إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان أصناف المغترين وأقسام فرق كل صنف وهم أربعة أصناف :

الصنف الأول أهل العلم والمغترون ، منهم فرق .

ففرقة أحكموا العلوم الشرعية والعقلية ، وتعمقوا فيها واشتغلوا بها وأهملوا تفقد الجوارح ، وحفظها عن المعاصي ، وإلزامها الطاعات واغتروا بعلمهم ، وظنوا أنهم عند الله بمكان وأنهم قد بلغوا من العلم مبلغا لا يعذب الله مثلهم بل يقبل في الخلق شفاعتهم ، وأنه لا يطالبهم بذنوبهم وخطاياهم ، لكرامتهم على الله وهم مغرورون ; فإنهم لو نظروا بعين البصيرة علموا أن العلم علمان : علم معاملة ، وعلم مكاشفة ، وهو العلم بالله وبصفاته المسمى بالعادة علم المعرفة .

فأما العلم بالمعاملة كمعرفة الحلال والحرام ، ومعرفة أخلاق النفس المذمومة والمحمودة ، وكيفية علاجها ، والفرار منها فهي علوم لا تراد إلا للعمل ولولا الحاجة إلى العمل لم يكن لهذه العلوم قيمة وكل علم يراد للعمل ، فلا قيمة له دون العمل .

فمثال هذا كمريض به علة لا يزيلها إلا دواء مركب من أخلاط كثيرة لا يعرفها إلا حذاق الأطباء فيسعى في طلب الطبيب بعد أن هاجر عن وطنه حتى عثر على طبيب حاذق فعلمه الدواء وفصل له الأخلاط وأنواعها ، ومقاديرها ومعادنها التي منها تجتلب وعلمه كيفية دق كل واحد منها ، وكيفية خلطه وعجنه ، فتعلم ذلك ، وكتب منه نسخة حسنة بخط حسن ورجع إلى بيته ، وهو يكررها ، ويعلمها المرضى ، ولم يشتغل بشربها واستعمالها ، أفترى أن ذلك يغني عنه من مرضه شيئا ، هيهات هيهات لو كتب منه ألف نسخة ، وعلمه ألف مريض حتى شفي جميعهم ، وكرره كل ليلة ألف مرة ، لم يغنه ذلك من مرضه شيئا إلا أن يزن الذهب ويشتري الدواء ، ويخلطه كما تعلم ويشربه ويصبر على مرارته ، ويكون شربه في وقته وبعد تقديم الاحتماء وجميع شروطه وإذا فعل جميع ذلك فهو على خطر من شفائه فكيف إذا لم يشربه أصلا ? فمهما ظن أن ذلك يكفيه ويشفيه فقد ظهر غروره .

وهكذا الفقيه الذي أحكم علم الطاعات ولم يعملها ، وأحكم علم المعاصي ولم يجتنبها ، وأحكم علم الأخلاق المذمومة وما زكى نفسه منها وأحكم علم الأخلاق المحمودة ولم يتصف بها فهو مغرور ، إذ قال تعالى : قد أفلح من زكاها ولم يقل : قد أفلح من تعلم كيفية تزكيتها ، وكتب علم ذلك ، وعلمه الناس ، وعند هذا يقول له الشيطان : لا يغرنك هذا المثال ، فإن العلم بالدواء لا يزيل المرض ، وإنما مطلبك القرب من الله وثوابه ، والعلم يجلب الثواب ويتلو عليه الأخبار الواردة في فضل العلم .

فإن كان المسكين معتوها مغرورا وافق ذلك مراده وهواه فاطمأن ، إليه ، وأهمل العمل وإن كان كيسا فيقول للشيطان : أتذكرني فضائل العالم ، وتنسيني ما ورد في العالم الفاجر الذي لا يعمل بعلمه كقوله تعالى : فمثله كمثل الكلب وكقوله تعالى مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا فأي خزي أعظم من التمثيل بالكلب والحمار وقد قال صلى الله عليه وسلم : « من ازداد علما ولم يزدد هدى ، لم يزدد من الله إلا بعدا » . .

وقال أيضا « يلقى العالم في النار فتندلق أقتابه ، فيدور بها في النار كما يدور الحمار في الرحى » وكقوله صلى الله عليه وسلم « شر الناس العلماء السوء » . .

وقول أبي الدرداء ويل للذي لا يعلم مرة ، ولو شاء الله لعلمه ، وويل للذي يعلم ولا يعمل سبع مرات أي أن العلم حجة عليه ; إذ يقال له : ماذا عملت فيما علمت ? وكيف قضيت شكر الله .

? وقال صلى الله عليه وسلم : « أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه » . .

فهذا وأمثاله مما أوردناه في كتاب العلم في باب : علامة علماء الآخرة أكثر من أن يحصى ، إلا أن هذا فيما لا يوافق هوى العالم الفاجر وما ورد في فضل العلم يوافقه ، فيميل الشيطان قلبه إلى ما يهواه ، وذلك عين الغرور فإنه إن نظر بالبصيرة فمثاله ما ذكرناه ، وإن نظر بعين الإيمان فالذي أخبره بفضيلة العلم هو الذي أخبره بذم العلماء السوء وأن ، حالهم عند الله أشد من حال الجهال .

فبعد ذلك اعتقاده أنه على خير مع تأكد حجة الله عليه غاية الغرور .

وأما الذي يدعي علوم المكاشفة كالعلم بالله وبصفاته وأسمائه ، وهو مع ذلك يهمل العمل ويضيع أمر الله وحدوده ، فغروره أشد ، ومثاله مثال : من أراد خدمة ملك فعرف الملك ، وعرف أخلاقه وأوصافه ، ولونه ، وشكله ، وطوله ، وعرضه ، وعادته ، ومجلسه ، ولم يتعرف ما يحبه ، ويكرهه ، وما يغضب عليه ، وما يرضى به ، أو عرف ذلك إلا أنه قصد خدمته ، وهو ملابس لجميع ما يغضب به عليه ، وعاطل عن جميع ما يحبه من زي ، وهيئة ، وكلام ، وحركة ، وسكون فورد على الملك وهو يريد التقرب منه ، والاختصاص به متلطخا بجميع ما يكرهه الملك عاطلا عن جميع ما يحبه متوسلا إليه بمعرفته له ولنسبه واسمه وبلده ، وصورته وشكله ، وعادته في سياسة غلمانه ، ومعاملة رعيته .

فهذا مغرور جدا ، إذ لو ترك جميع ما عرفه ، واشتغل بمعرفته فقط ، ومعرفة ما يكرهه ويحبه ، لكان ذلك أقرب إلى نيله المراد من قربه ، والاختصاص به ، بل تقصيره في التقوى ، واتباعه للشهوات يدل على أنه لم ينكشف له من معرفة الله إلا الأسامي دون المعاني ، إذ لو عرف الله حق معرفته لخشيه واتقاه .

فلا يتصور أن يعرف الأسد عاقل ، ثم لا يتقيه ، ولا يخافه ، وقد أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام : خفني كما تخاف السبع الضاري .

نعم من يعرف من الأسد لونه وشكله واسمه ، قد لا يخافه وكأنه ما عرف الأسد ، فمن عرف الله تعالى عرف من صفاته أنه يهلك العالمين ولا يبالي ، ويعلم أنه مسخر في قدرة من لو أهلك مثله آلافا مؤلفة ، وأبد عليهم العذاب أبد الآباد لم يؤثر ذلك فيه أثرا ، ولم تأخذه عليه رقة ، ولا اعتراه عليه جزع .

ولذلك ، قال تعالى : إنما يخشى الله من عباده العلماء وفاتحة الزبور : رأس الحكمة خشية الله وقال ابن مسعود كفى بخشية الله علما ، وكفى بالاغترار بالله جهلا .

واستفتى الحسن عن مسألة فأجاب فقيل له : إن فقهاءنا لا يقولون ذلك ، فقال : وهل رأيت فقيها قط ؟! الفقيه القائم ليله ، الصائم نهاره ، الزاهد في الدنيا .

وقال مرة : الفقيه لا يداري ، ولا يماري ينشر حكمة الله ، فإن قبلت منه حمد الله ، وإن ردت عليه حمد الله .

فإذا الفقيه من فقه عن الله أمره ونهيه ، وعلم من صفاته ما أحبه ، وما كرهه وهو العالم ومن « يرد الله به خيرا يفقهه في الدين » وإذا لم يكن بهذه الصفة فهو من المغرورين .


(بيان أصناف المغترين وأقسام فرق كل صنف) .

(وهم أربعة أصناف: الصنف الأول أهل العلم والمغترون، منهم فرق) كثيرة (ففرقة منهم أحكموا العلوم الشرعية والعقلية، وتعمقوا فيها) أي: دخلوا في عمقها، (واشتغلوا بها) ، ونسبوا إليها، وقد كملوا في إتقان فنونها، (وأهملوا تفقد الجوارح، وحفظها عن المعاصي، وإلزامها الطاعات) الإلهية، (واغتروا بعلمهم، وظنوا أنهم عند الله بمكان) ومنزلة، (وأنهم قد بلغوا من العلم مبلغا لا يعذب الله مثلهم) ، ولا يؤاخذهم بما عملوا، (بل يقبل في الخلق شفاعتهم، وأنه لا يطالبهم بذنوبهم وخطاياهم، لكرامتهم على الله) ، وشرفهم لديه، (وهم) في الحقيقة (مغرورون; فإنهم لو نظروا بعين البصيرة علموا أن العلم علمان: علم معاملة، وعلم مكاشفة، وهو) [ ص: 446 ] أي: علم المكاشفة، كما سبق في كتاب العلم (العلم بالله وبصفاته المسمى بالعادة علم المعرفة، فأما العلم بالمعاملة كمعرفة الحلال والحرام، ومعرفة أخلاق النفس المذمومة) منها (والمحمودة، وكيفية علاجها، والفرار منها فهي علوم لا تراد إلا للعمل) لا لذواتها، (ولولا الحاجة إلى العمل لم تكن لهذه العلوم قيمة) ولا قدر، (وكل علم) لا (يراد) إلا (للعمل، فلا قيمة له دون العمل) ، وتفهم ذلك بمثال (فمثال ذلك كمريض به علة لا يزيلها إلا دواء مركب من أخلاط كثيرة) أي: أجزاء مفردة (لا يعرفها إلا حذاق الأطباء) ، ومهرتهم (فسعى في طلب الطبيب بعد أن هاجر وطنه) ، وفارق مألوفه (حتى عثر على طبيب حاذق) فشكا له حاله، وذكر له العلة (فعلمه الدواء) لها، (وفصل له الأخلاط) التي يركب منها ذلك الدواء، (وأنواعها، ومقاديرها) ، وموازينها، (ومعادنها التي منها تجتلب) تلك الأخلاط (وعلمه كيفية دق كل واحد منها، وكيفية خلطه وعجنه، فتعلم ذلك منه، وكتب منه نسخة حسنة بخط حسن) مقبول (ورجع إلى بيته، وهو يكررها ويقرؤها، ويعلمها المرضى، ولم يشتغل بشربها واستعمالها، أفترى أن ذلك يغني عنه من مرضه شيئا، هيهات لو كتب منه ألف نسخة، وعلمه ألف مريض حتى شفي جميعهم، وكرره كل ليلة ألف مرة، لم يغنه ذلك من مرضه شيئا إلا أن يزن الذهب ويشتري الدواء، ويخلطه) مع بعضه بعد الدق (كما تعلم) من الطبيب، (ويشربه) بالمقدار الذي ذكره له (ويصبر على مرارته، ويكون شربه في وقته) المناسب، (وبعد تقديم الاحتماء) عن مناولة ما يضاده (و) تقديم (جميع شروطه) المعروفة، (وإذا فعل جميع ذلك فهو على خطر من شفائه) هل يحصل له أم لا، (فكيف إذا لم يشربه أصلا؟ فمهما ظن أن ذلك يكفيه ويشفيه فقد ظهر غروره) .

وقد أشار إليه المصنف في رسالته التي أرسلها لبعض معتقديه من تلامذته المسماة برسالة أيها الولد، ومثل فيها بمثال آخر فقال: أرأيت من كال الخمر بالقناطير أيكون بكيله سكرانا، هيهات حتى يذوق منها قطرة، (وهكذا الفقيه الذي أحكم علم الطاعات ولم يعملها، وأحكم علم المعاصي ولم يجتنبها، وأحكم علم الأخلاق المذمومة وما زكى نفسه منها) أي: ما طهرها، (وأحكم علم الأخلاق المحمودة ولم يتصف بها فهو مغرور، إذ قد قال تعالى: قد أفلح من زكاها ) أي: طهرها من الكفر والمعاصي والرذائل، (ولم يقل: قد أفلح من تعلم كيفية تزكيتها، وكتب علم ذلك، وعلمه الناس، وعند هذا يقول له الشيطان: لا يغرنك هذا المثال، فإن العلم بالدواء لا يزيل المرض، وإنما مطلبك القرب من الله تعالى وثوابه، والعلم يجلب الثواب) كيفما كان ويقرب إلى الله، (ويتلو عليه الأخبار الواردة في فضائل العلم) مما تقدم ذكرها في أول كتاب العلم، (فإن كان المسكين معتوها مغرورا وافق ذلك مراده وهواه، واطمأن إليه، وأهمل العمل) رأسا، (وإن كان كيسا) فطنا حاذقا (فيقول للشيطان: أتذكرني فضائل العلم، وتنسيني ما ورد في العالم الفاجر الذي لا يعمل بعلمه كقوله عز وجل: فمثله كمثل الكلب ) إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ، وهو بلعم بن باعوراء كان أوتي بعض علم الآيات، فلما لم يعمل به، وركن إلى شهوات الدنيا، مقته الله تعالى، وضرب له المثل المذكور كما تقدم، (وكقوله) تعالى: ( مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها ) أي: لم يعملوا بما فيها ( كمثل الحمار يحمل أسفارا فأي خزي أعظم من التمثيل بالكلب والحمار) ، وهما من أخس خلق [ ص: 447 ] الله تعالى، (وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من ازداد علما ولم يزدد هدى، لم يزدد من الله إلا بعدا") رواه الديلمي في مسند الفردوس من حديث علي بلفظ: "ولم يزدد في الدنيا زهدا"، وقد تقدم في كتاب العلم، (وقال) صلى الله عليه وسلم: ("يلقى العالم في النار فتندلق أقتابه") أي: مصارينه، ("فيدور بها في النار كما يدور الحمار في الرحا") رواه ابن النجار من حديث أبي أمامة بلفظ: "يؤتى بعلماء السوء يوم القيامة فيقذفون في نار جهنم فيدور أحدهم في جهنم بعقبه كما يدور الحمار بالرحا، فيقال له: ويلك، بك اهتدينا، فما بالك؟ قال فإني كنت أخالف ما كنت أنهاكم عنه"، وعند الشيخين من حديث أسامة بن زيد: "يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه" الحديث، ورواه أبو نعيم في الحلية بلفظ: "يجاء بالأمير يوم القيامة فيلقى في النار فيطحن فيها كما يطحن الحمار بطحونته" الحديث، وكل ذلك قد تقدم مرارا .

(وكقوله) صلى الله عليه وسلم: ("شر الناس العلماء السوء") تقدم في كتاب العلم، (وقول أبي الدرداء) رضي الله عنه: (ويل للذي لا يعلم مرة، ولو شاء الله لعلمه، وويل للذي يعلم ولا يعمل سبع مرات) ، رواه أبو نعيم، عن محمد بن أحمد بن الحسن، حدثنا بشر بن موسى، حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، عن جعفر بن محمد بن برقان، عن ميمون بن مهران، قال: قال أبو الدرداء فذكره .

وروي مثله من قول ابن مسعود، كذلك رواه أبو نعيم من طريق معاوية بن صالح، عن عدي بن عدي قال: قال ابن مسعود فذكره، وقد تقدم في كتاب العلم .

(أي أن العلم حجة عليه; إذ يقال له: ماذا عملت؟ وكيف قضيت شكر الله؟ وقال صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه") رواه الطبراني في الصغير، وابن عدي، والبيهقي من حديث أبي هريرة بلفظ: "لم ينفعه علمه". وقد تقدم في كتاب العلم (فهذا وأمثاله مما أوردناه في كتاب العلم في باب: علامة علماء الآخرة أكثر من أن يحصى، إلا أن هذا مما لا يوافق هوى العالم الفاجر) فلا يرفع له رأسا، (وما ورد في فضل العلم يوافقه، فيميل الشيطان قلبه إلى ما يهواه، وذلك عين الغرور فإنه إن نظر بالبصيرة) الباطنة (فمثاله ما ذكرناه، وإن نظر بعين الإيمان فالذي أخبره بفضيلة العلم هو الذي أخبره بذم العلماء السوء، وإن حالهم أشد عند الله من حال الجهال، فبعد ذلك اعتقاده أنه على خير مع تأكد حجة الله عليه غاية الغرور، وأما الذي يدعي علوم المكاشفة) ، وأنه بإزائها (كالعلم بالله وصفاته وأسمائه، وهو مع ذلك يهمل العلم) ، ويتركه (ويضيع أمر الله وحدوده، فغروره أشد، ومثاله: من أراد خدمة ملك) من الملوك، (فعرف الملك، وعرف أخلاقه وأوصافه، ولونه، وشكله، وطوله، وعرضه، وعادته، ومجلسه، ولم يتعرف ما يحبه، ويكرهه، وما يغضب عليه، وما يرضى به، أو عرف ذلك إلا أنه قصد خدمته، وهو ملابس لجميع ما يغضب به وعليه، وعاطل عن جميع ما يحبه من زي، وهيئة، وكلام، وحركة، وسكون فورد على الملك هو يريد القرب منه، والاختصاص به) حالة كونه (متلطخا بجميع ما يكرهه الملك) ، ويغضب عليه (عاطلا عن جميع ما يحبه) ، ويميل إليه (متوسلا إليه بمعرفته له وبنسبه واسمه وبلده، وشكله، وصورته، وعادته في سياسة غلمانه، ومعاملة رعيته، فهذا مغرور جدا، إذ لو ترك جميع ما عرفه، واشتغل بمعرفته فقط، ومعرفة ما يحبه، ويكرهه لكان ذلك أقرب لنيله المراد من قربه، والاختصاص به، بل تقصيره في التقوى، واتباعه للشهوات يدل على أنه لم ينكشف له من معرفة الله إلا الأسامي دون المعاني، إذ لو عرف الله حق معرفته لخشيه واتقاه) وآثر محبته على ما يهواه (فلا يتصور أن يعرف الأسد [ ص: 448 ] عاقل، ثم لا يتقيه، ولا يخافه، وقد أوحى الله إلى داود عليه السلام: خفني كما تخاف السبع الضاري، نعم من يعرف من الأسد لونه وشكله واسمه، قد لا يخافه وكأنه ما عرف الأسد، فمن عرف الله تعالى عرف من صفاته أنه يهلك العالمين) بأسرهم (ولا يبالي، ويعلم أنه مسخر في قدرة من لو أهلك مثله آلافا مؤلفة، وأبد عليهم العذاب أبد الآباد لم يؤثر ذلك فيه أثرا، ولم تأخذه عليه رأفة، ولا اعتراه عليه جزع، ولهذا قال الله تعالى: إنما يخشى الله من عباده العلماء ) ، وقد تقدم الكلام عليه في كتاب العلم (وفاتحة الزبور: رأس الحكمة خشية الله) ، هكذا رواه صاحب الحلية عن وهب بن منبه، والمراد بالحكمة هنا العلم بأحوال الموجودات على ما هي عليه بقدر الطاقة البشرية أي: أصلها، وأسها الخوف منه; لأن الحكمة تمنع النفس عن المنهيات والشهوات والشبهات، ولا يحمل على العمل بها إلا الخوف منه تعالى، فيحاسب نفسه على كل خطرة ونظرة ولذة; ولأن الخشية تدعوه إلى الزهد في الدنيا، وهو من آكد أسباب النجاة، وأخرج الحكيم في النوادر وابن لال في مكارم الأخلاق، ومن طريق الديلمي من طريق الحسن بن عمارة، عن عبد الرحمن بن عابس بن ربيعة، عن أبيه، عن ابن مسعود مرفوعا: "رأس الحكمة مخافة الله"، والحسن بن عمارة ضعيف، ورواه البيهقي من طريق الثوري، عن ابن عباس، ووقفه، ولفظه أنه كان يقول في خطبته: "خير الزاد التقوى، ورأس الحكمة مخافة الله عز وجل"، وأعاده مقتصرا على الجملة الأخيرة، ثم ساقه من جهة بقية: حدثنا عثمان بن زخر، عن أبي عمار الهذلي عنه مرفوعا، وضعفه. ورواه الطبراني، والقضاعي من حديث سعيدة ابنة حكامة، عن أمها، عن أبيها، عن مالك بن دينار، عن أنس رفعه: "خشية الله رأس كل حكمة، والورع سيد العمل"، وروى البيهقي في الدلائل، والعسكري في الأمثال، والديلمي، من طريق عبد الله بن مصعب بن منظور بن جميل بن سنان، عن أبيه، عن عقبة بن عامر قال: خرجنا في غزوة تبوك، فذكر حديثا طويلا فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الزاد التقوى، ورأس الحكمة مخافة الله".

(وقال ابن مسعود) رضي الله عنه: (كفى بخشية الله علما، وكفى بالاغترار بالله جهلا) ، وروى البيهقي في الشعب عن مسروق مرسلا: كفى بالمرء علما أن يخشى الله، وكفى بالمرء جهلا إذا أعجب برأيه.

(واستفتي الحسن) البصري رحمه الله تعالى (عن مسألة فأجاب) عنها، (فقيل له: إن فقهاءنا لا يقولون ذلك، فقال: وهل رأيت فقيها قط؟! الفقيه القائم لله ليله، الصائم نهاره، الزاهد في الدنيا) نقله صاحب القوت، وقد تقدم في كتاب العلم .

(وقال مرة: الفقيه يداري، ولا يماري) أي: لا يخاصم، (ينشر حكمة الله، فإن قبلت منه حمد الله، وإن ردت عليه حمد الله، فإذا الفقيه من فقه عن الله أمره ونهيه، وعلم من صفاته ما أحبه، وما كرهه) فائتمر بأوامره، وانتهى بنواهيه، وأحب ما أحبه، وكره ما أبغضه، (وهذا العالم الذي) ورد (فيه) قول النبي صلى الله عليه وسلم: ("من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين") رواه أحمد والشيخان وابن حبان من حديث معاوية، ورواه أحمد، والدارمي، والترمذي، وقال: حسن صحيح من حديث ابن عباس.

وروى الطبراني في الأوسط من حديث عمر، ومن حديث أبي هريرة، وقد تقدم الكلام عليه في كتاب العلم: (وإذا لم يكن بهذه الصفة فهو من المغرورين) .

التالي السابق


الخدمات العلمية