إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وكذلك العجب بالسكوت المباح محذور ، فهو عدول عن مباح إلى مباح حذرا من العجب .

فأما الكلام الحق المندوب إليه فلم ينص عليه ، على أن الآفة مما تعظم في الكلام ، فهو واقع في القسم الثاني وإنما كلامنا في العبادات الخاصة ببدن العبد مما لا يتعلق بالناس ، ولا تعظم فيه الآفات ، ثم كلام الحسن في تركهم البكاء وإماطة الأذى لخوف الشهرة ربما كان حكاية أحوال الضعفاء الذين لا يعرفون الأفضل ، ولا يدركون هذه الدقائق ، وإنما ذكره تخويفا للناس من آفة الشهرة وزجرا من ؛ طلبها .

القسم الثاني : ما يتعلق بالخلق ، وتعظم فيه الآفات والأخطار ، وأعظمها الخلافة ثم القضاء ثم التذكير والتدريس والفتوى ، ثم إنفاق المال .

أما الخلافة والإمارة فهي من أفضل العبادات إذا كان ذلك مع العدل والإخلاص ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « ليوم من إمام عادل خير من عبادة الرجل وحده ستين عاما فأعظم بعبادة يوازي يوم منها عبادة ستين سنة! وقال صلى الله عليه وسلم: « أول من يدخل الجنة ثلاثة : الإمام المقسط أحدهم .

وقال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ثلاثة لا ترد دعوتهم : الإمام العادل أحدهم» ، وقال صلى الله عليه وسلم: « أقرب الناس مني مجلسا يوم القيامة إمام عادل » رواه أبو سعيد الخدري .

فالإمارة والخلافة من أعظم العبادات ، ولم يزل المتقون يتركونها ويحترزون منها ، ويهربون من تقلدها ؛ وذلك لما فيه من عظم الخطر ؛ إذ تتحرك بها الصفات الباطنة ، ويغلب النفس حب الجاه ، ولذة الاستيلاء ، ونفاذ الأمر ، وهو أعظم ملاذ الدنيا ، فإذا صارت الولاية محبوبة كان الوالي ساعيا في حظ نفسه ويوشك ، أن يتبع هواه ، فيمتنع من كل ما يقدح في جاهه وولايته ، وإن كان حقا ويقدم على ما يزيد في مكانته وإن كان باطلا ، وعند ذلك يهلك ، ويكون يوم من سلطان جائر شرا من فسق ستين سنة ، بمفهوم الحديث الذي ذكرناه .

ولهذا الخطر العظيم كان عمر رضي الله عنه يقول : من يأخذها بما فيها ؟! وكيف لا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « ما من والي عشرة إلا جاء يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه ، أطلقه عدله أو أوبقه جوره » . .

رواه معقل بن يسار وولاه عمر ولاية فقال : « يا أمير المؤمنين ، أشر علي قال : اجلس ، واكتم علي .

». وروى الحسن أن « رجلا ولاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال للنبي : خر لي قال : اجلس » . .

وكذلك حديث عبد الرحمن بن سمرة إذ قال له النبي صلى الله عليه وسلم : « يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة ؛ فإنك إن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها ، وإن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها » . .

وقال أبو بكر رضي الله عنه لرافع بن عمر لا تأمر على اثنين ، ثم ولي هو الخلافة فقام بها ، فقال له رافع : ألم تقل لي : لا تأمر على اثنين ، وأنت قد وليت أمر أمة محمد ، صلى الله عليه وسلم ! فقال : بلى ، وأنا أقول لك ذلك ، فمن لم يعدل فيها فعليه بهلة الله يعني : لعنة الله .

ولعل القليل البصيرة يرى ما ورد من فضل الإمارة مع ما ورد من النهي عنها متناقضا ، وليس كذلك ، بل الحق فيه أن الخواص الأقوياء في الدين لا ينبغي أن يمتنعوا من تقلد الولايات وأن الضعفاء لا ينبغي أن يدوروا بها فيهلكوا وأعني بالقوي الذي لا تميله الدنيا ، ولا يستفزه الطمع ولا تأخذه في الله لومة لائم ، وهم الذين سقط الخلق عن أعينهم وزهدوا في الدنيا ، وتبرموا بها ، وبمخالطة الخلق وقهروا أنفسهم وملكوها وقمعوا الشيطان فأيس منهم فهؤلاء لا يحركهم إلا الحق ، ولا يسكنهم إلا الحق ، ولو زهقت فيهم أرواحهم ، فهم أهل نيل الفضل في الإمارة والخلافة ، ومن علم أنه ليس بهذه الصفة فيحرم عليه الخوض في الولايات .

ومن جرب نفسه فرآها صابرة على الحق كافة عن الشهوات في غير الولايات ولكن خاف عليها أن تتغير إذا ذاقت لذة الولاية ، وأن تستحلي الجاه ، وتستلذ نفاذ الأمر ، فتكره العزل فيداهن ؛ خيفة من العزل فهذا قد اختلف العلماء في أنه هل يلزمه الهرب من تقلد الولاية فقال قائلون : لا يجب ؛ لأن هذا خوف أمر في المستقبل وهو في الحال لم يعهد نفسه إلا قوية في ملازمة الحق ، وترك لذات النفس ، والصحيح أن عليه الاحتراز ؛ لأن النفس خداعة مدعية للحق ، واعدة بالخير ، فلو وعدت بالخير جزما لكان يخاف عليها أن تتغير عند الولاية ، فكيف إذا أظهرت التردد .

والامتناع عن قبول الولاية ؟! أهون من العزل بعد الشروع فالعزل ، مؤلم ، وهو كما قيل العزل : طلاق الرجال فإذا شرع لا تسمح نفسه بالعزل ، وتميل نفسه إلى المداهنة ، وإهمال الحق وتهوي ، به في قعر جهنم ولا يستطيع النزوع منه إلى الموت إلا أن يعزل قهرا وكان فيه عذاب عاجل على كل محب للولاية .

ومهما مالت النفس إلى طلب الولاية ، وحملت على السؤال والطلب فهو أمارة الشر ؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم أنا : لا نولي أمرنا من سألنا .


(وكذلك العجب في السكوت المباح محذور، فهو عدول من مباح إلى مباح حذرا من) الوقوع [ ص: 313 ] في (العجب، فأما الكلام الحق المندوب إليه فلم ينص عليه، على أن الآفة مما تعظم في الكلام، فهو واقع في القسم الثاني) الآتي ذكره بعد هذا .

(وإنما كلامنا في العبادات الخاصة ببدن العبد مما لا يتعلق بالناس، ولا تعظم فيه الآفات، ثم كلام الحسن) البصري رحمه الله تعالى (في تركهم البكاء وإماطة الأذى لخوف الشهرة ربما كان حكاية أحوال الضعفاء الذين لا يعرفون الأفضل، ولا يدركون هذه الدقائق، وإنما ذكره تخويفا للناس من آفة الشهرة؛ زجرا عن طلبها .

القسم الثاني: ما يتعلق به الخلق، وتعظم فيه الآفات والأخطار، وأعظمها الخلافة) أي: الولاية العامة (ثم القضاء) وهي الولاية الخاصة (ثم التذكير) والوعظ على العامة (ثم التدريس) للعلوم الشرعية (والفتوى، ثم إنفاق الأموال) على الناس .

(أما الخلافة والإمارة فهي من أفضل العبادات إذا كان مع العدل والإخلاص، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ليوم من إمام عادل خير من عبادة الرجل وحده ستين عاما) . قال العراقي: رواه الطبراني والبيهقي من حديث ابن عباس، وقد تقدم. اهـ .

قلت: لفظهما: "يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة، وحد يقام في الأرض بحقه أزكى فيها من مطر أربعين عاما" وقد رويت الجملة الأخيرة من حديث أبي هريرة بلفظ: "حد يقام في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحا".

(فأعظم بعبادة يوازي يوم منها عبادة ستين سنة! وقال صلى الله عليه وسلم: "أول من يدخل الجنة ثلاثة: الإمام المقسط أحدهم) قال العراقي: رواه مسلم من حديث عياض بن حمار: "أهل الجنة ثلاث: ذو سلطان مقسط" ولم أر فيه ذكر الأولية. اهـ .

(وقال أبو هريرة) رضي الله عنه: (قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل أحدهم") وتمام الحديث: "والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، ويفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب -تبارك وتعالى-: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين" هكذا رواه الطيالسي، وأحمد، والترمذي وقال: حسن، وابن ماجه، والبيهقي.

وروى ابن حبان صدره إلى قوله: "المظلوم" وقد تقدم في كتاب الصوم .

وروى ابن أبي شيبة بلفظ: "الإمام العادل لا ترد دعوته".

(وقال صلى الله عليه وسلم: "أقرب الناس مني منزلا يوم القيامة إمام عادل" رواه أبو سعيد الخدري) رضي الله عنه .

قال العراقي: رواه الأصبهاني في الترغيب والترهيب من رواية عطية العوفي، وهو ضعيف عنه، وفيه أيضا: إسحاق بن إبراهيم الديباجي، ضعف أيضا. اهـ .

قلت: رواه أحمد، والترمذي وقال: حسن غريب، والبيهقي بلفظ: "إن أحب عباد الله يوم القيامة وأدناهم منه مجلسا إمام عادل، وأبغض الناس إلى الله وأبعدهم منه مجلسا -وفي لفظ: وأشدهم عذابا إمام جائر".

(فالإمارة والخلافة من أعظم العبادة، ولم يزل المتقون يحترزون منها، ويهربون من تقلدها؛ وذلك لما فيها من عظم الخطر؛ إذ تتحرك به الصفات الباطنة، ويغلب على النفس حب الجاه، ولذة الاستيلاء، ونفاذ الأمر، وهو أعظم ملاذ الدنيا، فإذا صارت الولاية محبوبة كان الوالي ساعيا في حظ نفسه، وأوشك أن يتبع هواه، فيمتنع من كل ما يقدح في جاهه وولايته، وإن كان حقا ويقدم على ما يزيد من مكانته) أي: منزلته وقدره (وإن كان باطلا، وعند ذلك يهلك، ويكون يوم من سلطان جائر شرا من فسق ستين سنة، بمفهوم الحديث الذي ذكرناه) وهو حديث ابن عباس (ولهذا الخطر العظيم كان عمر) رضي الله عنه (يقول: من يأخذها) أي الإمارة (بما فيها؟!) أي: من الأخطار .

وروى ابن أبي الدنيا في مواعظ الخلفاء بلفظ: "فقال عمر: واعمراه! من يتولاها بما فيها؟! وقد تقدم للمصنف في كتاب الأمر بالمعروف .

وروى أبو نعيم في الحلية من طريق الأوزاعي، عن سماك، عن ابن عباس قال: "لما طعن [ ص: 314 ] عمر دخلت عليه فقلت: أبشر أمير المؤمنين؛ فإن الله قد مصر بك الأمصار، ودفع بك النفاق، وأفشى بك الرزقة، فقال: أفي الإمارة تثني علي يا ابن عباس، فقلت: وفي غيرها، فقال: والذي نفسي بيده لوددت أني خرجت منها كما دخلت فيها لا أجر ولا وزر".

(وكيف لا وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ما من والي عشيرة إلا جاء يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه، أطلقه عدله أو أوبقه جوره" رواه معقل بن يسار) بن عبد البر المزني -رضي الله عنه- شهد الحديبية، ونزل البصرة.

قال العراقي: رواه أحمد من حديث عبادة بن الصامت، ورواه أحمد والبزار من رواية رجل لم يسم، عن سعد بن عبادة، وفيهما يزيد بن زياد، متكلم فيه .

ورواه أحمد والبزار وأبو يعلى والطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة، ورواه البزار والطبراني من حديث بريرة، والطبراني في الأوسط من حديث ابن عباس وثوبان، وله من حديث أبي الدرداء: "ما من والي ثلاثة إلا لقي الله مغلولة يمينه" الحديث، وقد عزا المصنف هذا الحديث لرواية معقل بن يسار، والمعروف من حديث معقل بن يسار: "ما من عبد يسترعيه الله رعية لم يحطها بنصحه إلا لم يرح رائحة الجنة" متفق عليه. انتهى .

قلت: سياق المصنف رواه الضياء في المختارة من حديث ثوبان، وأما حديث معقل بن يسار فلفظه عند الحاكم في الكنى، والطبراني في الكبير: "ما من وال ولي من أمر المسلمين شيئا فلم يحط من ورائهم بالنصيحة إلا كبه الله على وجهه في جهنم يوم يجمع الله الأولين والآخرين" ولفظ مسلم: "ما من أمير يلي أمر المسلمين ثم لم يجهد لهم ولم ينصح إلا لم يدخل معهم الجنة".

وأما حديث أبي الدرداء فلفظه: "ما من والي ثلاثة إلا لقي الله مغلولا يمينه إلى عنقه، فكه عدله أو غله جوره" هكذا رواه ابن عساكر أيضا .

وروى أحمد من حديث أبي أمامة: "ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك إلا أتى الله عز وجل مغلولا يده إلى عنقه، فكه عدله أو أوبقه إثمه، أولها ملامة، وأوسطها ندامة، وآخرها خزي يوم القيامة".

وروى النسائي من حديث أبي هريرة: "ما من أمير ثلاثة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه، أطلقه الحق أو أوبقه".

ورواه البيهقي بلفظ: "ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة ويده مغلولة إلى عنقه".

وعند الطبراني من حديث ابن عباس: "ما من أمير يؤمر على عشرة إلا سئل عنهم يوم القيامة".

وأما حديث سعد بن عبادة فلفظه عند أحمد: "ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولا يده إلى عنقه، لا يفكه من غله ذلك إلا العدل" هكذا رواه سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والطبراني، والبيهقي.

وروى ابن أبي شيبة، والبيهقي، وابن عساكر من حديث أبي هريرة: "ما من أمير عشرة إلا وهو يؤتى به يوم القيامة مغلولا حتى يفكه العدل أو يوبقه الجور".

(وولاه) أي: معقل بن يسار (عمر) رضي الله عنه (ولاية) قبل ولاية البصرة (فقال: "يا أمير المؤمنين، أشر علي، فقال: اجلس، واكتم علي" .

وروى الحسن ) البصري رحمه الله تعالى: ("إن رجلا ولاه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال) الرجل (للنبي -صلى الله عليه وسلم-: خر لي، فقال: اجلس") .

قال العراقي: رواه الطبراني موصولا من حديث عصمة، هو ابن مالك، وفيه الفضل بن المختار، أحاديثه منكرة، يحدث بالأباطيل .

قال أبو حاتم: ورواه أيضا من حديث ابن عمر بلفظ: "الزم بيتك" وفيه الفرات بن أبي الفرات، ضعفه ابن معين، وابن عدي، وقال أبو حاتم: صدوق. اهـ .

وقال الحافظ في الإصابة: عصمة بن مالك الخطمي له أحاديث، أخرجها الدارقطني والطبراني وغيرهما، مدارها على الفضل بن المختار، وهو ضعيف جدا .

(وكذلك حديث عبد الرحمن بن سمرة) العبشمي القرشي -رضي الله عنه- (إذ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا عبد الرحمن) بن سمرة ( لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها، وإن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها") رواه أحمد، وابن أبي شيبة، والشيخان، وأبو داود والترمذي، بزيادة: "وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير".

ورواه ابن عساكر بلفظ: "لا تسأل الإمارة؛ فإنه من سألها وكل إليها، ومن ابتلي إليها ولم يسألها أعين عليها".

(وقال أبو بكر) رضي الله عنه (لرافع بن عمر) الطائي: (لا تأمر على اثنين، ثم ولي هو الخلافة، فقال له رافع: ألم تقل لي: لا تأمر على اثنين، وأنت قد وليت أمر أمة محمد، صلى الله عليه وسلم! فقال: بلى، وأنا أقول لك ذلك، فمن لم يعدل فعليه بهلة الله، أي: لعنة الله) .

روى ابن المبارك في الزهد، عن رافع الطائي قال: "صحبت أبا [ ص: 315 ] بكر في غزاة، فلما قفلنا قلت: أوصني، قال: أتم الصلاة المكتوبة" فساق الحديث، وفيه: "ولا تكونن أميرا" ثم قال: "إن هذه الإمارة التي ترى اليوم يسير، وقد أوشك أن تفشو وتكثر حتى ينالها من ليس لها بأهل، وإنه من يكن أميرا فإنه من أطول الناس حسابا، وأغلظه عذابا" الحديث .

وروى الدينوري في المجالسة عن رافع الطائي قال: خطب أبو بكر -رضي الله عنه- فذكر المسلمين، فقال: "من ظلم أحدا فقد أخفر ذمة الله، ومن ولي من أمور المسلمين شيئا فلم يعظهم كتاب الله فعليه بهلة الله".

(ولعل القليل البصيرة يرى ما ورد في فضل الإمارة مع ما ورد من النهي عنها متناقضا، وليس كذلك، بل الحق فيه أن الخواص الأقوياء في الدين لا ينبغي أن يمتنعوا من تقلد الولايات) لقوتهم وصلابتهم في الدين (وأن الضعفاء) في المعرفة (لا ينبغي أن يدوروا بها فيهلكوا) لعدم تحملهم لذلك، فيكون سببا لهلاكهم .

(وأعني بالقوي الذي لا تميله الدنيا، ولا يستفزه الطمع) أي: لا يحركه ولا يحمله (ولا يأخذه في الله لومة لائم، وهم الذين سقط الخلق في أعينهم) فلم تكن لهم منزلة عندهم (وزهدوا في الدنيا، وتبرموا بها، وبمخالطة الخلق) أي: ضجروا (وقهروا أنفسهم) فأماتوها وملكوها وقمعوا الشيطان فأيس منهم، فلا يحول حول حماهم .

(فهؤلاء لا يحركهم إلا الحق، ولا يسكنهم إلا الحق، ولو زهقت فيه أرواحهم، فهم أهل نيل الفضل في الإمارة والخلافة، ومن علم أنه ليس بهذه الصفة فيحرم عليه الخوض في الولايات) والدوران لطلبها (ومن جرب نفسه فرآها صابرة على الحق كافة عن الشهوات في غير الولاية لكن خاف عليها أن تتغير) عن حالتها الأولى (إذا ذاقت لذة الولاية، وأن تستحلي الجاه، وتستلذ نفاذ الأمر فيه، فتكره العزل) عنها (فتداهن؛ خيفة من العزل - فهذا قد اختلف العلماء في أنه هل يلزمه الهرب من تقلد الولاية) أم لا؟

(فقال قائلون: لا يجب؛ لأن هذا خوف أمر في المستقبل) أي: فيما سيعرض (وهو في الحال لم يعهد نفسه إلا قويا في ملازمة الحق، وترك لذات النفس، والصحيح أن عليه الاحتراز؛ لأن النفس خداعة مدعية للحق، واعدة بالخير، فلو) أنها (وعدت بالخير جزما لكان يخاف عليها أن تتغير عند الولاية، فكيف إذا أظهرت التردد والامتناع عن قبول الولاية؟! أهون من العزل بعد الشروع، والعزل مؤلم، وهو كما قيل: طلاق الرجال) .

وسبب كون العزل مؤلما نفور النفس عن مفارقة ما ألفته من لذة الاستيلاء، وملك القلوب، ونفاذ الأمر .

(فإذا شرع) في الولاية (لا تسمح نفسه بالعزل، وتميل نفسه إلى المداهنة، وإهمال الحق، ويهوي به في قعر جهنم) أي: يسقط فيه (ولا يستطيع النزوع منه إلى الموت) برضا نفسه (إلا أن يعزل قهرا) على نفسه (وكان فيه عذاب عاجل على كل محب للولاية .

ومهما مالت النفس إلى طلب الولاية، وحملت على السؤال والطلب) لها (فهو إمارة الشر؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "لا نولي أمرنا من سألناه) قال العراقي: متفق عليه من حديث أبي موسى.

التالي السابق


الخدمات العلمية