إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وأما بيان وجوبها على الدوام وفي كل حال .

فهو أن كل بشر فلا يخلو عن معصية بجوارحه ; إذ لم يخل عنه الأنبياء كما ورد في القرآن والأخبار من خطايا الأنبياء وتوبتهم وبكائهم على خطاياهم فإن خلا في بعض الأحوال عن معصية الجوارح فلا يخلو عن الهم بالذنوب بالقلب فإن خلا في بعض الأحوال عن الهم فلا يخلو عن وسواس الشيطان بإيراد الخواطر المتفرقة المذهلة عن ذكر الله فإن خلا عنه فلا يخلو عن غفلة وقصور في العلم بالله وصفاته وأفعاله ، وكل ذلك نقص وله أسباب ، وترك أسبابه بالتشاغل بأضدادها رجوع عن طريق إلى ضده ، والمراد بالتوبة الرجوع ولا يتصور الخلو في حق الآدمي عن هذا النقص ، وإنما يتفاوتون في المقادير ، فأما الأصل فلا بد منه ، ولهذا قال عليه السلام : « إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة الحديث ولذلك أكرمه الله تعالى بأن قال ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر وإذا كان هذا حاله فكيف حال غيره .

فإن قلت : لا يخفى أن ما يطرأ على القلب من الهموم والخواطر نقص وأن الكمال في الخلو عنه وأن القصور عن معرفة كنه جلال الله نقص وإنه ، كلما ازدادت المعرفة زاد الكمال ، وأن الانتقال إلى الكمال من أسباب النقصان رجوع ، والرجوع توبة ولكن هذه فضائل لا فرائض ، وقد أطلقت القول بوجوب التوبة في كل حال ، والتوبة عن هذه الأمور ليست بواجبة إذ إدراك الكمال غير واجب في الشرع ، فما المراد بقولك : التوبة واجبة في كل حال ? فاعلم أنه قد سبق أن الإنسان لا يخلو في مبدأ خلقته من اتباع الشهوات أصلا وليس معنى التوبة تركها فقط بل ; تمام التوبة بتدارك ما مضى وكل شهوة اتبعها الإنسان ارتفع منها ظلمة إلى قلبه كما يرتفع عن نفس الإنسان ظلمة إلى وجه المرآة الصقيلة فإن تراكمت ظلمة الشهوات صار رينا كما يصير بخار النفس في وجهه المرآة عند تراكمه خبثا كما قال تعالى كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون فإذا تراكم الرين صار طبعا فيطبع على قلبه كالخبث على وجه المرآة إذا تراكم وطال زمانه غاص في جرم الحديد وأفسده وصار لا يقبل الصقل بعده ، وصار كالمطبوع من الخبث ولا يكفي في تدارك اتباع الشهوات تركها في المستقبل بل لا بد من محو تلك الأريان التي انطبعت في القلب كما لا يكفي في ظهور الصور في المرآة قطع الأنفاس والبخارات المسودة لوجهها في المستقبل ، ما لم يشتغل بمحو ما انطبع فيها من الأريان وكما يرتفع إلى القلب ظلمة من المعاصي والشهوات فيرتفع ، إليه نور من الطاعات وترك الشهوات فتنمحي ، ظلمة المعصية بنور الطاعة ، وإليه الإشارة بقوله عليه السلام : « أتبع السيئة الحسنة تمحها » .


(وأما بيان وجوبها على الدوام وفي كل حال; فهو أن كل بشر فلا يخلو عن معصية بجوارحه; إذ لم يخل عن ذلك الأنبياء عليهم السلام مع جلالة قدرهم كما ورد القرآن والأخبار من خطايا الأنبياء عليهم السلام وتوبتهم وبكائهم على خطاياهم) ، وقد تقدم بعض ذلك .

(فإن خلا في بعض الأحوال عن معصية الجوارح فلا يخلو عن الهم بالذنوب بالقلب) فروى أحمد وأبو يعلى وابن عدي والضياء من حديث ابن عباس: "ما من أحد من ولد آدم إلا وقد أخطأ أو هم بخطيئة إلا يحيى بن زكريا، فإنه لم يهم بها، ولا ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى"، ورواه الحكيم والحاكم بلفظ: "ما من آدمي إلا وقد أخطأ، أو هم بخطيئة، غير يحيى بن زكريا لم يهم بخطيئة، ولم يعملها".

(وإن خلا من الهم فلا يخلو عن وسواس الشيطان بإيراد الخواطر المتفرقة المذهلة عن ذكر الله) تعالى، (فإن خلا عنها) أي: عن الخواطر الناشئة عن الوسواس، (فلا يخلو عن غفلة وقصور في العلم بالله وصفاته وأفعاله، وكل ذلك نقص) عن رتبة الكمال، (وله أسباب، وترك أسبابه بالتشاغل بأضدادها رجوع من طريق إلى ضده، والمراد بالتوبة الرجوع) كما هو حقيقة اللفظ يقال: تاب عنه توبة ومتابا: إذا رجع، (ولا يتصور الخلو في حق [ ص: 517 ] الآدمي عن هذا النقص، وإنما يتفاوتون في المقادير، فأما الأصل فلا بد منه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "إنه ليغان على قلبي في اليوم والليلة سبعين مرة فأستغفر الله منه" الحديث) هكذا في سائر نسخ الكتاب، وفي بعضها: "إنه يغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة". قال العراقي: رواه مسلم من حديث الأغر المزني إلا أنه قال: "في اليوم مائة مرة"، وكذا هو عند أبي داود والبخاري من حديث أبي هريرة: "إني لأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين"، وفي رواية البيهقي في الشعب: "سبعين"، ولم يقل "أكثر من"، وتقدم في الأذكار والدعوات .

قلت: حديث الأغر المزني رواه كذلك أحمد، وعبد بن حميد، والنسائي، وابن حبان، والبغوي، وابن قانع، والباوردي، والطبراني، وتقدم قريبا حديث الأغر عند مسلم: "يا أيها الناس توبوا إلى ربكم، فوالله إني لأتوب إلى الله في اليوم مائة مرة"، وعند الحكيم: فإني أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم، أو في كل يوم مائة مرة، أو أكثر من مائة مرة.

وقد تقدم الكلام على الأغر في الأذكار والدعوات. ثم قول المصنف: الحديث يدل على أن للحديث بقية لم يذكرها، وهذا لأن الموجود في نسخ الكتاب: إنه ليغان على قلبي في اليوم والليلة سبعين مرة، ثم قال: الحديث أي: إلى آخره: فأستغفر الله منه، وإلا فالحديث هو هذا بتمامه .

(ولذلك أكرمه الله تعالى بأن قال) في كتابه العزيز في خطابه إليه: ( ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ) ، وقد اختلفوا في معنى ذلك على أقوال أحسنها أن يقال جميع ما فرط منك مما يصح أن يعاتب عليه، (وإذا كان هذا) مع علو مقامه (حاله فكيف حال غيره .

فإن قلت: لا يخفى أن ما يطرأ على القلب من الهموم والخواطر نقص) في الجملة، (وأن الكمال في الخلو عنها) ، وفي نسخة عنه، (وأن القصور عن معرفة كنه جلال الله) وعظمته (نقص، وأن كلما ازدادت المعرفة زاد الكمال، وأن الانتقال إلى الكمال من أسباب النقص رجوع، والرجوع توبة) كما تقرر، (ولكن هذه فصائل) زائدة (لا فرائض، وقد أطلقت القول بوجوب التوبة في كل حال، والتوبة من هذه الأمور واجبة إذ إدراك الكمال غير واجب في الشرع، فما المراد بقولك: التوبة واجبة في كل حال؟ فاعلم أنه قد سبق أن الإنسان لا يخلو في مبدأ خلقته من اتباع الشهوات أصلا) لكونها معجونة في طينته، ولا يزايلها إلا بمدد العقل ومعونته، والعقل إنما يكمل بعد، (وليس معنى التوبة تركها فقط; لأن تمام التوبة بتدارك ما مضى) في مبدأ عمره، (وكل شهوة اتبعها الإنسان ارتفعت منها ظلمة إلى قلبه) فتغيره (كما يرتفع من نفس الإنسان ظلمة إلى وجه المرآة الصقيلة) أي: المصقولة; (فإن تراكمت ظلمة الشهوات) بأن كثرت حتى ركب بعضها بعضها (صار رينا) على القلب (كما يصير بخار النفس في وجه المرآة عند تراكمه) وكثرته (خبثا) وصدأ، (كما قال الله تعالى) في كتابه العزيز في حق المكذبين بالحق: إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين (كلا) ردع عن هذا القول ( بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) أي: غلب عليهم حب المعاصي بالانهماك فيها حتى صار ذلك رينا على قلوبهم فعمي عليهم معرفة الحق والباطل; فإن كثرة الأفعال سبب لحصول الملكات، (فإذا تراكم الرين صار طبعا فيطبع على قلبه) ، ومصداقه في حديث أبي هريرة: "إذا أذنب العبد نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب صقل منها، فإن عاد زادت حتى تعظم في قلبه" رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم، وقد كان الحسن يقول: إن بين العبد وبين الله تعالى حدا من المعاصي معلوما إذا بلغه العبد طبع على قلبه فلا يوفقه بعدها لخير. وفي حديث ابن عمر: الطابع فيطبع على القلب ما فيها. (كالخبث على وجه المرآة إذا تراكم وطال زمانه غاص في جرم الحديد) الهند، (وأفسده وصار لا يقبل الصقل بعده، وصار كالمطبوع من الخشب) أي: كأنه طبع منه، (ولا يكفي في تدارك اتباع الشهوات تركها في المستقبل) فقط، (بل لا بد من محو تلك الآثار التي انطبعت في القلب) من المعاصي، (كما لا يكفي في ظهور [ ص: 518 ] الصورة في المرآة قطع الأنفاس) عنها (وقطع البخارات المسودة لوجهها في المستقبل، ما لم يشتغل بمحو ما انطبع فيها من الأريان) ، فإذا صقلها ظهرت فيها الصور، ولو ظهر تغير القلوب بعد المعصية على وجه العاصي لاسود وجهه، لكن الله سلم بحلمه وستره، فغطى ذلك على القلب مع تأثيره فيه وحجابه لصاحبه وقساوته على الذكر وطلب البر والمسارعة إلى الخيرات، وذلك من أعظم العقوبات، ويقال: إن العبد إذا عصى اسود قلبه، فيثور على القلب دخان يشهده الإيمان، وهو مكان خزن الكبد الذي يسود، ويكون ذلك الدخان حجابا له عن العلم والبيان كما تحجب السحابة الشمس فلا ترى، وإذا تاب العبد وأصلح انكشف الحجاب فيظهر الإيمان ويأنس بالعلم، كما تبرز الشمس من تحت السحاب، (وكما ترتفع إلى القلب ظلمة من المعاصي والشهوات، فكذلك يرتفع إليه نور من الطاعات وترك الشهوات، فتمحى ظلمة المعصية بنور الطاعة، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: "أتبع السيئة الحسنة تمحها") قال العراقي: رواه الترمذي من حديث أبي ذر بزيادة في أوله وآخره، وقال: حسن انتهى .

قلت: الحديث بتمامه: "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن" هكذا رواه الترمذي وحسنه، والدارمي، والحاكم، والبيهقي، والضياء، ورواه أحمد، والترمذي والبيهقي من حديث معاذ بن جبل، والصحيح حديث أبي ذر، ورواه ابن عساكر من حديث أنس، وقال الدارقطني في كتاب العلل: رواه ابن حبيب بن أبي ثابت عن ميمون بن أبي شبيب، عن معاذ بن جبل قال: قلت يا رسول الله أوصني. قال: "اتق الله حيثما كنت" قال: قلت يا رسول الله زدني. قال: "أتبع السيئة الحسنة تمحها" قال: قلت يا رسول الله، زدني. قال: "خالق الناس بخلق حسن" هكذا رواه حماد بن شبيب، وليث بن أبي سليم، وإسماعيل بن مسلم المكي عن حبيب، ورواه الثوري عن حبيب، واختلف عنه فرواه وكيع عن الثوري هكذا، وأرسله جماعة عن وكيع، فلم يذكروا فيه معاذا، وكذلك رواه أبو سفيان واسمه سعيد بن سنان، عن حبيب، عن ميمون مرسلا .

وقيل: عن الثوري، عن حبيب، عن ميمون، عن أبي ذر، رواه أبو مريم الغفاري، عن الحكم بن عتبة، عن ميمون، عن معاذ وغيره يرويه عن الحكم مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان المرسل أشبه بالصواب. انتهى .

قلت: وقد وقع لنا عاليا في جزء أبي بكر محمد بن العباس الرافعي: حدثنا أحمد بن بزيع الخفاف، حدثنا سعيد بن مسلم، عن الليث بن سليم، عن حبيب، فذكره .

التالي السابق


الخدمات العلمية