إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وإذ قد ذكرنا ذم الكبر والاختيال فلنذكر فضيلة التواضع والله تعالى أعلم .

بيان فضيلة التواضع .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا ، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله .

وقال صلى الله عليه وسلم : ما من أحد إلا ومعه ملكان وعليه حكمة يمسكانه بها ، فإن هو رفع نفسه جبذاها ، ثم قالا : اللهم ضعه وإن وضع نفسه قالا : اللهم ارفعه .

وقال صلى الله عليه وسلم : طوبى لمن تواضع في غير مسكنة وأنفق مالا جمعه في غير معصية ورحم أهل الذل والمسكنة وخالط أهل الفقه والحكمة . وعن أبي سلمة المديني ، عن أبيه ، عن جده قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا بقباء وكان صائما ، فأتيناه عند إفطاره بقدح من لبن ، وجعلنا فيه شيئا من عسل ، فلما رفعه وذاقه وجد حلاوة العسل ، فقال : ما هذا ? قلنا : يا رسول الله جعلنا فيه شيئا من عسل فوضعه وقال : أما إني لا أحرمه ، ومن تواضع لله رفعه الله ، ومن تكبر وضعه الله ، ومن اقتصد أغناه الله ، ومن بذر أفقره الله ومن أكثر ذكر الله أحبه الله .

وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في نفر من أصحابه في بيته يأكلون ، فقام سائل على الباب وبه زمانة يتكره منها فأذن له ، فلما دخل أجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذه ، ثم قال له : اطعم فكأن رجلا من قريش اشمأز منه وتكره ، فما مات ذلك الرجل حتى كانت به زمانة مثلها .


(وإذ ذكرنا ذم الكبر والاختيال فلنذكر) الآن (فضيلة التواضع) وما فيه من الأخبار والآثار، والله الموفق .

* (بيان فضيلة التواضع) *

وهو تفاعل من الوضع بمعنى الخشوع والذل، والفرق بين التواضع والضعة أن التواضع رضا الإنسان بمنزلة دون ما تستحقه منزلته، والضعة وضع الإنسان نفسه بمحل يزرى به، والفرق بين التواضع والخشوع أن التواضع يعتبر بالأخلاق والأفعال الظاهرة والباطنة، والخشوع يقال باعتبار أفعال الجوارح؛ ولذلك قيل: إذا تواضع القلب خشعت الجوارح .

قال الراغب: وقال ابن القيم: الفرق بين التواضع والمهانة أن التواضع يتولد من بين العلم بالله وصفاته ومحبته وإجلاله وبين معرفته بنفسه ونقائصها وعيوب عمله وآفاتها، فيتولد من ذلك خلق هو التواضع، وهو انكسار القلب لله، وخفض جناح الذل والرحمة للخلق، والمهانة الدناءة والخسة وابتذال النفس في نيل حظوظها، كتواضع الفاعل للمفعول به .

(قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله) قال العراقي: رواه مسلم من حديث أبي هريرة، وقد تقدم .

(وقال صلى الله عليه وسلم: ما من أحد) ما نافية، ومن زائدة، وهي هنا تفيد عموم النفي، وتحسين دخول ما على النكرة (إلا ومعه ملكان) موكلان به (وعليه حكمة) محركة، وهي نحو لجام الدابة، سميت بذلك؛ لأنها تذللها لراكبها حتى يمنعها الجماح ونحوه، ومنه اشتقاق الحكمة بالكسر؛ لأنها تمنع صاحبها من أخلاق الأراذل (يمسكانه بها، فإن هو رفع نفسه) على غيره واستعلى (جبذاها، ثم قالا: اللهم ضعه) وهو كناية عن إذلاله (وإن وضع نفسه) للحق والخلق (قالا: اللهم ارفعه) وهو كناية عن إعزاره ورفع قدره .

[ ص: 351 ] قال العراقي: رواه العقيلي في الضعفاء، والبيهقي أيضا من حديث ابن عباس، وكلاهما ضعيف. اهـ .

قلت: حديث ابن عباس رواه الطبراني في الكبير، وحديث أبي هريرة رواه البزار، قال المنذري والهيثمي: إسنادهما حسن، وتبعهما السيوطي فرمز لحسنه، ولفظهما: "ما من آدمي إلا وفي رأسه حكمة بيد ملك، فإذا تواضع قيل للملك: ارفع حكمته، وإذا تكبر قيل للملك: ضع حكمته" لكن قال ابن الجوزي: حديث لا يصح .

وروى الخرائطي في مساوئ الأخلاق، والحسن بن سفيان في مسنده، وابن لال في مكارم الأخلاق، والديلمي، من حديث ابن عباس: "ما من آدمي إلا وفي رأسه سلسلتان؛ سلسلة في السماء السابعة وسلسلة في الأرض السابعة، فإذا تواضع رفعه الله بالسلسلة إلى السماء السابعة، وإذا تجبر وضعه الله بالسلسلة إلى الأرض السابعة".

وقد روي ذلك من حديث أنس عند ابن صصرى في أماليه، بلفظ: "ما من آدمي إلا في رأسه حكمة بيد ملك، فإذا تواضع رفعه الله، وإن ارتفع قمعه الله، والكبرياء رداء الله، فمن نازع الله قمعه".

وعند أبي نعيم في الحلية والديلمي بلفظ: "ما من آدمي إلا وفي رأسه حكمة بيد ملك، فإن تواضع رفعه بها، وقال: ارتفع، رفعك الله، وإن رفع نفسه جذبه إلى الأرض، وقال: اخفض، خفضك الله".

(وقال صلى الله عليه وسلم: طوبى لمن تواضع في غير مسكنة) بأن لا يضع نفسه بمكان يزرى به، ويؤدي إلى تضييع حق الحق أو الخلق، فالقصد بالتواضع خفض الجناح للمؤمنين مع بقاء عزة الدين (وأنفق مالا جمعه في غير معصية) أي: صرفه في وجوه الطاعات (ورحم أهل الذل والمسكنة) أي: رق لهم وواساهم بمقدوره (وخالط أهل الفقه والحكمة) رواه البخاري في التاريخ، والبغوي في معجم الصحابة، والباوردي، وابن قانع، والطبراني، وتمام، والبيهقي، وابن عساكر، من رواية نصيح العبسي، عن ركب المصري، وله صحبة، مرفوعا بلفظ: "طوبى لمن تواضع في غير منقصة، وذل نفسه في غير مسكنة، وأنفق من مال جمعه في غير معصية، وخالط أهل الفقه والحكمة، ورحم أهل الذل والمسكنة، طوبى لمن ذل نفسه، وطاب كسبه، وحسنت سريرته، وعزل عن الناس شره، طوبى لمن عمل بعلمه، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله".

وروى بعض ذلك البزار من حديث أنس، وقد تقدم بعضه في كتاب العلم، وبعضه في آفات اللسان، وذكرنا هنالك الكلام على راويه ومرتبة الحديث .

(وعن أبي سلمة المديني، عن أبيه، عن جده قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندنا بقباء) وهو على ميلين من المدينة من جهة الجنوب (وكان صائما، فأتيناه عند إفطاره بقدح من لبن، وجعلنا فيه شيئا من عسل، فلما رفعه فذاقه وجد حلاوة العسل، فقال: ما هذا؟ قلنا: يا رسول الله جعلنا فيه شيئا من عسل فوضعه) من يده على الأرض (وقال: أما إني لا أحرمه، ومن تواضع لله رفعه الله، ومن تكبر وضعه الله، ومن اقتصد) أي: توسط في معيشته (أغناه الله، ومن بذر) أي: فرق ماله في غير موضعه (أفقره الله ومن أكثر ذكر الله أحبه الله) قال العراقي: رواه البزار من رواية طلحة بن عبيد الله، عن جده طلحة، فذكر نحوه، دون قوله: "ومن أكثر ذكر الله أحبه الله" ولم يقل: "بقباء" وقال الذهبي في الميزان: إنه خبر منكر، وقد تقدم .

رواه الطبراني في الأوسط من حديث عائشة، قالت: "أتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقدح فيه لبن وعسل" الحديث، وفيه: "أما إني لا أزعم أنه حرام" الحديث، وفيه: "ومن أكثر ذكر الموت أحبه الله".

وروى المرفوع منه أحمد وأبو يعلى، من حديث أبي سعيد دون قوله: "ومن بذر أفقره الله" وذكر فيه قوله: "ومن أكثر ذكر الله أحبه الله" وتقدم في ذم الدنيا. اهـ .

قلت: هو في نوادر الأصول للحكيم الترمذي من طريق محمد بن علي "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتاه أوس بن خولي بقدح فيه لبن وعسل، فوضعه، وقال: أما إني لا أحرمه، ولكن أتركه تواضعا لله؛ فإن من تواضع لله رفعه الله، ومن اقتصد أغناه، ومن بذر أفقره الله".

وروى ابن منده في معجم الصحابة، وأبو عبيد من حديث أوس بن خولي: "من تواضع لله رفعه الله، ومن تكبر وضعه الله" وقال البغوي: لا أعلم لأوس بن خولي حديثا مسندا .

قال الحافظ: بل له حديث مسند، أورده ابن منده من طريق عبد بن أبي هالة، عن أوس بن خولي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: "من تواضع لله رفعه الله" وفي إسناده خارجة بن مصعب، وهو ضعيف، وفيه من [ ص: 352 ] لا يعرف أيضا .

وروى أبو نعيم في الحلية من حديث أبي هريرة: "من تواضع لله رفعه الله" وزاد ابن النجار: "ومن اقتصد أغناه الله، ومن ذكر الله أحبه الله".

وروى ابن شاهين في الترغيب في الذكر من حديثه بسند رجاله ثقات: "من أكثر ذكر الله أحبه الله".

(وروي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في نفر من أصحابه في بيته يأكلون، فقام سائل على الباب وبه زمانة) وهو مرض يدوم زمانا طويلا (يتكره منها) وفي نسخة: منكرة (فأذن له، فلما دخل أجلسه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على فخذه، ثم قال: اطعم) أي: كل (وكأن رجلا من قريش اشمأز منه، وتكرهه، فما مات ذلك الرجل حتى كانت به زمانة مثلها) .

قال العراقي: لم أجد له أصلا، والموجود "أكله مع مجذوم" رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث جابر، وقال الترمذي: غريب. اهـ .

وما روي عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، رفعه، قال: "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، واتقوا المجذوم كما يتقى الأسد" فالمعنى الفرار منه خوفا من العدوى، لا كما يتوهمه العامة، ثم إن هذا في حق ضعيف اليقين، وإلا فقد ورد: "لا يعدي شيء شيئا" و"لا عدوى" ونحو ذلك، كما قرر في محاله .

ويؤيد الجملة الأخيرة من الحديث ما رواه البيهقي، عن يحيى بن جابر قال: "ما عاب رجل قط رجلا بعيب إلا ابتلاه الله بذلك العيب".

وعن إبراهيم النخعي قال: "إني لأرى الشيء فأكرهه، فلا يمنعني أن أتكلم فيه إلا مخافة أن أبتلى بمثله".

ويروى عن ابن مسعود قال: "لو سخرت من كلب خشيت أن أحول كلبا" وقال عمرو بن شرحبيل: "لو رأيت رجلا يرضع عنزا فضحكت منه لخشيت أن أصنع مثل ما صنع" إلى غير ذلك مما تقدم بعضه .

التالي السابق


الخدمات العلمية