إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
المقام الثاني في دفع العارض منه في أثناء العبادة ، وذلك لا بد من تعلمه أيضا ؛ فإن من جاهد نفسه ، وقلع مغارس الرياء من قلبه بالقناعة ، وقطع الطمع ، وإسقاط نفسه من أعين المخلوقين ، واستحقار مدح المخلوقين وذمهم ، فالشيطان لا يتركه في أثناء العبادات ، بل يعارضه بخطرات الرياء ، ولا تنقطع عنه نزغاته وهوى النفس وميلها لا ينمحي بالكلية فلا بد وأن يتشمر لدفع ما يعرض من خاطر الرياء .

وخواطر الرياء ، ثلاثة ، قد تخطر دفعة واحدة ، كالخاطر الواحد ، وقد تترادف على التدريج فالأول : العلم باطلاع الخلق ورجاء اطلاعهم .

ثم يتلوه هيجان الرغبة من النفس في حمدهم ، وحصول المنزلة عندهم .

ثم يتلوه هيجان الرغبة في قبول النفس له والركون إليه ، وعقد الضمير على تحقيقه .

فالأول معرفة .

والثاني حالة تسمى الشهوة والرغبة .

والثالث فعل يسمى العزم وتصميم العقد .

وإنما كمال القوة في دفع الخاطر الأول ورده قبل أن يتلوه الثاني ، فإذا خطر له معرفة اطلاع الخلق ، أو رجاء اطلاعهم دفع ذلك بأن قال مالك : وللخلق ، علموا أو لم يعلموا والله ، عالم بحالك فأي ، فائدة في علم غيره ؟! فإن هاجت الرغبة إلى لذة الحمد بذكر ما رسخ في قلبه من قبل من آفة الرياء ، وتعرضه للمقت عند الله في القيامة ، وخيبته في أحوج أوقاته إلى أعماله فكما أن معرفة اطلاع الناس تثير شهوة ورغبة في الرياء ، فمعرفة آفة الرياء تثير كراهة له تقابل تلك الشهوة ؛ إذ يتفكر في تعرضه لمقت الله وعقابه الأليم ، والشهوة تدعوه إلى القبول ، والكراهة تدعوه إلى الإباء ، والنفس تطاوع لا محالة أقواهما وأغلبهما .

فإذا : لا بد في رد الرياء من ثلاثة أمور :

المعرفة والكراهة والإباء
.

وقد يشرع العبد في العبادة على عزم الإخلاص ، ثم يرد خاطر الرياء فيقبله ، ولا تحضره المعرفة ولا الكراهة التي كان الضمير منطويا عليها ، وإنما سبب ذلك امتلاء القلب بخوف الذم ، وحب الحمد ، واستيلاء الحرص عليه ، بحيث لا يبقى في القلب متسع لغيره فيعزب عن القلب المعرفة السابقة بآفات الرياء ، وشؤم عاقبته ؛ إذ لم يبق موضع في القلب خال عن شهوة الحمد أو خوف الذم ، وهو كالذي يحدث نفسه بالحلم وذم الغضب ، ويعزم على التحلم عند جريان سبب الغضب ، ثم يجري من الأسباب ما يشتد به غضبه ، فينسى سابقة عزمه ويمتلئ ، قلبه غيظا ، يمنع من تذكر آفة الغضب ويشغل قلبه ، عنه ، فكذلك حلاوة الشهوة تملأ القلب وتدفع ، نور المعرفة مثل مرارة الغضب .

وإليه أشار جابر بقوله : « بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة على أن لا نفر ولم نبايعه على الموت ، فأنسيناها يوم حنين .

حتى نودي : يا أصحاب الشجرة ، فرجعوا
.

وذلك لأن القلوب امتلأت بالخوف ، فنسيت العهد السابق حتى ذكروا .


(المقام الثاني) *

(في دفع العارض منه في أثناء العبادة، وذلك لا بد من تعلمه أيضا؛ فإن من جاهد نفسه، وقلع مغارس الرياء من قلبه بالقناعة، وقطع الطمع، وإسقاط نفسه عن أعين المخلوقين، واستحقار مدح المخلوقين وذمهم، فالشيطان لا يتركه في أثناء العبادة، بل يعارضه بخطرات الرياء، ولا تنقطع عنه نزغاته) وتسويلاته (وهوى النفس وميلها لا ينمحي بالكلية) بل يبقى أثرها (فلا بد وأن يشمر لدفع ما يعارض من خاطر الرياء، وخواطره ثلاثة، قد تخطر دفعة واحدة، كالخاطر الواحد، وقد تترادف على التدريج) واحدا بعد واحد .

(فالأول: العلم باطلاع الخلق) حالا (أو رجاء اطلاعهم) فيما بعد (ثم يتلوه هيجان الرغبة من النفس في حمدهم له، وحصول المنزلة عندهم) في قلوبهم، وهو الثاني (ثم يتلوه قبول النفس له والركون إليه، وعقد الضمير على تحقيقه) وهو الثالث .

(فالأول معرفة، والثاني حالة تسمى الشهوة والرغبة، والثالث فعل يسمى العزم وتصميم العقد، وإنما كمال القوة في دفع الخاطر الأول ورده قبل أن يتلوه الثاني، فإذا خطر له معرفة اطلاع الخلق، أو رجاء اطلاعهم دفع ذلك بأن قال: ما لك وللخلق، علموا أو لم يعلموا، إن الله عالم بحالك، وأي فائدة في علم غيره؟!

فإن هاجت الرغبة إلى لذة الحمد بذكر ما رسخ في قلبه من قبل آفة الرياء، وتعرضه للمقت عند الله في القيامة، وخيبته في أحوج أوقاته إلى أعماله فكما أن معرفة اطلاع الناس تفتح) وفي نسخة: [ ص: 294 ] تفيد (شهوة ورغبة في الرياء، فمعرفة آفة الرياء تثير كراهة له تقابل تلك الشهوة؛ إذ يتفكر في تعرضه لمقت الله وعقابه الأليم، والشهوة تدعوه إلى القبول، والكراهة تدعوه إلى الإباء، والنفس تطاوع لا محالة أقواهما وأغلبهما .

فإذا: لا بد من رد الرياء من ثلاثة أمور: المعرفة والكراهة والإباء، وقد يشرع العبد في العبادة على عزم الإخلاص، ثم يرد خاطر الرياء، فيغلبه، ولا تحضره المعرفة ولا الكراهة التي كان الغير منطويا عليها، وإنما سبب ذلك امتلاء القلب بخوف الذم، وحب الحمد، واستيلاء الحرص عليه، بحيث لا يبقى في القلب متسع لغيره فيعزب) أي: يغيب (على القلب) وفي نسخة: عن القلب (المعرفة السابقة بآفات الرياء، وشؤم عاقبته؛ إذ لم يبق موضع في القلب خال عن شهوة الحمد) وفي نسخة: عن الشهوة التي للحمد (وخوف الذم، وهو كالذي يحث نفسه بالحلم وذم الغضب، ويعزم على التحلم عند جريان سبب الغضب، ثم يجري من الأسباب ما يشتد به غضبه، فينسى سابق عزمه، ويملأ قلبه غيظا، يمنع من تذكر آفة الغضب، ويشتغل عنه، فكذلك حلاوة الشهوة تملأ القلب، وتمنع) وفي نسخة: تدفع (نور المعرفة مثل مرارة الغضب .

وإليه أشار جابر) بن عبد الله الأنصاري -رضي الله عنه- (بقوله: "بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحت الشجرة) بالحديبية، وهو بئر بقرب مكة على طريق جدة دون مرحلة (على أن لا نفر) إذا لاقينا العدو (ولم نبايعه على الموت، فأنسيناها) وفي نسخة: فأنسيتها (يوم حنين حتى نودي: يا أصحاب الشجرة، فرجعوا") .

قال العراقي: رواه مسلم مختصرا دون ذكر يوم حنين، فرواه مسلم من حديث العباس. اهـ .

قلت: ولفظ مسلم من حديث جابر قال: "كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة، فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشجرة، وهي سميرة، وقال: بايعناه على أن لا نفر، ولم نبايعه على الموت" ورواه كذلك ابن جرير، وابن مردويه. وروى عبد بن حميد، ومسلم، وابن مردويه من حديث معقل بن يسار قال: "لقد رأيتني يوم الشجرة والنبي -صلى الله عليه وسلم- يبايع الناس، وأنا رافع غصنا من أغصانها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن أربع عشرة مائة، ولم نبايعه على الموت، ولكن بايعناه على أن لا نفر".

وروى عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة: "فبايعوه على أن لا يفروا، ولم يبايعوه على الموت".

وأما حديث العباس في قصة حنين فعند مسلم من طريق كثير بن العباس بن عبد المطلب، عن أبيه، وفيه: "فطفق النبي -صلى الله عليه وسلم- يركض بغلته نحو الكفار، وأنا آخذ بلجامها، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بركابه، فقال: يا عباس، ناد: يا أصحاب الشجرة" الحديث .

وأخرجه الدولابي من حديث أبي سفيان بن الحارث بسند منقطع، وقصة حنين قد تقدم الكلام عليها في المعجزات، وحاصله أنه لما انكشفت خيل بني سليم مولية، وتبعهم أهل مكة والناس، ولم يثبت معه إلا عمه العباس وأبو سفيان بن الحارث وأبو بكر وأسامة في أناس من أهل بيته، وأصحابه، قال العباس: وأنا آخذ بلجام بغلته أكفها مخافة أن تصل إلى العدو، وأبو سفيان آخذ بركابه، وجعل -صلى الله عليه وسلم- يأمر العباس بمناداة الأنصار، وأصحاب الشجرة، فناداهم، وكان صيتا، فلما سمعوه أقبلوا كأنهم الإبل حنت على أولادها، يقولون يا لبيك يا لبيك! فتراجعوا حتى إن من لم يطاوعه بعيره نزل عنه، ورجع ماشيا، فأمرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يصدقوا الحملة، فاقتتلوا مع الكفار، فنصرهم الله (وذلك لأن القلوب امتلأت بالخوف، فنسيت العهد السابق حتى ذكروا) بمناداة العباس، فرجعوا .

التالي السابق


الخدمات العلمية