إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
المقام الثاني فيما يعرض من التكبر بالأسباب السبعة المذكورة وقد ذكرنا في كتاب ذم الجاه أن الكمال الحقيقي هو العلم والعمل ، فأما ما عداه مما يفنى بالموت فكمال وهمي فمن هذا يعسر على العالم أن لا يتكبر ولكنا نذكر طريق العلاج من العلم والعمل في جميع الأسباب السبعة .

الأول : النسب فيمن ، يعتريه الكبر من جهة النسب فليداو قلبه بمعرفة أمرين:

أحدهما : أن هذا جهل من حيث إنه تعزز بكمال غيره ؛ ولذلك قيل :


لئن فخرت بآباء ذوي شرف لقد صدقت ولكن بئس ما ولدوا

فالمتكبر بالنسب إن كان خسيسا في صفات ذاته فمن أين يجبر خسته بكمال غيره ؟! بل لو كان الذي ينسب إليه حيا لكان له أن يقول : الفضل لي ، ومن أنت ، وإنما أنت دودة خلقت من بولي ، أفترى أن الدودة التي خلقت من بول إنسان أشرف من الدودة التي من بول فرس هيهات بل هما ! متساويان ، والشرف للإنسان لا للدودة .

الثاني : أن يعرف ، نسبه الحقيقي ، فيعرف أباه وجده ؛ فإن أباه القريب نطفة قذرة ، وجده البعيد تراب ذليل وقد ، عرفه الله تعالى نسبه فقال الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين فمن أصله التراب المهين الذي يداس بالأقدام ثم خمر طينه حتى صار حمأ مسنونا ، كيف يتكبر ؟! وأخس الأشياء ما إليه انتسابه ؛ إذ يقال : يا أذل من التراب ، ويا أنتن من الحمأة ، ويا أقذر من المضغة .

فإن كان كونه من أبيه أقرب من كونه من التراب فنقول : افتخر بالقريب دون البعيد فالنطفة والمضغة ، أقرب إليه من الأب ، فليحقر نفسه بذلك ، ثم إن كان ذلك يوجب رفعة لقربه فالأب الأعلى من التراب فمن أين رفعته وإذا لم يكن له رفعة فمن أين جاءت الرفعة لولده فإذن : أصله من التراب ، وفصله من النطفة ، فلا أصل له ولا فصل .

، وهذه غاية خسة النسب ، فالأصل يوطأ بالأقدام ، والفصل تغسل منه الأبدان .

فهذا هو النسب الحقيقي للإنسان ، ومن عرفه لم يتكبر بالنسب ، ويكون مثله بعد هذه المعرفة وانكشاف الغطاء له عن حقيقة أصله كرجل لم يزل عند نفسه من بني هاشم وقد أخبره بذلك والداه ، فلم يزل فيه نخوة الشرف فبينما هو كذلك إذ أخبره عدول ، لا يشك في قولهم ، أنه ابن هندي حجام ، يتعاطى القاذورات وكشفوا له وجه التلبيس عليه فلم يبق له شك في صدقهم ، أفترى أن ذلك يبقي شيئا من كبره ؟! لا ، بل يصير عند نفسه أحقر الناس وأذلهم ، فهو من استشعار الخزي لخسته في شغل عن أن يتكبر على غيره .

فهذا حال البصير إذا تفكر في أصله ، وعلم أنه من النطفة والمضغة والتراب ؛ إذ لو كان أبوه ممن يتعاطى نقل التراب أو يتعاطى الدم بالحجامة أو غيرها لكان يعلم به خسة نفسه لمماسة أعضاء أبيه للتراب والدم ، فكيف إذا عرف أنه في نفسه من التراب والدم والأشياء القذرة التي يتنزه عنها هو في نفسه .

السبب الثاني التكبر : بالجمال ، ودواؤه أن ينظر إلى باطنه نظر العقلاء ، ولا ينظر إلى باطنه نظر البهائم .

ومهما نظر إلى باطنه رأى من القبائح ما يكدر عليه تعززه بالجمال ؛ فإنه وكل به الأقذار في جميع أجزائه ، الرجيع في أمعائه ، والبول في مثانته ، والمخاط في أنفه والبزاق ، في فيه ، والوسخ في أذنيه ، والدم في عروقه ، والصديد تحت بشرته ، والصنان تحت إبطه يغسل ، الغائط بيده كل يوم دفعة أو دفعتين ، ويتردد كل يوم إلى الخلاء مرة أو مرتين ؛ ليخرج من باطنه ما لو رآه بعينه لاستقذره ، فضلا عن أن يمسه أو يشمه كل ذلك ليعرف قذارته وذله ، هذا في حال توسطه .

وفي أول أمره خلق من الأقذار الشنيعة الصور ، من النطفة ودم الحيض وأخرج من مجرى الأقذار .

إذ خرج من الصلب ثم من الذكر مجرى البول ثم من الرحم ، مفيض دم الحيض ، ثم خرج من مجرى القذر . قال أنس رحمه الله : كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يخطبنا فيقذر إلينا أنفسنا ، ويقول : خرج أحدكم من مجرى البول مرتين وكذلك قال طاوس لعمر بن عبد العزيز .

ما هذه مشية من في بطنه خراء ؛ إذ رآه يتبختر وكان ذلك ، قبل خلافته وهذا أوله ووسطه .

ولو ترك نفسه في حياته يوما لم يتعهدها بالتنظيف والغسل لثارت منه الأنتان والأقذار وصار أنتن وأقذر من الدواب المهملة التي لا تتعهد نفسها قط .

فإذا نظر أنه خلق من أقذار ، وأسكن في أقذار ، وسيموت فيصير جيفة أقذر من سائر الأقذار لم يفتخر بجماله ، الذي هو كخضراء الدمن وكلون الأزهار في البوادي فبينما هو كذلك إذ صار هشيما تذروه الرياح ، كيف ولو كان جماله باقيا وعن هذه القبائح خاليا لكان يجب أن لا يتكبر به على القبيح إذ لم يكن قبح القبيح إليه فينفيه ، ولا كان جمال الجميل إليه حتى يحمد عليه ، كيف ولا بقاء له ، بل هو في كل حين يتصور أن يزول بمرض أو جدري أو قرحة ، أو سبب من الأسباب فكم من وجوه جميلة قد سمجت بهذه الأسباب ! فمعرفة هذه الأمور تنزع من القلب داء الكبر بالجمال لمن أكثر تأملها .


(المقام الثاني) فيما يعرض من التكبر بالأسباب (السبعة المذكورة) آنفا (وقد ذكرنا في كتاب ذم الجاه أن الكمال الحقيقي هو العلم والعمل، فأما ما عداه مما يفنى بالموت فكمال وهمي) لا حقيقة له (فمن هذا يعسر على العالم أن يتكبر) وكذلك العابد (ولكنا نذكر طريق العلاج من العلم والعمل في جميع الأسباب السبعة .

الأول: النسب، فمن يعتريه الكبر من جهة النسب فليداو قلبه بمعرفة أمرين:

أحدهما: أن هذا جهل من حيث أنه تعزز بكمال غيره؛ ولذلك قيل:


لئن فخرت بآباء ذوي شرف لقد صدقت ولكن بئس ما ولدوا

فالمتكبر بالنسب إن كان خسيسا في صفات ذاته فمن أين يجبر خسته بكمال غيره؟! بل لو كان الذي ينسب إليه حيا كان له أن يقول: الفضل لي، ومن أنت، وإنما أنت دودة خلقت من بولي، أفترى أن الدودة التي خلقت من بول إنسان أشرف من الدودة التي خلقت من بول فرس) مثلا؟! (هيهات! فهما متساويان، والشرف للإنسان لا للدودة .

الثاني: هو أن يعرف نفسه، نسبه الحقيقي، فيعرف أباه وجده؛ فإن أباه القريب نطفة قذرة، وجده البعيد) وهو آدم -عليه السلام- (تراب ذليل، فقد عرفه الله تعالى نسبه فقال) عز وجل: ( الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين فمن أصله التراب المهين الذي يداس بالأقدام) ويوطأ بها عليه (ثم خمر طينه حتى صار حمأ مسنونا، كيف يتكبر؟! وأخس الأشياء ما إليه انتسابه؛ إذ يقال: يا أذل من التراب، ويا أنتن من الحمأ، ويا أقذر من المضغة .

فإن كان كونه من أبيه أقرب من كونه من تراب فنقول: افتخر بالقريب دون البعيد، فالمضغة والنطفة أقرب إليه من الأب، فليحقر نفسه بذلك، ثم إن كان ذلك يوجب رفعة لقربه فالأب الأعلى) خلق (من التراب فمن أين رفعته) ومن شأن التراب الذل؟!

(وإذا لم تكن له رفعة فمن أين جاءت الرفعة لولده؟! فإذا: أصله من التراب، وفصله من النطفة، فلا أصل له ولا [ ص: 395 ] فضل، وهذه غاية خسة النسب، فالأصل يوطأ بالأقدام، والفصل تغسل منه الأبدان، فهذا هو النسب الحقيقي للإنسان، ومن عرفه لم يتكبر بالنسب، ويكون مثله بعد هذه المعرفة وانكشاف الغطاء له عن حقيقة أصله كرجل لم يزل عند نفسه) أنه (من) ولد (بني هاشم) بن عبد مناف، جد النبي -صلى الله عليه وسلم- (وقد أخبره بذلك والده، فلم تزل فيه نخوة الشرف) أي: عظمته (فبينما هو كذلك إذ أخبره) جماعة من المسلمين (عدول، لا يشك في قولهم، أنه ابن هندي حجام، يتعاطى القاذورات) أي: مص الدماء (وكشفوا له وجه التلبيس عليه) إلى أن وثق به (فلم يبق له شك في صدقهم، أفترى أن ذلك يبقي شيئا من كبره؟!

لا، بل يصير عند نفسه أحقر الناس وأذلهم، فهو من استشعار الخزي لخسته في شغل عن أن يتكبر على غيره، فهذا حال البصير) الناقد (إذا تفكر في أصله، وعلم أنه من النطفة والمضغة والتراب؛ إذ لو كان أبوه من يتعاطى نقل التراب) بأن كان كناسا أو زبالا (أو يتعاطى الدم) أي: مصه (بالحجامة) أو التشريط (وغيرها لكان يعلم به خسة نفسه لمماسة أعضاء أبيه للتراب والدم، فكيف إذا عرف أنه في نفسه من التراب والدم والأشياء القذرة التي يتنزه عنها هو) ويتباعد في نفسه؟!

(السبب الثاني: الكبر بالجمال، ودواؤه أن ينظر إلى باطنه نظر العقلاء المتأملين، ولا ينظر إلى الظاهر نظر البهائم، ومهما نظر إلى باطنه) والدم (في عروقه رأى من الفضائح ما يكدر عليه تعززه بجماله؛ فإنه وكل به الأقذار في جميع أجزائه، الرجيع) أي: العذرة (في أمعائه، والبول في مثانته، والمخاط في أنفه، والبراق في فيه، والوسخ في أذنيه، والدم في عروقه، والصديد تحت بشرته، والصنان تحت إبطيه، ويغسل الغائط) بيده (كل يوم دفعة أو دفعتين، ويتردد إلى الخلاء كل يوم مرة أو مرتين؛ ليخرج من باطنه ما لو رآه بعينه لاستقذره، فضلا عن أن يمسه أو يشمه) ولو أصاب منه شيئا من جسده أو ثوبه لساء مزاجه، وبادر إلى إزالته، فتراه مدة جلوسه واضعا يده على أنفه لئلا يشمه .

(كل ذلك ليعرف قذارته وذله، هذا في حال توسطه، وفي أول أمره خلق من الأقذار الشنيعة الصور، من النطفة ودم الحيض) ولذلك إذا علقت المرأة انقطع عنها الدم .

(وأخرج من مجاري الأقذار؛ إذ خرج) أولا (من الصلب) أي: من صلب أبيه (ثم من الذكر مجرى البول) ومجرى المني غير مجرى البول عند الشافعي -رحمه الله تعالى- كما تقدم الكلام عليه في سر الطهارة (ثم من الرحم، مفيض دم الحيض، ثم خرج من مجرى) وفي نسخة: من مخرج (القذر .

قال أنس) بن مالك (رحمه الله تعالى: كان أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- يخطبنا فيقذر إلينا أنفسنا، ويقول: خرج أحدكم من مجرى البول مرتين) ، الأولى من مجرى بول أبيه، والثانية من مجرى بول أمه .

(وكذلك قال طاوس) اليماني (لعمر بن عبد العزيز) رحمها الله تعالى (ما هذه مشية من في بطنه خرء؛ إذ رآه يتختر، وذلك قبل خلافته) وقد تقدم .

(هذا أوله ووسطه، ولو ترك نفسه في حال حياته يوما لم يتعهدها بالتنظف والغسل) بالماء (لثارت منه الأنتان والأقذار) أي: انبعثت (وصار أقذر وأنتن من الدواب المهملة التي لا تتعهد في نفسها قط، فإذا نظر أنه خلق من أقذار، وأسكن في أقذار، وسيموت فيصير جيفة أقذر من سائر الأقذار لم يفتخر بجماله، الذي هو كخضراء الدمن) أي: الشجرة الخضراء في منبت سوء؛ فإن ما ينبت في الدمن وإن كان ناضرا لا يكون ثامرا [ ص: 396 ] وهو سريع الفساد .

(وكلون الأزهار في البوادي بينما هو كذلك إذ صار هشيما) يابسا متكسرا (تذروه) أي: تسفيه (الرياح، كيف ولو كان جماله باقيا وعن هذه القبائح خاليا لكان يجب أن لا يتكبر به على القبيح) الصور (إذ لم يكن قبح القبيح إليه فينفيه، ولا كان جمال الجميل إليه حتى يحمد عليه، كيف ولا بقاء له، بل هو في كل حين) وفي نسخة: حالة (يتصور أن يزول بمرض أو جدري أو قرحة، أو بسبب من الأسباب) غير ما ذكر (فكم من وجوه جميلة سمجت) أي: قبحت بعد أن كانت جميلة (بهذه الأسباب! فمعرفة هذه الأمور تنزع من القلب داء الكبر بالجمال لمن أكثر تأملها) .

التالي السابق


الخدمات العلمية