إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ثم أي غرض له في مدحهم ، وإيثار ذم الله لأجل حمدهم ، ولا يزيده حمدهم رزقا ، ولا أجلا ، ولا ينفعه يوم فقره وفاقته ، وهو يوم القيامة ؟! وأما الطمع فيما في أيديهم فبأن يعلم أن الله تعالى هو المسخر للقلوب بالمنع والإعطاء ، وأن الخلق مضطرون فيه ولا رازق إلا الله ، ومن طمع في الخلق لم يخل من الذل والخيبة ، وإن وصل إلى المراد لم يخل عن المنة والمهانة فكيف يترك ما عند الله برجاء كاذب ، ووهم فاسد قد ، يصيب وقد يخطئ وإذا ؟! أصاب فلا تفي لذته بألم منته ومذلته . وأما ذمهم فلم يحذر منه ، ولا يزيده ذمهم شيئا ما لم يكتبه عليه الله ، ولا يعجل أجله ، ولا يؤخر رزقه ، ولا يجعله من أهل النار إن كان من أهل الجنة ، ولا يبغضه إلى الله إن كان محمودا عند الله ، ولا يزيده مقتا إن كان ممقوتا عند الله ، فالعباد كلهم عجزة لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ، ولا يملكون موتا ولا حياتا ولا نشورا .

فإذا قرر في قلبه آفة هذه الأسباب وضررها فترت رغبته وأقبل على الله قلبه فإن العاقل لا يرغب فيما يكثر ضرره ويقل نفعه ، ويكفيه أن الناس لو علموا ما في باطنه من قصد الرياء وإظهار الإخلاص لمقتوه وسيكشف الله عن سره حتى يبغضه إلى الناس ، ويعرفهم أنه مراء وممقوت عند الله ، ولو أخلص لله لكشف الله لهم إخلاصه وحببه إليهم ، وسخرهم له وأطلق ألسنتهم بالمدح والثناء عليه ، مع أنه لا كمال في مدحهم ، ولا نقصان في ذمهم ، كما قال شاعر بني تميم إن مدحي زين وإن ذمي شين فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كذبت ذاك ؛ الله الذي لا إله إلا هو .

» إذ لا زين إلا في مدحه ، ولا شين إلا في ذمه ، فأي خير لك في مدح الناس .

وأنت عند الله مذموم ، ومن أهل النار ؟! وأي شر لك من ذم الناس ، وأنت عند الله محمود في ، زمرة المقربين ؟! فمن أحضر في قلبه الآخرة ونعيمها المؤبد والمنازل الرفيعة عند الله استحقر ما يتعلق بالخلق أيام الحياة ، مع ما فيه من الكدورات والمنغصات واجتمع همه ، وانصرف إلى الله قلبه وتخلص من مذلة الرياء ، ومقاساة قلوب الخلق وانعطف ، من إخلاصه أنوار على قلبه ، ينشرح بها صدره ، وينفتح بها له من لطائف المكاشفات ما يزيد به أنسه بالله ، ووحشته من الخلق ، واستحقاره للدنيا ، واستعظامه للآخرة ، وسقط محل الخلق من قلبه ، وانحل عنه داعية الرياء ، وتذلل له منهج الإخلاص .

فهذا وما قدمناه في الشطر الأول هي الأدوية العلمية القالعة مغارس الرياء .

وأما الدواء العملي فهو أن يعود نفسه إخفاء العبادات وإغلاق الأبواب دونها ، كما تغلق الأبواب دون الفواحش حتى يقنع قلبه بعلم الله واطلاعه ، على عباداته ولا تنازعه ، النفس إلى طلب علم غير الله به .

وقد روي أن بعض أصحاب أبي حفص الحداد ذم الدنيا وأهلها ، فقال : أظهرت ما كان سبيلك أن تخفيه ، لا تجالسنا بعد هذا .

فلم يرخص في إظهار هذا القدر ؛ لأن في ضمن ذم الدنيا دعوى الزهد فيها فلا دواء للرياء مثل الإخفاء ، وذلك يشق في بداية المجاهدة وإذا صبر عليه مدة بالتكلف سقط عنه ثقله ، وهان عليه ذلك بتواصل ألطاف الله وما يمد به عباده من حسن التوفيق ، والتأييد والتسديد ولكن ، الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم فمن العبد المجاهدة ومن الله الهداية ، ومن العبد قرع الباب ومن الله فتح الباب والله لا يضيع أجر المحسنين ، وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما .


(ثم أي غرض له في مدحهم، وإيثار ذم الله تعالى لأجل حمدهم، ولا يزيده حمدهم رزقا، ولا أجلا، ولا ينفعه يوم فقره وفاقته، وهو يوم القيامة؟!

وأما الطمع فيما في أيدي الناس فبأن تعلم بأن الله -تبارك وتعالى- هو المسخر للقلوب بالمنع والإعطاء، وأن الخلق مضطرون فيه) غاية الاضطرار (ولا رازق إلا الله، ومن طمع في الخلق لم يخل عن الذل والخيبة، وإن وصل إلى المراد لم يخل من المنة والمهانة) أي: الذل (فكيف يترك ما عند الله برجاء كاذب، ووهم فاسد، وقد يصيب وقد يخطئ؟! فإذا أصاب) يوما (لا تفي لذته بألم منته ومذلته .

وأما [ ص: 292 ] ذمهم فلم يحذر منه، ولا يزيده ذمهم شيئا مما لم يكتبه الله عليه، ولا يعجل أجله، ولا يؤخر رزقه، ولا يجعله في أهل النار إن كان في أهل الجنة، ولا يبغضه عند الله إن كان محمودا عند الله، ولا يزيده مقتا إن كان ممقوتا عند الله، فالعباد كلهم عجزة) أي: عاجزون في أنفسهم (لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا، ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا، فإذا قرر في قلبه آفة هذه الأسباب وضررها فترت رغبته) أي: ضعفت (وأقبل على الله بقلبه) بكليته (فإن العاقل لا يرغب فيما يكثر ضرره ويقل نفعه، ويكفيه أن الناس لو علموا ما في باطنه من قصد الرياء وإظهار الإخلاص لمقتوه ) أي: أبغضوه (وسيكشف الله عن سره) وما في باطنه (حتى يبغضه إلى الناس، ويعرفهم أنه مراء ممقوت عند الله تعالى، ولو أخلص لله لكشف الله لهم إخلاصه وحببه إليهم، وسخرهم له) وكفاه المؤنة (وأطلق ألسنتهم بالحمد والثناء عليه، مع أنه لا كمال في حمدهم، ولا نقصان في ذمهم، كما قال شاعر بني تميم) هو الأقرع بن حابس: ( إن مدحي زين وإن ذمي شين فقال له صلى الله عليه وسلم: "كذبت؛ ذلك الله رب العالمين الذي لا إله إلا هو" ) .

قال العراقي: رواه أحمد من حديث الأقرع بن حابس، وهو قائل ذلك دون قوله: "كذبت" ورجاله ثقات، إلا أني لا أعرف لأبي سلمة بن عبد الرحمن سماعا من الأقرع.

ورواه الترمذي من حديث البراء، وحسنه، بلفظ: "جاء رجل فقال إن حمدي". اهـ .

قلت: قال الحافظ في الإصابة في ترجمة الأقرع بن حابس: رواه ابن جرير، وابن أبي عاصم، والبغوي، من طريق وهب، عن موسى بن عقبة، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن الأقرع بن حابس "أنه نادى النبي -صلى الله عليه وسلم- من وراء الحجرات فلم يجبه فقال: يا محمد إن حمدي لزين، وإن ذمي لشين، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ذلكم الله".

قال ابن منده: روي عن أبي سلمة أن الأقرع نادى، فذكره مرسلا، وهو الأصح. وكذلك رواه الروياني من طريق عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، قال: "نادى الأقرع" فذكره مرسلا .

وأخرجه أحمد على الوجهين، ووقع في رواية ابن جرير التصريح بسماع أبي سلمة من الأقرع، فهذا يدل على أنه تأخر. اهـ .

وقال السيوطي في الدر المنثور: أخرج أحمد وابن جرير والبغوي وابن مردويه والطبراني بسند صحيح، من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن الأقرع بن حابس أنه أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا محمد اخرج إلينا، فلم يجبه، فقال يا محمد إن حمدي زين وإن ذمي لشين، فقال: ذلك الله، فأنزل الله -عز وجل-: إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون " قال البغوي: لا أعلم روى الأقرع مسندا غير هذا .

وأخرج الترمذي وحسنه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن البراء بن عازب قال: "جاء رجل فقال يا محمد إن حمدي زين، وإن ذمي شين، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ذلك الله".

وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة "أن رجلا جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا محمد إن مدحي زين، وإن شتمي شين، فقال: ذلك هو الله، فنزلت: إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون الآية".

وأخرج ابن إسحاق، وابن مردويه، عن ابن عباس قال: "قدم وفد بني تميم وهم سبعون رجلا، أو ثمانون رجلا، منهم الزبرقان بن بدر، وعطاء بن معبد، وقيس بن عاصم، وقيس بن الحارث، وعمرو بن أهتم المدينة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فانطلق معهم عيينة بن حصن بن بدر الفزاري، وكان يكون في كل سراة، حتى أتوا منزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنادوه من وراء الحجرات، فقالوا: يا محمد إن مدحنا زين، وإن شتمنا شين، نحن أكرم العرب، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: كذبتم، بل مدحة الله الزين وشتمه الشين، وأكرم منكم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، فقالوا: إنما أتيناك لنفاخرك" فذكره بطوله .

وقال في آخره: "فقام التميميون فقالوا: والله إن هذا الرجل لمصنوع له؛ لقد قام في خطبته فكان أخطب من خطيبنا، وقال شاعره فكان أشعر من شاعرنا، قال: ففيهم أنزل الله: إن الذين ينادونك الآية.

(إذ لا زين إلا في مدحه، ولا شين إلا في ذمه، فأي خير لك في مدح الناس، وأنت عند الله مذموم، ومن أهل النار؟! وأي شر لك في ذم الناس، وأنت عند الله محمود، وفي زمرة المقربين؟! فمن أحضر في قلبه الآخرة ونعيمها المؤبد والمنازل الرفيعة عند الله استحقر ما يتعلق بالخلق أيام الحياة الدنيا، مع ما فيه من الكدورات) والغمومات (والمنغصات) التي لا تكاد تفارق الأحوال (واجتمع همه، وانصرف إلى الله قلبه [ ص: 293 ] وتخلص من مذمة الرياء، ومقاساة قلوب الخلق بأنواع التعب، وانعطفت من إخلاصه أنوار) تشرق (على قلبه، ينشرح بها صدره، وينفتح له من لطيف المكاشفات) الإلهية (ما يزيد به أنسه بالله، ووحشته للخلق، واستحقاره للدنيا، واستعظامه للآخرة، وسقط محل الخلق عن قلبه، وانحل عنه داعية الرياء، وتذلل له منهج الإخلاص) أي: سهل له طريقه .

(فهذا وما قدمناه في الشطر الأول هي الأدوية العلمية القالعة مغارس الرياء) المزيلة أصوله ومنابته (وأما الدواء العملي فهو أن يعود نفسه إخفاء العبادات) عن الناس (وإغلاق الأبواب دونها، كما تغلق الأبواب دون الفواحش حتى يقنع قلبه بعلم الله، واطلاعه على عبادته، لا تنازعه النفس إلى طلب علم غير الله به، وقد روي أن بعض أصحاب أبي حفص) عمر بن مسلم (الحداد) المتوفى سنة نيف وستين ومائتين كان واحد الأئمة والشارة (ذم الدنيا وأهلها، فقال له أبو حفص: أظهرت ما كان سبيلك أن تخفيه، لا تجالسنا بعد هذا، فلم يرخص) أبو حفص له (في إظهار هذا القدر؛ لأن في ضمن ذم الدنيا دعوى الزهد فيها) وهو غير لائق بأحوال المخلصين (فلا دواء للرياء) نافع (مثل الإخفاء، وذلك يشق في بداية المجاهدة) وأوائلها (وإذا صبر عليه مدة بالتكلف) ويمرن نفسه عليه (سقط عنه ثقله، وهان عليه ذلك بتواصل ألطاف الله) وتواليها (وما يمد به عباده من حسن التوفيق، والتأييد، ولكن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) كما هو في الكتاب العزيز (فمن العبد المجاهدة ومن الله الهداية، ومن العبد قرع الباب ومن الله فتح الباب) فمن لج بالباب ولج ولج (والله لا يضيع أجر المحسنين، وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية