إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
القسم الثاني : التكبر على الرسل من حيث تعزز النفس وترفعها على الانقياد لبشر مثل سائر الناس وذلك تارة ؛ يصرف عن الفكر والاستبصار ، فيبقى في ظلمة الجهل بكبره ، فيمتنع عن الانقياد ، وهو ظان أنه محق فيه وتارة يمتنع مع المعرفة ولكن لا تطاوعه نفسه للانقياد للحق والتواضع للرسل ، كما حكى الله قولهم : أنؤمن لبشرين مثلنا وقولهم إن أنتم إلا بشر مثلنا ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا وقالوا لولا أنزل عليه ملك .

وقال فرعون فيما أخبر الله عنه : أو جاء معه الملائكة مقترنين وقال الله تعالى واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق فتكبر هو على الله وعلى رسله جميعا .

قال وهب قال له موسى عليه السلام آمن ولك ملكك ، قال : حتى أشاور هامان فشاور هامان فقال هامان : بينما أنت رب يعبد إذ صرت عبدا تعبد فاستنكف عن عبودية الله ، وعن اتباع موسى عليه السلام .

وقالت قريش فيما أخبر الله تعالى عنهم : لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم قال قتادة عظيم القريتين هو الوليد بن المغيرة وأبو مسعود الثقفي طلبوا من هو أعظم رياسة من النبي صلى الله عليه وسلم إذ قالوا : غلام يتيم كيف بعثه الله إلينا ? فقال تعالى : أهم يقسمون رحمت ربك وقال الله تعالى : ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أي : استحقارا لهم ، واستبعادا لتقدمهم .

وقالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم : « كيف نجلس إليك وعندك هؤلاء وأشاروا ؟! إلى فقراء المسلمين ، فازدروهم بأعينهم لفقرهم ، وتكبروا عن مجالستهم ، فأنزل الله تعالى : ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي إلى قوله ما عليك من حسابهم ، وقال تعالى: واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ثم أخبر الله تعالى عن تعجبهم حين دخلوا جهنم إذا لم يروا الذين ازدروهم فقالوا : ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار قيل يعنون : عمارا وبلالا وصهيبا والمقداد رضي الله عنهم ثم كان منهم من منعه الكبر عن الفكر والمعرفة فجهل كونه صلى الله عليه وسلم محقا ، ومنهم من عرف ومنعه الكبر عن الاعتراف ، قال الله تعالى مخبرا عنهم : فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به وقال وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا وهذا الكبر قريب من التكبر على الله عز وجل ، وإن كان دونه ، ولكنه تكبر على قبول أمر الله والتواضع لرسوله .


(القسم الثاني: التكبر على الرسل) الكرام (من حيث تعزز النفس وترفعها [ ص: 364 ] عن الانقياد) والامتثال لما يأمرون (لبشر مثل سائر الناس؛ ولذلك يصرف تارة عن الفكر والاستبصار، فيبقى في ظلمة الجهل بكبره، فيمتنع عن الانقياد، وهو ظان أنه محق فيه) وهذا لا معرفة معه إن يظن إلا ظنا (وتارة يمتنع) عن الانقياد (مع المعرفة ولكن لا تطاوعه نفسه للانقياد للحق والتواضع للرسل، كما حكى الله -عز وجل- عن قولهم: أنؤمن لبشرين مثلنا وقوله) عنهم: ( إن أنتم إلا بشر مثلنا ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا وقالوا لولا أنزل عليه ملك وقال فرعون فيما أخبر الله عنه: أو جاء معه الملائكة مقترنين وقال تعالى: واستكبر هو وجنوده في الأرض فتكبر على الله وعلى رسوله جميعا) وكبره على الله بادعائه الألوهية والربوبية، وكبره على الرسول بعدم الانقياد لما جاء به .

(وقال وهب) بن منبه -رحمه الله تعالى-: يروى أنه (قال له موسى -عليه السلام- آمن) بالله (ولك ملكك، قال: حتى أشاور هامان) وكان وزيره الذي يصدر عن رأيه، فشاور هامان (فقال هامان: بينما أنت رب تعبد إذ صرت عبدا تعبد) غيرك (فاستنكف) فرعون (عن عبودية الله، وعن اتباع موسى عليه السلام) فهذا تكبره على الله .

(وقالت قريش فيما أخبر الله عنهم: لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) والمراد بالقريتين: مكة والطائف (قال قتادة) بن دعامة البصري: (هما الوليد) بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، من أهل مكة، و (أبو مسعود الثقفي) من أهل الطائف (طلبوا من هو أعظم رياسة من النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث قالوا: غلام يتيم) مات أبواه (كيف بعثه الله إلينا؟ فقال تعالى: أهم يقسمون رحمت ربك وقال الله تعالى: ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أي: استحقارا لهم، واستبعادا لتقدمهم .

وقالت قريش لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كيف نجلس إليك وعندك هؤلاء؟! إشارة إلى فقراء المسلمين، فازدروهم بأعينهم، وتكبروا عن مجالستهم،فأنزل الله تعالى: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي إلى قوله:) ما عليك من حسابهم وقال تعالى: واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ( ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ") .

قال العراقي: رواه مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص، إلا أنه قال: "فقال المشركون" وقال ابن ماجه: "قالت قريش". اهـ .

قلت: لفظ حديث سعد عند مسلم قال: "كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن ستة نفر، فقال المشركون: اطرد هؤلاء عنك؛ فإنهم وإنهم، قلت: فكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان نسيت اسميهما، قال: فوقع في نفس النبي -صلى الله عليه وسلم- من ذلك ما شاء الله تعالى، فحدث به نفسه، فأنزل الله -عز وجل-: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ".

وقد رواه أبو نعيم في الحلية، فقال: حدثنا أحمد بن محمد بن أحمد، حدثنا عبد الله بن شهرويه، حدثنا إسحاق بن راهويه، حدثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا إسرائيل، عن المقدام بن شريح الحارثي، عن أبيه، عن سعد بن أبي وقاص قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم" فذكره .

ولفظه عند ابن ماجه، قال: "نزلت هذه الآية في ستة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منهم ابن مسعود، قال: كنا نستبق إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ندنو إليه، فقالت قريش: تدني هؤلاء دوننا؟! فكأن النبي -صلى الله عليه وسلم- هم بشيء، فنزلت: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه الآية.

وقد رواه أبو نعيم في الحلية، فقال: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا سفيان الثوري، عن المقدام بن شريح، عن أبيه، عن سعد بن أبي وقاص قال: "نزلت" فذكره .

وفي الباب خباب بن الأرت، وسلمان الفارسي، وابن مسعود.

أما حديث خباب: فقال أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف: [ ص: 365 ] حدثنا أحمد بن الفضيل، حدثنا أسباط بن نصر، عن السدي، عن أبي سعد الأزدي، عن أبي الكنود، عن خباب بن الأرت: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه قال: "جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري، فوجدا النبي -صلى الله عليه وسلم- قاعدا مع بلال وعمار وصهيب وخباب في أناس من الضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حقروهم، فخلوا به فقالو: إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا به العرب فضلنا؛ فإن وفود العرب تأتيك، فنستحيي أن ترانا العرب قعودا مع هذه الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا، فإذا فرغنا فأقعدهم إن شئت، قال: نعم، قالوا فاكتب لنا عليك كتابا، فدعا بالصحيفة ليكتب لهم، ودعا عليا ليكتب، فلما أراد ذلك ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبريل -عليه السلام- فقال: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه إلى قوله: فتكون من الظالمين ثم ذكر الأقرع وصاحبه فقال: وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين ثم ذكر فقال: وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة فرمى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالصحيفة، ودعانا، فأتيناه، وهو يقول: سلام عليكم، فدنونا منه حتى وضعنا ركبنا على ركبتيه، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يجلس معنا، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا، فأنزل الله تعالى: ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا يقول: لا تعد عيناك عنهم تجالس الأشراف ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا أما الذي أغفلنا قلبه فهو عيينة بن حصن والأقرع، وأما فرطا فهلاكا، فإذا بلغنا الساعة التي كان يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم، وإلا صبر أبدا حتى نقوم".

رواه أبو نعيم في الحلية من طريقه، وقال رواه عمرو بن محمد العنقزي، عن أسباط مثله .

وأما حديث سلمان الفارسي: فقال الحسن بن سفيان في مسنده: حدثنا أبو وهب الحراني، حدثنا سليمان بن عطاء، عن سلمة بن عبد الله، عن عمه، عن سلمان الفارسي قال: "جاءت المؤلفة قلوبهم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عيينة، والأقرع بن حابس، وذووهم، فقالوا: يا رسول الله إنك لو جلست في صدر المجلس ونحيت عنا هؤلاء، وأرواح جبابهم، يعنون أبا ذر، وسلمان، وفقراء المسلمين، وكان عليهم جباب الصوف، ولم يكن عليهم غيرها، جلسنا إليك وحادثناك، وأخذنا عنك، فأنزل الله تعالى: واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا حتى بلغ نارا أحاط بهم سرادقها يتهددهم بالنار، فقام نبي الله يلتمسهم حتى أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله، فقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمتي، معكم المحيا والممات".

وأما حديث ابن مسعود فقال إسحاق بن راهويه في مسنده: أخبرنا جرير، عن أشعث بن سوار، عن كردوس، عن عبد الله بن مسعود قال: "مر الملأ من قريش على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعنده صهيب وبلال وخباب وعمار، ونحوهم، ناس من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا رسول الله أرضيت هؤلاء من قومك؟! أفنحن نكون تبعا لهؤلاء؟! أهؤلاء من الله عليهم من بيننا؟! اطردهم، فلعلك إن تطردهم اتبعناك، قال: فأنزل الله تعالى: وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم إلى قوله: فتكون من الظالمين ".

(ثم أخبر الله تعالى عن تعجبهم حين دخلوا جهنم إذ لم يروا) فيها (الذين استذلوهم) واستضعفوهم (فقالوا: ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار قيل: عنوا عمارا وبلالا وصهيبا والمقداد رضي الله عنهم) .

أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد قال: "ذلك قول أبي جهل في النار، يقول: ما لي لا أرى رجالا بلالا وعمارا وصهيبا وخبابا وفلانا وفلانا، اتخذناهم سخريا، ليسوا كذلك، أم زاغت عنهم الأبصار، قال: أم هم في النار ولا نراهم" .

وأخرج ابن المنذر، عن مجاهد قال: "هم عبد الله بن مسعود ومن معه" .

وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، عن سهل بن عطية قال: "يقول أبو جهل في النار: أين خباب؟! أين صهيب؟! أين بلال؟! أين عمار؟!".

(ثم كان منهم من منعه الكبر عن الفكر والمعرفة فيجهل كونه صلى الله عليه وسلم محقا، ومنهم من عرف ومنعه الكبر عن الاعتراف، قال الله تعالى مخبرا عنهم: فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ) .

[ ص: 366 ] وهؤلاء طائفة اليهود، فإنهم عرفوا أنه -صلى الله عليه وسلم- محق، ومنعهم كبرهم عن الاعتراف (وقال) تعالى: ( وجحدوا بها ) أي: الآيات الدالة على صدقه ( واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ) أي: تكبرا وعنادا وترفعا .

(وهذا الكبر قريب من التكبر على الله، وإن كان دونه، ولكنه تكبر على قبول أمر الله والتواضع لرسوله ) عليه السلام .

التالي السابق


الخدمات العلمية