إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وفرقة أخرى اشتغلوا بالوعظ والتذكير ، وأعلاهم رتبة من يتكلم في أخلاق النفس وصفات القلب من الخوف والرجاء والصبر والشكر والتوكل والزهد واليقين والإخلاص والصدق ونظائره ، وهم مغرورون يظنون بأنفسهم أنهم إذا تكلموا بهذه الصفات ، ودعوا الخلق إليها فقد صاروا موصوفين بهذه الصفات وهم منفكون عنها عند الله إلا عن قدر يسير لا ينفك عنه عوام المسلمين ، وغرور هؤلاء أشد الغرور لأنهم يعجبون بأنفسهم غاية الإعجاب ويظنون أنهم ما تبحروا في علم المحبة إلا وهم محبون لله وما ، قدروا على تحقيق دقائق الإخلاص إلا وهم مخلصون وما ، وقعوا على خفايا عيوب النفس إلا وهم عنها منزهون ، ولولا أنه مقرب عند الله لا عرفه معنى القرب والبعد وعلم السلوك إلى الله ، وكيفية قطع المنازل في طريق الله ، فالمسكين بهذه الظنون يرى أنه من الخائفين ، وهو آمن من الله تعالى ، ويرى أنه من الراجين ، وهو من المغترين المضيعين ويرى أنه من الراضين بقضاء الله ، وهو من الساخطين ويرى أنه من المتوكلين على الله ، وهو من المتكلين على العز والجاه والمال والأسباب ويرى أنه من المخلصين ، وهو من المرائين .

بل يصف الإخلاص فيترك الإخلاص في الوصف ويصف الرياء ويذكره وهو يرائي بذكره ليعتقد فيه أنه لولا أنه مخلص لما اهتدى إلى دقائق الرياء ، ويصف الزهد في الدنيا لشدة حرصه على الدنيا وقوة رغبته فيها .

فهو يظهر الدعاء إلى الله وهو منه فار ، ويخوف بالله تعالى وهو منه آمن .

ويذكر بالله تعالى وهو له ناس ، ويقرب إلى الله وهو منه متباعد ، ويحث على الإخلاص وهو غير مخلص ، ويذم الصفات المذمومة وهو بها متصف ، ويصرف الناس عن الخلق وهو على الخلق أشد حرصا لو منع عن مجلسه الذي يدعو الناس فيه إلى الله لضاقت عليه الأرض بما رحبت ويزعم أن غرضه إصلاح الخلق ، ولو ظهر من أقرانه من أقبل الخلق عليه وصلحوا على يديه لمات ، غما وحسدا ، ولو أثنى أحد من المترددين إليه على بعض أقرانه ، لكان أبغض خلق الله إليه .

فهؤلاء أعظم الناس غرة ، وأبعدهم عن التنبه والرجوع إلى السداد لأن المرغب في الأخلاق المحمودة ، والمنفر عن المذمومة هو العلم بغوائلها وفوائدها ، وهذا قد علم ذلك ولم ينفعه ، وشغله حب دعوة الخلق عن العمل به .

فبعد ذلك بماذا يعالج ، وكيف سبيل تخويفه ، وإنما المخوف ما يتلوه على عباد الله فيخافون ، وهو ليس بخائف ، نعم إن ظن نفسه أنه موصوف بهذه الصفات المحمودة يمكن أن يدل على طريق الامتحان والتجربة ، وهو أن يدعي مثلا حب الله ، فما الذي تركه من محاب نفسه لأجله ، ويدعي الخوف ، فما الذي امتنع منه بالخوف ، ويدعي الزهد فما الذي تركه مع القدرة عليه لوجه الله تعالى ويدعي ، الأنس بالله ، فمتى طابت له الخلوة ، ومتى استوحش من مشاهدة الخلق ، لا بل يرى قلبه يمتلئ بالحلاوة إذا أحدق به المريدون وتراه يستوحش إذا خلا بالله تعالى ، فهل رأيت محبا يستوحش من محبوبه ، ويستروح منه إلى غيره ، فالأكياس يمتحنون أنفسهم بهذه الصفات ، ويطالبونها بالحقيقة ولا ، يقنعون منها بالتزويق بل بموثق من الله غليظ والمغترون يحسنون بأنفسهم الظنون وإذا ، كشف الغطاء عنهم في الآخرة يفتضحون بل يطرحون في النار فتندلق أقتابهم فيدور بها أحدهم كما يدور الحمار بالرحى ، كما ورد به الخبر ; لأنهم يأمرون بالخير ولا يأتونه ، وينهون عن الشر ويأتونه وإنما وقع الغرور لهؤلاء من حيث إنهم يصادفون في قلوبهم شيئا ضعيفا من أصول هذه المعاني، وهو ، حب الله والخوف منه والرضا بفعله ، ثم قدروا مع ذلك على وصف المنازل العالية ، في هذه المعاني ، فظنوا أنهم ما قدروا على وصف ذلك وما رزقهم الله علمه ، وما نفع الناس بكلامهم فيها إلا اتصافهم بها وذهب عليهم أن القبول للكلام ، والكلام للمعرفة ، وجريان اللسان والمعرفة للعلم وأن كل ، ذلك غير الاتصاف بالصفة ، فلم يفارق آحاد المسلمين في الاتصاف بصفة الحب والخوف ، بل في القدرة على الوصف ، بل ربما زاد أمنه ، وقل خوفه ، وظهر إلى الخلق ميله ، وضعف في قلبه حب الله تعالى ، وإنما مثاله : مثال مريض يصف المرض ويصف دواءه بفصاحته ، ويصف الصحة والشفاء وغيره من المرضى لا يقدر على وصف الصحة والشفاء وأسبابه ودرجاته وأصنافه ، فهو لا يفارقهم في صفة المرض والاتصاف به ، وإنما يفارقهم في الوصف والعلم بالطب فظنه عند علمه بحقيقة الصحة أنه صحيح غاية الجهل فكذلك العلم بالخوف والحب والتوكل والزهد وسائر هذه الصفات غير الاتصاف بحقائقها .

ومن التبس عليه وصف الحقائق بالاتصاف بالحقائق فهو مغرور .

فهذه حالة الوعاظ الذين لا عيب في كلامهم ، بل منهاج وعظهم منهاج وعظ القرآن والأخبار ، ووعظ الحسن البصري وأمثاله رحمة الله عليهم .


(وفرقة أخرى منهم اشتغلوا بالوعظ والتذكير، وأعلاهم رتبة من يتكلم في أخلاق النفس وصفات القلب من الخوف والرجاء والصبر والشكر والتوكل والزهد واليقين والإخلاص والصدق ونظائره، وهم مغرورون يظنون بأنفسهم أنهم إذا تكلموا بهذه الصفات، ودعوا الخلق إليها فقد صاروا موصوفين بهذه الصفات) قائمين بإزائها، (وهم منفكون عنها عند الله) أي: عارون (إلا عن قدر يسير لا ينفك عن عوام المسلمين، وغرور هؤلاء أشد الغرور لأنهم يعجبون بأنفسهم غاية الإعجاب) ، وهو مهلك (ويظنون أنهم ما تبحروا في علم المحبة إلا وهم محبون لله، و) أنهم (ما قدروا على تحقيق دقائق الإخلاص إلا وهم مخلصون، و) أنهم (ما وقعوا على خفايا عيوب النفس إلا وهم عنها منزهون، ولولا أنه مقرب عند الله لما عرفه معنى القرب والبعد وعلم السلوك إلى الله، وكيفية قطع المنازل في طريق الله، فالمسكين بهذه الظنون يرى أنه من الخائفين، وهو آمن من الله، ويرى أنه من الراجين، وهو من المغترين المضيعين) لحقوق الله (ويرى أنه من الراضين بقضاء الله، وهو من الساخطين) على أفعال الله، (ويرى أنه من المتوكلين على الله، وهو من المتكلين على العز والمال والجاه والأسباب) الدنيوية، (ويرى أنه من المخلصين، وهو من المرائين) في أعماله، (بل يصف الإخلاص) للناس (فيترك الإخلاص في الوصف) أي: لا يتصف به بنفسه (ويصف الرياء ويذكر) ، وفي نسخة: ويذكر الرياء ويصف (ويرائي بذكره ليعتقدوا فيه أنه لولا أنه مخلص لما اهتدى لدقائق الرياء، ويصف الزهد في الدنيا) والتخلي عنها (لشدة حرصه على الدنيا وقوة رغبته فيها، فهو يظهر الدعاء إلى الله وهو منه فار، ويخوف بالله وهو منه آمن، ويذكر بالله وهو له ناس، ويقرب إلى الله وهو منه متباعد، ويحث على الإخلاص وهو غير مخلص، ويذم الصفات المذمومة وهو بها متصف، ويصرف الناس عن الخلق) أي: يحذر عن الخلطة (وهو على الخلق أشد حرصا) بحيث (لو منع عن مجلسه الذي يدعو الناس فيه إلى الله لضاقت عليه الأرض بما رحبت) أي: ضاقت حضيرته، (ويزعم أن غرضه إصلاح الخلق، ولو [ ص: 459 ] ظهر من أقرانه) وأشكاله (من أقبل الخلق عليه وصلحوا على يديه، مات غما وحسدا، ولو أثنى أحد من المترددين إليه على بعض أقرانه، لكان أبغض خلق الله إليه، فهؤلاء أعظم الناس غرة، وأبعدهم من التنبه والرجوع إلى السداد) إلى طريق الحق; (لأن المرغب في الأخلاق المحمودة، والمنفر عن) الأخلاق (المذمومة هو العلم بغوائلها وفوائدها، وهذا قد علم ذلك ولم ينفعه، وشغله حب دعوة الخلق عن العمل به، فبعد ذلك بماذا يعالج، وكيف سبيل تخويفه، وإنما المخوف ما يتلوه على عباد الله فيخافون، وهو ليس بخائف، نعم إن ظن بنفسه أنه موصوف بهذه الصفات المحمودة يمكن أن يدل على طريق الامتحان والتجربة، وهو أن يدعي مثلا حب الله، فما الذي تركه من محاب الدنيا) ، وملاذها (لأجله، ويدعي الخوف، فما الذي امتنع منه بالخوف، ويدعي الزهد) في الدنيا (فما الذي تركه مع القدرة عليه لوجه الله تعالى، ويدعي الأنس بالله، فمتى طابت له الخلوة، ومتى استوحش من مشاهدة الخلق، لا بل يرى قلبه يمتلئ بالحلاوة إذا أحدقت به المريدون) وهو يتكلم عليهم، وهم له ناظرون، (وتراه يستوحش إذا خلا بالله تعالى، فهل رأيت محبا آنسا يستوحش من محبوبه، ويستروح منه إلى غيره، فالأكياس يمتحنون أنفسهم بهذه الصفات، ويطالبونها بالحقيقة، لا يقنعون منها بالتزويق) الظاهر، (بل بموثق من الله غليظ) أي: شديد (والمغترون يحسنون بأنفسهم الظنون، فإذا كشف الغطاء عنهم في الآخرة يفتضحون) على رؤوس الأشهاد، (بل يطرحون في النار فتندلق أقتابهم) أي: مصارينهم، (فيدور بها أحدهم كما يدور الحمار بالرحى، كما ورد به الخبر; لأنهم يأمرون بالخير ولا يأتونه، وينهون عن الشر ويأتونه) ، وذلك فيما أخرجه أحمد والشيخان من حديث أسامة بن زيد: "يجاء بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار فتندلق أقتابه فيدور بها في النار، كما يدور الحمار برحاه، فيطيف به أهل النار فيقولون: يا فلان ما أصابك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف، وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: بلى، قد كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه، وقد تقدم قريبا، ورواه ابن النجار من حديث أبي أمامة، وفيه قال: إني كنت أخالف ما كنت أنهاكم، وقد تقدم أيضا. (وإنما وقع الغرور لهؤلاء من حيث إنهم يصادفون في قلوبهم شيئا ضعيفا من أصول هذه المعاني، وهو حب الله والخوف منه والرضا بفعله، ثم قدروا مع ذلك على وصف المنازل العالية، في هذه المعاني، فظنوا أنهم ما قدروا على وصف ذلك وما رزقهم الله علمه، وما نفع الناس بكلامهم فيها إلا لاتصافهم بها) ، وقيامهم بإزائها، (وذهب عليهم أن القبول للكلام، والكلام للمعرفة، وجريان اللسان والمعرفة للتعلم، وإن ذلك كله غير الاتصاف بتلك الصفة، فلم يفارق آحاد المسلمين في الاتصاف بصفة الحب والخوف، بل في القدرة على الوصف، بل ربما زاد أمنه، وقل خوفه، وظهر إلى الخلق ميله، وضعف في قلبه حب الله، وإنما مثاله: مثال مريض يصف المرض) بحقيقته، (ويصف دواءه بفصاحته، ويصف الصحة والشفاء) ، وغيره من المرضى لا يقدر به على وصف الصحة والشفاء (وأسبابه ودرجاته وأصنافه، فهو لا يفارقهم في صفة المرض والاتصاف به، وإنما يفارقهم [ ص: 460 ] في الوصف والعلم بالطب فظنه بحقيقة الصحة أنه صحيح غاية الجهل) ، كما أن ظن الصحيح بحقيقة المرض أنه مريض ظاهر البطلان، (فكذلك العلم بالخوف والتوكل والحب والزهد وسائر هذه الصفات غير الاتصاف بحقائقها، ومن التبس عليه وصف الحقائق بالاتصاف بالحقائق فهو مغرور، فهذه حالة الوعاظ الذين لا عيب في كلامهم، بل منهاج وعظهم منهاج وعظ القرآن، و) ، وعظ (الأخبار، ووعظ الحسن البصري وأمثاله) .

التالي السابق


الخدمات العلمية