إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقال عيسى عليه السلام : « جودة الثياب خيلاء في القلب وقال طاوس إني لأغسل ثوبي هذين فأنكر قلبي ما داما نقيين .

ويروى أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله كان قبل أن يستخلف تشترى له الحلة بألف دينار ، فيقول : ما أجودها ! لولا خشونة فيها فلما استخلف كان يشترى له الثوب بخمسة دراهم ، فيقول : ما أجوده ! لولا لينه ، فقيل له : أين لباسك ومركبك وعطرك يا أمير المؤمنين فقال : إن لي نفسا ذواقة وإنها لم تذق من الدنيا طبقة إلا تاقت إلى الطبقة التي فوقها ، حتى إذا ذاقت الخلافة وهي أرفع الطباق تاقت إلى ما عند الله عز وجل .

وقال سعيد بن سويد : صلى بنا عمر بن عبد العزيز الجمعة ، ثم جلس ، وعليه قميص مرقوع الجيب من بين يديه ومن خلفه ، فقال له رجل : يا أمير المؤمنين إن الله قد أعطاك ، فلو لبست ، فنكس رأسه مليا ثم رفع رأسه فقال : إن أفضل القصد عند الجدة وإن أفضل العفو عند القدرة وقال صلى الله عليه وسلم : « من ترك زينة لله ، ووضع ثيابا حسنة تواضعا لله ، وابتغاء لمرضاته ، كان حقا على الله أن يدخر له عبقري الجنة .

فإن قلت : فقد قال عيسى عليه السلام : « جودة الثياب خيلاء القلب » وقد سئل نبينا صلى الله عليه وسلم عن الجمال في الثياب : هل هو من الكبر فقال : لا ، ولكن من سفه الحق وغمص الناس .

فكيف طريق الجمع بينهما ؟ فاعلم أن الثوب الجديد ليس من ضرورته أن يكون من التكبر في حق كل أحد في كل حال ، وهو الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي عرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم من حال ثابت بن قيس إذ قال إني امرؤ حبب إلي من الجمال ما ترى .

فعرف أن ميله إلى النظافة وجودة الثياب لا ليتكبر على غيره ، فإنه ليس من ضرورته أن يكون من الكبر ، وقد يكون ذلك من الكبر ، كما أن الرضا بالثوب الدون قد يكون من التواضع .

وعلامة المتكبر أن يطلب التجمل إذا رآه الناس ، ولا يبالي إذا انفرد بنفسه كيف كان .

وعلامة طالب الجمال أن يحب الجمال في كل شيء ولو في خلوته وحتى في سنور داره فذلك ليس من التكبر .

، فإذا انقسمت الأحوال نزل قول عيسى عليه السلام على بعض الأحوال ، على أن قوله : « خيلاء القلب » يعني : قد تورث خيلاء في القلب وقول نبينا صلى الله عليه وسلم إنه ليس من الكبر ، يعني أن الكبر لا يوجبه ، ويجوز أن لا يوجبه الكبر ثم يكون هو مورثا للكبر .


(وقال عيسى عليه السلام: "جودة الثياب خيلاء القلب) أي: يورث العجب في القلب (وقال طاوس) اليماني -رحمه الله تعالى-: (إني لأغسل ثوبي هذين فأنكر قلبي ما داما نقيين) إشارة إلى ما يداخله من العجب في الباطن .

(ويروى أن عمر بن عبد العزيز) رحمه الله (كان قبل أن يستخلف تشترى له الحلة) إزار أو رداء (بألف دينار، فيقول: ما أجودها!) وما أحسنها (لولا خشونة فيها) عند المشي (فلما استخلف كان يشترى له الثوب بخمسة دراهم، فيقول: ما أجوده!) وما أحسنه! (لولا لينه، فقيل له: أين لباسك ومركبك وعطرك) الذي كنت تختاره لنفسك؟ (فقال: إن لي نفسا ذواقة تواقة) كثيرة الذوق والتوقان (وإنها لم تذق من الدنيا طبقة إلا تاقت إلى الطبقة التي فوقها، حتى إذا ذاقت) طعم (الخلافة) على الأمة (وهي أرفع الطبقات تاقت إلى ما عند الله) عز وجل .

قال أبو نعيم في الحلية: حدثنا محمد بن إبراهيم، حدثنا عبد الله بن الحسين الملطي، حدثنا الحسين بن محمد الزعفراني، حدثنا سعيد بن عامر، حدثنا جويرية بن أسماء قال: قال عمر: "إن نفسي هذه تواقة، لم تعط من الدنيا شيئا إلا تاقت إلى ما هو أفضل منه، فلما أعطيت الذي لا شيء أفضل منه تاقت إلى ما هو أفضل منه، قال سعيد: الجنة أفضل من الخلافة" .

حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا أحمد بن الحسين، حدثنا أحمد بن إبراهيم، حدثنا منصور بن أبي مزاحم، حدثنا شعيب بن صفوان، عن محمد بن مروان، عن أبان بن عثمان بن عفان، عمن سمع مزاحما مولى عمر بن عبد العزيز يقول: قال عمر: "إن لي نفسا تواقة، لقد رأيتني بالمدينة وأنا غلام مع الغلمان، ثم تاقت نفسي إلى العلم، فأصبت منه حاجتي، ثم تاقت نفسي إلى السلطان فاستعملت على المدينة، ثم تاقت إلى اللباس والعيش والطيب، فما علمت أن أحدا من أهل بيتي ولا غيرهم كانوا في مثل ما كنت فيه، ثم تاقت نفسي إلى الآخرة والعمل بالعدل، فأنا أرجو أن أنال ما تاقت إليه نفسي من [ ص: 382 ] أمر آخرتي .

(وقال سعيد بن سويد: صلى بنا عمر بن عبد العزيز يوم الجمعة، ثم جلس، وعليه قميص مرقوع الجيب من بين يديه ومن خلفه، فقال رجل: يا أمير المؤمنين إن الله قد أعطاك، فلو لبست، فنكس رأسه مليا) أي: زمانا (ثم رفع رأسه فقال: إن أفضل القصد) أي: الاقتصاد (عند الجدة) أي: عند الغنى (وإن أفضل العفو عند القدرة) .

أخرجه أبو نعيم في الحلية، عن محمد بن إبراهيم قال: حدثنا الحسين بن محمد الحراني، حدثنا أبو الحسين الرهاوي، حدثنا زيد بن الحباب، أخبرني معاوية بن صالح، قال: حدثنا سعيد بن سويد أن عمر بن عبد العزيز صلى بهم الجمعة، ثم جلس، فذكره .

(وقال صلى الله عليه وسلم: "من ترك زينة لله، ووضع ثيابا حسنة تواضعا لله، وابتغاء مرضاته، كان حقا على الله أن يدخر له عبقري الجنة) .

قال العراقي: رواه أبو سعد الماليني في مسند الصوفية، وأبو نعيم في الحلية من حديث ابن عباس: "من ترك زينة الدنيا لله" الحديث. وفي إسناده نظر. اهـ .

قلت: ورواه أبو علي الذهلي الهروي في فوائده، وابن النجار، بلفظ: "من ترك زينة لله، ووضع ثيابا حسنة تواضعا له، وابتغاء وجهه، كان حقا على الله أن يكسوه من عبقري الجنة".

ولفظ أبي نعيم في الحلية: "كان حقا على الله أن يبدله بعبقري الجنة".

وروى الترمذي والطبراني وأبو نعيم والحاكم والبيهقي من حديث سهل بن معاذ بن أنس الجهني، عن أبيه، رفعه: "من ترك اللباس تواضعا لله وهو يقدر عليه دعاه يوم القيامة على رؤوس الخلائق؛ حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسه" وإسناده حسن .

(فإن قلت: فقد قال عيسى -عليه السلام-: "جودة الثياب خيلاء القلب") كما ذكر قريبا (وقد سئل نبينا -صلى الله عليه وسلم- عن الجمال في الثياب: هل هو من الكبر) والسائل هو ثابت بن قيس بن شماس عند الطبراني كما تقدم (قال: لا، ولكن من سفه الحق) أي: جهله أو رده (وغمص الناس) أي: احتقرهم، وقد تقدم قريبا (فكيف طريق الجمع بينهما؟

فاعلم أن الثوب الجيد ليس من ضرورته أن يكون من التكبر في حق كل أحد في كل حال، وهو الذي أشار إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الذي عرفه -صلى الله عليه وسلم- من حال ثابت بن قيس) بن شماس (إذ قال) له: (إني امرؤ حبب إلي من الجمال ما ترى) كما تقدم (فعرفه) صلى الله عليه وسلم (أن ميله إلى النظافة وجودة الثياب لا ليتكبر على غيره، فإنه ليس من ضرورته أن يكون من الكبر، وقد يكون ذلك من الكبر، كما أن الرضا بالثوب الدون) ليس من ضرورته أن يكون من التواضع، و (قد يكون) ذلك (من التواضع .

وعلامة المتكبر أن يطلب التجمل إذا رآه الناس، ولا يبالي إذا انفرد بنفسه كيف كان، وعلامة طلب الجمال أن يحب الجمال في كل شيء ولو في خلوته) بنفسه، حتى في ستور داره (فذلك ليس من الكبر، فإذا انقسمت الأحوال نزل قول عيسى عليه السلام) السابق (على بعض الأحوال، على أن قوله: "هو خيلاء القلب" يعني: قد يورث خيلاء القلب) أي: مظنة له .

(وقول نبينا -صلى الله عليه وسلم- ليس من الكبر، يعني أن الكبر لا يوجبه، ويجوز أن لا يوجبه الكبر ثم يكون هو مورثا للكبر) .

التالي السابق


الخدمات العلمية