إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
قسمة ثالثة : اعلم أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر ، وقد كثر اختلاف الناس فيها ; فقال قائلون : لا صغيرة ، ولا كبيرة ، بل كل مخالفة لله فهي كبيرة وهذا إذ قال تعالى : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما وقال تعالى الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم وقال صلى الله عليه وسلم : الصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة يكفرن ما بينهن إن اجتنبت الكبائر وفي لفظ آخر : كفارات لما بينهن إلا الكبائر .


(قسمة ثالثة للذنوب: اعلم) هداك الله تعالى (أن الذنوب تنقسم إلى كبائر وصغائر، وقد كثر اختلاف الناس فيها; فقال قائلون: لا صغيرة، ولا كبيرة، بل كل مخالفة لله تعالى) مما نهي عنه (فهي كبيرة) ، وهذا مذهب ابن عباس، وتبعه جماعة منهم أبو إسحاق الإسفراييني، وأبو بكر الباقلاني، وإمام الحرمين في الإرشاد، والقشيري في المرشدة، بل حكاه ابن فورك عن الأشاعرة، واختاره في تفسيره فقال: معاصي الله عندنا كلها كبائر، وإنما يقال لبعضها صغيرة وكبيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها، ثم أول الآية الآتية: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه الآية، بما ينبو عنه ظاهرها، وقال المعتزلة: الذنوب على ضربين: صغائر، وكبائر، وهذا ليس بصحيح. انتهى. وربما ادعى في موضع اتفاق الأصحاب على ما ذكره، واعتمد ذلك التقي السبكي.

قال القاضي عبد الوهاب: لا يمكن أن يقال في معصية: إنها صغيرة إلا على معنى أنها تصغر باجتناب الكبائر، (وهذا) القول (ضعيف) ، ويعتذر بأنهم إنما قالوا ما قالوا نظرا إلى عظمة من عصى الرب فكرهوا تسمية معصية الله صغيرة مع اتفاقهم في الحرج على أنه لا يكون بمطلق المعصية، فالخلف لفظي يرجع لمطلق القسمة .

ثم بين المصنف وجه ضعف هذا القول فقال: (إذا قال تعالى: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ) قال: السدي أي: الصغار، ( وندخلكم مدخلا كريما ) قال قتادة: أي: الجنة، (وقال تعالى: الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ) أي: الصغائر، ففي الآيتين دليل على تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر، وفي الحديث:

إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لله ما ألما

.

(وقال صلى الله عليه وسلم: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة") فالمضاف محذوف أي: صلاة الجمعة منتهية إلى الجمعة ("تكفر ما بينهن") من الصغائر ("إن اجتنب الكبائر") شرط جزاء دل عليه ما قبله .

قال النووي: معناه أن الذنوب كلها تغفر إلا الكبائر فلا تغفر، لا أن الذنوب تغفر ما لم تكن كبيرة، فإن كانت لا تغفر صغائره ثم كل من المذكورات صالح للتكفير، فإن لم تكن له صغائر كتب له حسنات، ورفع له درجات. والحديث قال العراقي: رواه مسلم من حديث أبي هريرة. انتهى .

قلت: هذا لفظ ابن حبان والطبراني من حديث أبي بكرة إلا أنهما قالا: كفارات لما بينهن ما اجتنبت، والباقي سواء، ويقرب من ذلك لفظ الترمذي من حديث أبي هريرة: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة مكفرات لما بينهم إذا اجتنب الكبائر"، وأما لفظ مسلم ففيه زيادة: "ورمضان إلى رمضان"، والباقي كسياق الترمذي، وهكذا هو عند أحمد، وفي رواية لمسلم: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن ما لم تفش"، وزاد ابن ماجه من حديث أبي أيوب بعد قوله: "إلى الجمعة وأداء الأمانات كفارات لما بينهما". قيل: وما أداء الأمانة؟ قال: "الغسل من الجنابة، فإن تحت كل شعرة جنابة"، وهكذا رواه محمد بن نصر، والشاشي، والطبراني، والسراج في مسنده، والبيهقي، وابن عساكر، والضياء ، (وفي لفظ آخر: كفارات لما بينهن إلا الكبائر) رواه أبو نعيم في الحلية من حديث أنس بلفظ: "الصلوات الخمس كفارات لما بينهن ما اجتنب الكبائر، والجمعة إلى الجمعة، وزيادة ثلاثة أيام"، وهنا إشكال صعب أورده ابن بزيزة، وهو أن الصغائر بنص القرآن مكفرة باجتناب الكبائر، فما الذي تكفره الصلوات [ ص: 531 ] وأجاب عنه البلقيني بأن معنى: إن تجتنبوا الموافاة على هذه الحال من الإيمان أو التكليف إلى الموت، والذي في الحديث: أن الصلوات الخمس تكفر ما بينها إلا في يومها إذا اجتنبت الكبائر في ذلك اليوم، فالسؤال غير وارد، وبفرض وروده فالتخلص منه أنه لا يتم اجتناب الكبائر إلا بفعل الخمس، فمن لم يفعل لم يجتنب; لأن تركها من الكبائر، فيتوقف التكفير على فعلها، وأحوال المكلف بالنسبة لما يصدر منه من صغيرة وكبيرة خمسة: إحداها أن لا يصدر منه شيء، فهذا ترفع درجاته .

الثانية يأتي بصغائر بلا إصرار فهذا يكفر عنه جزما .

الثالثة مثله لكن مع الإصرار فلا يكفر; لأن الإصرار كبيرة .

الرابعة يأتي بكبيرة واحدة وصغائر .

الخامسة يأتي بكبائر وصغائر، وفيه نظر يحتمل إذ لم يجتنب أن تكفر الصغائر فقط .

والأرجح لا تكفر; إذ مفهوم المخالفة إذا لم تتعين جهته لا يعمل به، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية