إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الركن الأول في نفس التوبة .

بيان حقيقة التوبة وحدها .


(الركن الأول في نفس التوبة) ، وفيه فصول أربعة: أول فصل في (بيان حقيقة التوبة وحدها) .

ولنقدم قبل الخوض في كلام المصنف بيان أن التوبة من جملة المقامات، والفرق بين المقام والحال، واختلاف أقوالهم فيه، وكيفية ترتيب المقامات .

قال الشيخ أبو طالب المكي في القوت: الفصل الثاني والثلاثون، فيه كتاب شرح مقامات اليقين التسعة، وأحوال المتقين، أصل مقامات اليقين التي ترد إليها فروع أحوال المتقين تسعة: أولها التوبة، والصبر، والشكر، والرجاء، والخوف، والزهد، والتوكل، والرضا، والمحبة، وهذه مجملة للخصوص، وهي محبة المحبوب ا هـ .

وقال صاحب العوارف في ذكر المقامات على الترتيب هكذا: التوبة، الورع، الزهد، الصبر، الفقر، الشكر، الخوف، الرجاء، التوكل، الرضا، فزاد فيها الورع وفي ترتيب الأحوال هكذا: المحبة لله تعالى، الأنس به، القرب، الحياء، الاتصال، القبض، والبسط، الفناء، والبقاء، فهي تسعة .

وجعل صاحب القوت المحبة لله من مكملات المقامات، وسيأتي الكلام في محله إن شاء الله تعالى .

وأما الحال والمقام والفرق بينهما; فقال صاحب العوارف ما حاصله: كثر الاشتباه بينهما، واختلفت إشارة الشيوخ في ذلك، ووجود الاشتباه لمكان تشابههما في أنفسهما، وتداخلهما فتراءى للبعض الشيء حالا، وتراءى للبعض مقاما، وكلا الروايتين صحيح لوجود تداخلهما، ولا بد من ذكر ضابط يفرق بينهما، على أن اللفظ والعبارة مشعر بالفرق; فالحال سمي حالا لتحوله، والمقام مقاما لثبوته واستقراره، وقد يكون الشيء بعينه حالا، ثم يصير مقاما، وقد تداولت السنة الشيوخ أن المقامات مكاسب، والأحوال مواهب، وإن شئت قلت: كلها مواهب; إذ المكاسب محفوفة بالموهبة، والمواهب محفوفة بالكسب، فالأحوال مواسد، والمقامات طرق المواجيد، ولكن المقامات ظهر الكسب، وبطنه الموهبة، وفي الأحوال بطن الكسب وظهره الموهبة، فالأحوال مواهب علوية وسماوية، والمقامات طرقها .

وقال بعض مشايخ العراق: الحال مأمن الله، فكل ما كان من طريق الاكتساب والأعمال يقولون: هذا مأمن العبد، فإذا لاح للمريد شيء من المواهب والمواجيد قالوا: هذا مأمن الله تعالى سموه حالا; إشارة منهم إلى أن الحال موهبة، وقال بعض مشايخ خراسان: الأحوال مواريث الأعمال، وقال بعضهم: الأحوال كالبرق، فإن بقي فحديث النفس، وهذا لا يكاد يستقيم على الإطلاق، وإنما يكون ذلك في بعض الأحوال فإنها تطرق ثم تسليها النفس، فأما على الإطلاق مثلا، والأحوال لا تمتزج بالنفس كالدهن لا يمتزج بالماء، وذهب بعضهم إلى أن الأحوال لا تكون إلا إذا دامت، فإذا لم تدم فهي لوائح وطوالع وبوادر، وهي مقدمات الأحوال، وليست بأحوال .

(فصل)

وهل يجوز له أن ينتقل إلى مقام غير مقامه الذي هو فيه دون أن يحكم حكم مقامه; اختلفوا فيه فقال بعضهم: لا ينبغي أن ينتقل إلى غير الذي هو فيه دون أن يحكم حكم مقامه، وقال بعضهم: لا يكمل له الذي هو فيه إلا بعد ترقيه إلى مقام فوقه فينظر من مقامه العالي إلى ما دونه من المقام، فيحكم أمر مقامه، والأولى أن نقول والله أعلم: اعلم أن الشخص يعطى حالا من مقامه الأعلى الذي سوف يرتقي إليه، فيوجد أن ذلك الحال يستقيم أمر مقامه الذي هو فيه، ويتصرف الحق فيه كذلك، ولا يضاف الشيء إلى العبد أن يرتقي أو لا يرتقى; فإن العبد بالأحوال يرتقي إلى المقامات، والأحوال مواهب ترقى إلى المقامات التي يمتزج منها الكسب بالموهبة، ولا يلوح للعبد حال من مقام أعلى مما هو فيه إلا، وقد قرب ترقيه إليه، فلا يزال العبد يرقى إلى المقامات بزائد الأحوال، فعلى ما ذكرنا يتضح تداخل المقامات والأحوال حتى التوبة، ولا تعرف إلا مقاما فيها حال ومقام، وفي التوكل حال ومقام، وفي الرضا حال ومقام، والمحبة حال ومقام .

(فصل)

وأما كيفية ترتيب المقامات على وجه الأعمال:

اعلم أن المقامات والأحوال وثمراتها فجميعها ثلاثة أشياء بعد صحة الإيمان، وعقوده، وشروطه، فصارت مع الإيمان أربعة، وهي في إفادة الولادة المعنوية الحقيقية بمثابة الطبائع الأربع التي جعلها الله بإجراء سنته مفيدة للولادة الطبيعية، ومن تحقق [ ص: 500 ] بحقائق هذه الأربع يلج ملكوت السماوات، ويكاشف بالقدر والآيات، ويصير له ذوق وفهم لكلمات الله المنزلات، ويحظى بجميع الأحوال والمقامات، فكلها من هذه الأربع ظهرت، وبها تهيأت وتأكدت إحدى الثلاث بعد الإيمان التوبة النصوح، والثاني: الزهد في الدنيا، والثالث: تحقيق العبودية بدوام العمل له ظاهرا وباطنا من غير فتور ولا قصور، ثم يستعان على هذه الأربعة بأربعة أخرى بها تمامها وقوامها، وهي قلة الكلام، وقلة المنام، وقلة الطعام، والاعتزال عن الناس، فالتوبة في مبدأ صحتها تفتقر إلى أحوال، وإذا صحت تشتمل على مقامات وأحوال، فالأحوال التي تتقدم التوبة في استقامتها إلى المحاسبة في الظاهر، والمراقبة في الباطن والرعاية، والأخيران حالان شريفان، ويصيران مقامين بصحة مقام التوبة على الكمال بهما فصارت المحاسبة والمراقبة والرعاية من ضرورة مقام التوبة، وإذا صدق العبد في توبته صار منيفا، وهو ثاني درجة التوبة، ورؤية عيوب الأفعال من ضرورة صحة الإنابة، وهو تحقيق مقام التوبة، ولا تستقيم التوبة إلا بصدق المجاهدة، ولا يصدق العبد في المجاهدة إلا بالصبر، وحقيقته كائن في التوبة ككينونة المراقبة فيها، والصبر على الخمول والتواضع والذل داخل في الزهد، وإن لم يكن داخلا في التوبة، وكل ما في التوبة من المقامات والأحوال يوجد في الزهد، وهو ثالث الأربعة، ثم إن النفس بالمحاسبة والمراقبة تصفو وتنطفئ نيرانها المتنافجة بمتابعة الهوى، وتبلغ بطمأنينتها محل الرضا ومقامه، والرضا ثمرة التوبة النصوح، وما تخلف عبد عن الرضا إلا بتخلفه عن التوبة النصوح حال الصبر ومقام الصبر وحال الرضا ومقام الرضا، والخوف والرجاء مقامان كائنان في صلب التوبة النصوح; لأن خوفه حمله على التوبة، ولولا خوفه ما تاب، ولولا رجاؤه ما خاف، ويعتدلان للتائب المستقيم في التوبة، ثم إن التائب حيث قيد الجوانح عن المكاره، واستعان بنعم الله على طاعته فقد شكر المنعم، فإذا جمعت التوبة هذه المقامات والأحوال انجلت مرآة القلب، وبان قبح الدنيا فيها فيحصل الزهد، والزاهد يتحقق فيه التوكل; لأنه لا يزهد في الموجود إلا لاعتماده على الموعود، والسكون إلى وعد الله، وهو عين التوكل، وكل ما بقي على العبد من بقية في تحقق المقامات كلها بعد توبته يستدركه بزهده في الدنيا، وهو ثالث الأربعة، وإذا صح زهد العبد صح توكله أيضا; لأن صدق توكله مكنه من الزهد; فمن استقام في التوبة وزهد في الدنيا وحقق هذين المقامين استوفى سائر المقامات وتحقق بها، فإذا تاب توبة نصوحا، ثم زهد في الدنيا حتى لا يهتم لأمر غد ولا يدخر جمع في هذا الزهد والفقر، والزهد أفضل من الفقر، وهو فقر وزيادة; لأن الفقير عادم للشيء اضطرارا، والزاهد تارك للشيء اختيارا،.وزهده يحقق توكله، وتوكله يحقق رضاه، ورضاه يحقق الصبر، والصبر يحقق حبس النفس، وصدق المجاهدة وحبس النفس لله يحقق خوفه، وخوفه يحقق رجاءه، ويحظى بالتوبة والزهد بكل المقامات، وهما إذا اجتمعا مع صحة الإيمان وعقوده وشروطه، يعوز هذه الثلاثة رابع به تمامها، وهو دوام العمل; لأن الأحوال السنية ينكشف بعضها بهذه الثلاثة، ويصير بعضها متوقفا على وجود الرابع، وهو دوام العمل لله لا يشغله عنه إلا واجب شرعي، أو مهم لا بد منه طبعي، فإذا كان مع الزهد والتقوى متمسكا بدوام العمل فقد أكمل الفضل وما آلى جهدا في العبودية، ومنه يصل إلى مقام الفناء والبقاء، وهو مقام عزيز .

التالي السابق


الخدمات العلمية