كنت غافلا عنه، أو قبحه في عينك؛ لينبعث حرصك على إزالته إن كنت قد استحسنته، وكل ذلك أسباب سعادتك) ونجاتك (وقد استفدته منه) مجانا .

(فاشتغل بطلب السعادة) والنجاة (فقد أتيحت لك أسبابها بسبب ما سمعته من المذمة، فمهما قصدت الدخول على) حضرة (ملك) أو أمير (وثوبك ملوث) أي: ملطخ (بالعذرة) أي: النجاسة (وأنت لا تدري فلو دخلت عليه كذلك لخفت أن يحز) أي: يقطع (رقبتك لتلويثك مجلسه بالعذرة) الكائنة في ثوبك (فقال لك قائل: أيها الملوث بالعذرة طهر نفسك) أي: ثوبك (فينبغي أن تفرح به؛ لأن تنبهك بقوله غنيمة) ومن نبه فما قصر .

(وجميع مساوئ الأخلاق) مما تقدم ذكرها في كتاب رياضة النفس (مهلكة في الآخرة، والإنسان إنما يعرفها من قول أعدائه) وحساده (فينبغي أن يغتنمه، فإذا قصد العدو التعنت) معك (فجناية منه على دين نفسه، وهو نعمة منه عليك فلم تغضب عليه) أيها الإنسان (بقول انتفعت به أنت وتضرر هو به؟!) فهاتان الحالتان فيما إذا كان صادقا .

(والحالة الثالثة: أن يفتري عليك بما أنت بريء منه عند الله) وإنما نسبك إليه كذبا وزورا (فينبغي أن لا تكره ذلك، ولا تشتغل بذمه، بل تتفكر في ثلاثة أمور:

أحدها: أنك إذا خلوت عن ذلك العيب فلا تخلو عن أمثاله وأشباهه، وما ستره الله من عيوبك أكثر) مما ظهر عليك (فاشكر الله؛ إذ لم يطلعه على عيوبك، ودفعه عنك بما أنت بريء منه .

والثاني: أن ذلك كفارة لبقية مساويك وذنوبك، فكأنه رماك بعيب أنت بريء منه، وطهرك من ذنوب أنت ملوث بها، وكل من اغتابك فقد أهدى إليك حسناته) كما تقدم في آفات اللسان (وكل من مدحك فقد قطع ظهرك) كما تقدم في الحديث في الذي أثنى على آخر فقال صلى [ ص: 258 ] الله عليه وسلم: "ويحك! قد قطعت عنقه".

(فما بالك تفرح بقطع الظهر) والعنق (وتحزن بهدايا الحسنات التي تقربك إلى الله، وأنت تزعم أنك تحب القرب من الله؟! وأما الثالث فهو أن المسكين قد جنى على دينه حتى سقط من عين الله -عز وجل- وأهلك نفسه بافترائه) وكذبه (وتعرض لعقابه الأليم، فلا ينبغي أن تغضب عليه مع غضب الله عليه، فتشمت به الشيطان، وتقول: اللهم أهلكه) اللهم أمته (بل ينبغي أن تقول: اللهم أصلحه، اللهم تب عليه) اللهم وفقه، اللهم اغفر له (اللهم ارحمه) وأمثال ذلك (كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ قال: "اللهم اغفر لقومي، اللهم اهد قومي؛ فإنهم لا يعلمون" إذ ضربوه) وأدموا وجهه، كما رواه البيهقي في دلائل النبوة، وقد تقدم .

قال العراقي: والحديث في الصحيح أنه -صلى الله عليه وسلم- قاله حكاية عن نبي من الأنبياء حين ضربه قومه .

(ودعا إبراهيم بن أدهم) رحمه الله تعالى (لمن) سأله عن العمران فأشار به إلى المقبرة، فغضب عليه، وقال: أسألك عن العمران وأنت تشير بي إلى المقبرة؟ فضربه (وشج رأسه) فدعا له (بالمغفرة، فقيل له في ذلك، فقال: أعلم أني مأجور بسببه فلا أرضى أن يكون هو معاقبا بسببي) والقصة أخرجها أبو نعيم في الحلية، وقد تقدمت .

(ومما يهون عليك كراهية المذمة قطع الطمع) عن الناس (فإن من استغنيت عنه مهما ذمك لم يعظم أثر ذلك في قلبك) بل ولم يشعر به (وأصل الدين القناعة، وبها ينقطع الطمع عن الجاه والمال، وما دام الطمع قائما كان حب الجاه والمدح في قلب من طمعت فيه غالبا، وكانت همتك إلى تحصيل المنزلة في قلبه مصروفة، ولا ينال ذلك إلا بهدم الدين) وترك طريق المتقين (فلا ينبغي أن يطمع طالب المال والجاه، ومحب المدح، ومبغض الذم، في سلامة دينه؛ فإن ذلك بعيد جدا) والله الموفق بكرمه .

التالي السابق


الخدمات العلمية