إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ولنبدأ أولا بذكر غرور العلماء ، ولكن بعد بيان ذم الغرور ، وبيان حقيقته وحده .

بيان ذم الغرور وحقيقته وأمثلته .

اعلم أن قوله تعالى : فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور وقوله تعالى : ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني الآية .

كاف في ذم الغرور ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « حبذا نوم الأكياس وفطرهم كيف يغبنون سهر الحمقى واجتهادهم ، ولمثقال ذرة من صاحب تقوى ويقين أفضل من ملء الأرض من المغترين » وقال صلى الله عليه وسلم: الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والأحمق أتبع نفسه هواها وتمنى على الله .


( ولنبدأ أولا بذكر غرور العلماء، ولكن بعد بيان ذم الغرور، وبيان حقيقته وحده) .

(بيان ذم الغرور وحقيقته وأمثلته)

(اعلم) هداك الله تعالى (أن قوله تعالى: فلا تغرنكم الحياة الدنيا ) أي: لا توقعنكم في الغرور، ( ولا يغرنكم بالله الغرور ) تقدم أنه فسر بالشيطان; لأنه أكبر الغارين بالدنيا، فإنها تغر وتضر وتمر، (وقوله تعالى: ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم ) أي: تأخرتم عن نصرة الرسول ( وارتبتم ) أي: شككتم، ( وغرتكم الأماني ) أي: أوقعتكم في الغرور (الآية) إلى آخرها، (كاف في ذم الغرور، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "حبذا نوم الأكياس وفطرهم كيف يغبنون سهر الحمقى واجتهادهم، ولمثقال ذرة من صاحب تقوى ويقين أفضل من [ ص: 428 ] ملء الأرض من المغترين") . قال العراقي: رواه ابن أبي الدنيا في كتاب اليقين من قول أبي الدرداء بنحوه، وفيه انقطاع، وفي بعض الروايات أبي الورد بدل أبي الدرداء، ولم أجده مرفوعا ا هـ. قلت: ورواه أيضا أبو نعيم في الحلية من قول أبي الدرداء، قال: حدثنا أحمد بن جعفر، حدثنا عبد الله بن أحمد، حدثني أبي، حدثنا يزيد، حدثنا أبو سعيد الكندي، عمن أخبره عن أبي الدرداء أنه قال: "يا حبذا نوم الأكياس وإفطارهم، كيف يعيبون سهر الحمقى وصيامهم، ومثقال ذرة من بر صاحب تقوى ويقين أعظم وأفضل وأرجح من أمثال الجبال من عباده المغترين" والانقطاع الذي أشار إليه العراقي هو ما بين أبي سعيد الكندي وبين أبي الدرداء.

(وقال صلى الله عليه وسلم: الكيس) كسيد هو الظريف الفطن، وقد كاس كيسا، (من دان نفسه) أي: استعبدها، وقهرها، بأن جعلها مطية منقادة لأوامر ربها .

قال الشيخ الأكبر قدس سره: كان أشياخنا يحاسبون أنفسهم على ما يتكلمون به، وما يفعلونه، ويقيدونه في دفتر، فإذا كان بعد العشاء حاسبوا أنفسهم، وأحضروا دفترهم، ونظروا فيما صدر منهم من قول وعمل، وقابلوا كلا بما يستحقه، إن استحق استغفارا استغفروا، أو توبة تابوا، أو شكرا شكروا، ثم ينامون، فزدنا عليهم في محاسبة الخواطر فكنا نقيد ما تحدث به نفوسنا، وتهم به، ونحاسبها عليه، (وعمل لما بعد الموت) قبل نزوله ليصير على نور من ربه، فالموت عاقبة أمور الدنيا، فالكيس من أبصر العاقبة، (والأحمق) وفي رواية: العاجز بالعين المهملة والزاي، ورواية العسكري في الأمثال: الفاجر بالفاء (من أتبع نفسه هواها) فلم يكفها عن الشهوات، ولم يمنعها عن مقارفة المحرمات واللذات، (وتمنى على الله) ، زاد في رواية: الأماني بتشديد الياء، جمع الأمنية، وهي طلب ما لا طمع فيه، أو ما فيه عسر، أي: فهو على تقصيره في طاعة ربه، واتباع شهوات نفسه لا يستعد، ولا يعتذر، ولا يرجع، بل يتمنى على الله العفو والجنة مع الإصرار وترك التوبة والاستغفار .

قال العراقي: رواه الترمذي وحسنه، وابن ماجه من حديث شداد بن أوس ا هـ .

قلت: ورواه أيضا أبو داود، والطيالسي، وأحمد، وابن أبي الدنيا في محاسبة النفس، والحارث بن أبي أسامة، والبيهقي، والعسكري في الأمثال، والقضاعي، والطبراني، والحاكم، من حديث ابن المبارك، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن حمزة بن حبيب، عن شداد بن أوس به مرفوعا، وأخرجه أبو نعيم في الحلية من طريق ابن المبارك، ثم من طريق أبي داود الطيالسي، والحارث بن أبي أسامة، فقال: حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود يعني الطيالسي ح، وحدثنا أبو بكر بن خلاد، حدثنا الحارث بن أبي أسامة، حدثنا أبو النضر قالا: حدثنا عبد الله بن المبارك، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم، عن حمزة بن حبيب، عن شداد بن أوس، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره، ثم قال: هذا حديث مشهور بابن المبارك، عن أبي بكر بن أبي مريم، رواه عنه المتقدمون، ورواه عمرو بن بشر بن السرح، عن أبي بكر بن أبي مريم مثله، ورواه ثور بن يزيد وغالب عن مكحول، عن ابن غنم، عن شداد، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله، وحدثناه سليمان بن أحمد، حدثنا مكحول البيروني، حدثنا إبراهيم بن بكر بن عمر وقال: سمعت أبي يحدث عن ثور وغالب بإسناده ا هـ كلام أبي نعيم. وكأنه نظر إلى هذا الحاكم فصححه، وتعقبه الذهبي بأن ابن أبي مريم واه، وكذا قال ابن طاهر: إن مداره على أبي بكر بن أبي مريم، وهو ضعيف جدا، وكأنهم لم يروا ما توبع عليه فتأمل، والله أعلم .

وقال العسكري: هذا الحديث فيه رد على المرجئة، وإثبات للوعيد .

وروى البيهقي من طريق عون بن عمارة، عن هشام بن حسان، عن ثابت، عن أنس رفعه: "الكيس من عمل لما بعد الموت، والعاري العاري عن الدين، اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة"، .

التالي السابق


الخدمات العلمية