إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وأما مظالم العباد ففيها أيضا معصية وجناية على حق الله تعالى ; فإن الله تعالى نهى عن ظلم العباد أيضا فما يتعلق منه بحق الله تعالى تداركه بالندم والتحسر ، وترك مثله في المستقبل والإتيان بالحسنات التي هي أضدادها فيقابل إيذاءه الناس بالإحسان إليهم ، ويكفر غصب أموالهم بالتصدق بملكه الحلال ، ويكفر تناول أعراضهم بالغيبة والقدح فيهم بالثناء على أهل الدين وإظهار ما يعرف من خصال الخير من أقرانه وأمثاله ويكفر قتل النفوس بإعتاق الرقاب ; لأن تلك إحياء ; إذ العبد مفقود لنفسه موجود لسيده والإعتاق ، إيجاد لا يقدر الإنسان على أكثر منه فيقابل الإعدام بالإيجاد وبهذا تعرف أن ما ذكرناه من سلوك طريق المضادة في التكفير والمحو مشهود له في الشرع ، حيث كفر القتل بإعتاق رقبة ثم إذا فعل ذلك كله لم ، يكفه ما لم يخرج عن مظالم العباد ، ومظالم العباد إما في النفوس أو الأموال أو الأعراض أو القلوب ، أعني به الإيذاء المحض .

أما النفوس فإن جرى عليه قتل خطأ فتوبته بتسليم الدية ووصولها إلى المستحق إما منه أو ، من عاقلته ، وهو في عهدة ذلك قبل الوصول وإن كان عمدا موجبا للقصاص فبالقصاص فإن لم يعرف فيجب عليه أن يتعرف عند ولي الدم ويحكمه في روحه ، فإن شاء عفا عنه ، وإن شاء قتله ، ولا تسقط عهدته إلا بهذا ، ولا يجوز له الإخفاء وليس هذا كما لو زنى أو شرب أو سرق أو قطع الطريق أو باشر ما يجب عليه فيه حد الله تعالى ; فإنه لا يلزمه في التوبة أن يفضح نفسه ويهتك ستره ، ويلتمس من الوالي استيفاء حق الله تعالى بل عليه أن بستر الله تعالى ، ويقيم حد الله على نفسه بأنواع المجاهدة والتعذيب فالعفو ، في محض حقوق الله تعالى قريب من التائبين النادمين فإن أمر هذه إلى الوالي حتى أقام عليه الحد وقع موقعه ، وتكون توبته صحيحة مقبولة عند الله تعالى بدليل ما روي أن ماعز بن مالك أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، إني قد ظلمت نفسي وزنيت وإني ، أريد أن تطهرني فرده ، فلما كان من الغد أتاه ، فقال : يا رسول الله ، إني قد زنيت فرده الثانية ، فلما كان في الثالثة أمر به فحفر له حفرة ، ثم أمر به .

فرجم ، فكان الناس فيه فريقين ; فقائل يقول : لقد هلك وأحاطت ، به خطيئته ، وقائل يقول : ما توبة أصدق من توبته ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم وجاءت الغامدية فقالت : يا رسول الله ، إني قد زنيت فطهرني فردها ، فلما كان من الغد ، قالت : يا رسول الله ، لم تردني لعلك تريد أن ترددني كما رددت ماعزا فوالله ، إني لحبلى فقال صلى الله عليه وسلم : أما الآن فاذهبي حتى تضعي ، فلما ولدت أتت بالصبي في خرقة ، فقالت : هذا قد ولدته قال : اذهبي ، فأرضعيه حتى تفطميه ، فلما فطمته أتت بالصبي ، وفي يده كسرة خبز فقالت يا نبي : الله قد فطمته ، وقد أكل الطعام ، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها ، وأمر الناس فرجموها فأقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فتنضح الدم على وجهه فسبها ، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبه إياها ، فقال : مهلا يا خالد فوالذي ، نفسي بيده ، لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له ، ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت .


وأما حق العبد فلا بد منه، وإلى ذلك أشار المصنف بقوله: (وأما مظالم العباد ففيها أيضا معصية وجناية على حق الله; فإن الله تعالى نهى عن ظلم العباد أيضا) في آي كثيرة، وأخبار صحيحة، (فمتى تعلق به حق الله تعالى تداركه بالندم والتحسر، وترك مثله في المستقبل) ، وبه تمت أركان التوبة، وقد أشار إلى كمالها فقال: (والإتيان بالحسنات التي هي أضدادها) أي: المعاصي (فيقابل إيذاء الناس) أي: إن كان آذاهم (بالإحسان إليهم، ويكفر غصب أموالهم بالتصدق) على الفقراء (بملك الحلال، ويكفر تناول أعراضهم بالغيبة والقدح فيهم بالثناء على أهل الدين) والصلاح، (وإظهار ما يعرف من خصال الخير من أقرانه وأمثاله) ، وبث ذلك بين الناس، (ويكفر قتل النفوس بإعتاق الرقاب; لأن ذلك إحياء; إذ العبد مفقود لنفسه موجود لسيده، فالإعتاق إيجاد) أي: بمنزلته (لا يقدر الإنسان على أكثر منه) ; إذ ليس في وسعه الإيجاد الحقيقي، فجعل الإعتاق قائما مقامه رحمة من الله على عباده، ومنة منه عليهم (فيقابل الإعدام) الذي هو قتل النفس (بالإيجاد) الذي هو عتق الرقبة، (وبهذا تعرف أن ما ذكرناه من سلوك طريق المضادة في التكفير والمحو مشهود له في الشرع، حيث كفر القتل بإعتاق رقبة) ، وهذا من الأسرار الإلهية التي لا يدركها إلا خواص البشر، (ثم إذا فعل ذلك كله لم ينجه، ولم يكفه ما لم يخرج عن مظالم العباد، ومظالم العباد إما في النفس أو الأموال والأعراض أو القلوب، أعني به الإيذاء المحض، أما النفوس فإن جرى عليه قتل خطأ فتوبته بتسليم الدية) ، وهي المال الذي هو بدل النفس، (ووصولها إلى المستحق [ ص: 579 ] إما منه، أو من عاقلته، وهو في عهده ذلك قبل الوصول) ، والخطأ قتل بمباشرة، وهو أن يرمي شخصا يظنه صيدا أو حربيا، فإذا هو مسلم فهذا خطأ في القصد، أو يرمي غرضا فيصيب آدميا، فهذا خطأ في القصد، أو يرمي غرضا فيصيب آدميا فهذا خطأ في الفعل، ويلحق به ما يجري مجراه كأن يكون في حالة النوم فتغلب على إنسان فقتله، والدية اثنا عشر ألفا عند مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة: عشرة آلاف، وعنده دية المسلم والذمي سواء، وقال مالك: دية الذمي ستة آلاف درهم، وقال الشافعي: دية الكتابي أربعة آلاف، ودية المجوسي ثمانية، ودية المرأة نصف دية الرجل عند الكل، (وإن كان عمدا موجبا للقصاص) بأن كان بسلاح ومشابهه في تفريق الأجزاء وإلا فهو شبه العمد، قال: الشافعي: هو أن يتعمد للضرب بآلة لا يقتل مثلها غالبا كالعصا والسوط والحجر الصغير، ووافقه أبو يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة: شبه العمد أن يتعمد الضرب بما لا يفرق الأجزاء كالعصا والحجر واليد، ولهذا لو ضربه بحجر عظيم، أو خشبة فهو عمد عندهم خلافا له، ولو ضربه بسوط صغير، ووالى في الضربات حتى مات، فهو عمد يقتص به عند الشافعي خلافا لنا .

(فبالقصاص) فتوبته بأن يقتص منه; قال الله تعالى: كتب عليكم القصاص في القتلى الآية، وللشافعي في موجب العمد قولان: أحدهما القصاص إلا إذا عفا الولي، فله أن يختار أخذ الدية بغير رضا القاتل; لأن أخذ المال تعين سببا لدفع الهلاك فيجوز بدون رضاه، كمن أصابته مخمصة فبذل له إنسان طعاما بثمن المثل لزمه الشراء; لأنه يملك ما يحيي به نفسه بعوض يعدله، والثاني القصاص أو الدية، ويتبين ذلك باختيار الولي، وقال أبو حنيفة: موجب العمد القود، وهو واجب عينا، وليس للولي أخذ الدية إلا برضا القاتل إلا أن يعفو الأولياء; إذ وجوب المال عند المصاحبة برضا القاتل في ماله، فيجب بدل الصلح قليلا أو كثيرا في ماله على ما اصطلحوا عليه من تعجيل أو تأجيل، أو تنجيم، وإن لم يذكر شيئا كان المال حالا كسائر المعاوضات عند الاصطلاح أو صلح بعضهم أو عفوه، فيجب بقية الدية على العاقلة; (فإن لم يعرف) بالقتل (فيجب عليه أن يعترف) به (عند ولي الدم ويحكمه في روحه، فإن شاء عفا عنه، وإن شاء قتله، ولا تسقط عهدته إلا بهذا، ولا يجوز له الإخفاء) ، ومتى أخفى كان آثما غير إثم القتل، (وليس هذا كما لو زنى) بامرأة (أو شرب) خمرا (أو سرق) شيئا ذا قيمة (أو قطع الطريق) على المسلمين (أو باشر ما يجب عليه فيه حد لله تعالى; فإنه لا يلزمه في التوبة أن يفضح نفسه) بين الناس، (ويهتك ستره، ويلتمس من الوالي استيفاء حق الله تعالى) عنه، (بل عليه أن يستر بستر الله تعالى، ويقيم حد الله على نفسه بأنواع المجاهدة والتعذيب مع الندم، وهو التأسف، فعفو الله في محض حق الله تعالى قريب من التائبين النادمين) ; فإن من تاب إلى الله تعالى، ونزع مما صدر منه يرجى أن يعفى عنه; (فإن رفع أمره إلى الوالي حتى أقام عليه الحد وقع موقعه، وتكون توبته صحيحة مقبولة عند الله تعالى بدليل ما روي أن ماعز بن مالك) الأسلمي رضي الله عنه قال ابن حبان: له صحبة (أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني قد ظلمت نفسي وزنيت، وإني أريد أن تطهرني) أي: بإقامة الحد، (فرده، فلما كان من الغد أتاه، فقال: يا رسول الله، إني قد زنيت فرده الثانية، فلما كان في الثالثة أمر به فحفر له حفرة، ثم أمر به فرجم، فكان الناس فيه فرقتين; فقائل يقول: لقد هلك، ولقد أحاطت به خطيئته، وقائل يقول: ما توبة أصدق) ، وفي نسخة: أفضل (من توبته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد تاب توبة لو قسمت بين) ، وفي نسخة: على (أمة لوسعتهم) قال العراقي: رواه مسلم من حديث بريدة بن الخطيب انتهى .

قلت: لفظ مسلم من حديث بريدة قال: جاء ماعز بن مالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، طهرني، فقال: ويحك، ارجع فاستغفر الله وتب إليه، فرجع غير بعيد، ثم جاء فقال: يا رسول الله، طهرني. فقال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، حتى إذا كانت الرابعة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: مم أطهرك فقال: من الزنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبه جنون، فأخبر أنه ليس بمجنون، فقال: أشرب خمرا؟ فقام رجل فاستنكهه، فلم يجد منه ريح خمر. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أزنيت؟ فقال: نعم، فأمر به فرجم، فكان الناس فيه فرقتين; قائل يقول: لقد أحاطت به خطيئته، وقائل يقول: ما توبة [ ص: 580 ] أفضل من توبة ماعز، إنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده في يده، ثم قال: اقتلني بالحجارة، قال: فلبثوا بذلك يومين أو ثلاثة، ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم جلوس، فسلم ثم جلس، فقال: استغفروا لماعز بن مالك، فقالوا: غفر الله لماعز بن مالك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم.

وأخرجه أبو داود مختصرا ولمسلم أيضا من حديث بريدة أن ماعز بن مالك الأسلمي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني قد ظلمت نفسي وزنيت، وإني أريد أن تطهرني، فرده، فلما كان من الغداة أتاه، فقال: يا رسول الله، إني قد زنيت، فرده الثانية، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه، فقال: تعلمون بعقله بأسا تنكرون منه شيئا؟ فقالوا: ما نعلمه إلا وفي العقل من صالحينا فيما نرى، فأتاه الثالثة، فأرسل إليهم أيضا، فسأل عنه فأخبروه أنه لا بأس به ولا بعقله، فلما كان الرابعة حفر له حفرة، ثم أمر به فرجم.

وهذا السياق متصل بحديث الغامدية الآتي ذكره، والمصنف جمع بين البابين لما وجدهما من رواية صحابي واحد .

وروى أبو داود والنسائي، عن عبد الرحمن بن الصامت أنه سمع أبا هريرة يقول: جاء الأسلمي نبي الله صلى الله عليه وسلم فشهد على نفسه أنه أصاب امرأة حراما أربع مرات، كل ذلك يعرض عنه، فأقبل في الخامسة فقال: أنكتها؟ هذا لفظ أبي داود، ولفظ النسائي: نكحتها، ثم اتفقا فقالا: قال: نعم، قال: كما يغيب المرود في المكحلة، والرشاء في البئر؟ قال: نعم. قال: فهل تدري ما الزنا؟ قال: نعم، أتيت منها حراما ما يأتي الرجل من امرأته حلالا. قال: فما تريد بهذا القول؟ قال: أريد أن تطهرني فأمر به فرجم، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه: انظروا إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى يرجم رجم الكلب، فسكت عنهما، ثم سار ساعة حتى مر بجيفة حمار شائل برجله، فقال: أين فلان وفلان؟ فقالا: نحن ذان يا رسول الله، قال: انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار، قالا يا نبي الله، من يأكل من هذا؟ قال: فما نلتما من عرض أخيكما آنفا أشد من أكلكما منه، والذي نفسي بيده إنه الآن في أنهار الجنة ينغمس فيها. وقد تقدم هذا الحديث في كتاب ذم الغيبة .

وروى الترمذي، وقال: حسن غريب من حديث علقمة بن وائل عن أبيه بلفظ: "لقد تاب توبة لو تابها أهل المدينة لقبل منهم"، وروى الطبراني في الكبير من حديث ابن عباس بلفظ: "لقد تاب توبة لو تابها صاحب مكس لقبلت منه" يعني ماعزا.

وقال الحافظ في الإصابة في ترجمة ماعز ثبت ذكره في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد وغيرهما، وجاء ذكره في حديث أبي بكر الصديق، وأبي ذر، وجابر بن عبد الله، وجابر بن سمرة، وبريدة بن الحصيب، وابن عباس، ونعيم بن هزال، وأبي سعيد الخدري، ونصر الأسلمي، وأبي برزة، سماه بعضهم، وأبهمه بعضهم، وفي بعض طرقه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لقد تاب توبة لو تابها طائفة من أمتي لأجزأت عنهم .

وفي صحيح ابن عوانة وابن حبان وغيرهما من طريق أبي الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجم ماعز بن مالك قال: لقد رأيته يتخضخض في أنهار الجنة.

ويقال: إن اسمه عريب، وماعز لقب. انتهي .

ثم قال مسلم عقيب حديث ماعز قال: (وجاءت الغامدية فقالت: يا رسول الله، إني قد زنيت فطهرني فردها، فلما كان من الغد، قالت: يا رسول الله، لم تردني لعلك تريد أن تردني كما رددت ماعزا، فوالله إني لحبلى قال: أما لا) هكذا في نسخ مسلم، وهو بفتح الهمزة وتشديد الميم بعدها لا نافية، وفيه لغات ذكرتها في آخر شرح القاموس، ولغة النبي صلى الله عليه وسلم بالإمالة، فيه أما لي، ويوجد في سائر نسخ الكتاب الآن، وهو غلط (فاذهبي حتى تلدي، فلما ولدت أتت بالصبي في خرقة، فقالت: هذا قد ولدته قال: اذهبي، فأرضعيه حتى تفطميه، فلما فطمته أتت بالصبي، وفي يده كسرة خبز فقالت: يا نبي الله قد فطمته، وقد أكل الطعام، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها فحفر لها) حفرة (إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها فأقبل) ، وفي لفظ: فيقبل، وهكذا هو في مسلم (خالد بن الوليد) رضي الله عنه (بحجر فرمى رأسها فتنضح) أي: ترشش (الدم على وجهه فسبها، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبه أباها، فقال: مهلا يا خالد، فوالذي نفسي بيده، لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له، ثم [ ص: 581 ] أمر بها فصلى عليها، ودفنت) قال العراقي: رواه مسلم من حديث بريدة، وهو بعض الحديث الذي قبله. انتهى .

قلت: ولم يخرج البخاري عن بريدة في هذا شيئا، ولا ذكر حديث هذه المرأة، وإنما ذكر حديث المرأة والعسير، ورواه أبو داود والنسائي مختصرا من رواية عبد الله بن بريدة عن أبيه أن امرأة يعني من غامد أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إني قد فجرت، فقال: ارجعي فرجعت، فلما كان الغد أتته، فقالت: لعلك أن تردني كما رددت ماعز بن مالك، فوالله إني لحبلى، فقال لها: ارجعي حتى تلدي، فرجعت، فلما كان الغد أتته فقال: ارجعي حتى تلدي فرجعت، فلما ولدت أتته بالصبي، فقالت: قد ولدت. فقال: ارجعي فأرضعيه حتى تفطميه، فجاءت به وقد فطمته، وفي يده شيء يأكله، فأمر بالصبي فدفع إلى رجل من المسلمين، وأمر بها فحفر لها فرجمت، وكان خالد فيمن يرجمها، فرجمها بحجر فوقعت قطرة من دمها على وجهه، فسبها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: مهلا يا خالد، فوالذي نفسي بيده، لقد تابت توبة، لو تابها صاحب مكس لغفر له، وأمر بها فصلي عليها ودفنت، وكذلك رواه أحمد، وحديث مسلم أتم من هذا، يشتمل على قصة ماعز، وقصة الغامدية قال المنذري في مختصر أبي داود في إسناده بشر بن المهاجر الغنوي الكوفي، وليس له في صحيح مسلم سوى هذا الحديث، وقد وثقه يحيى بن معين، وقال أحمد: منكر الحديث، يجيء بالعجائب، مرجئ متهم، وقال في أحاديث ماعز كلها: أن ترديده إنما كان في مجلس واحد، إلا ذاك الشيخ بشر بن المهاجر. وقال أبو حاتم الرازي: يكتب..... حديثه غيرها، ولا عيب على مسلم في إخراج هذا الحديث، فإنه أتى به في الطبقة الثانية بعد ما ساق طرق حديث ماعز، وأتي به آخرا ليبين اطلاعه على طرق الحديث، والله أعلم. وروى مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي من حديث عمران بن حصين أن امرأة من جهينة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إنها زنت وهي حبلى، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم وليا لها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحسن إليها، فإذا وضعت فجئ بها، فلما وضعت جاء بها فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فشكت عليها ثيابها، ثم أمر بها فرجمت، ثم أمرهم فصلوا عليها، فقال عمر: يا رسول الله تصلي عليها وقد زنت؟ قال: والذي نفسي بيده، لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت توبة أفضل من أن جاءت بنفسها لله، لم يقل أبو داود عن أبان: فشكت عليها ثيابها، وحكى أبو داود عن الأوزاعي قال: فشكت عليها ثيابها يعني بشدة، ورواه كذلك أحمد وابن جرير، وذكر الحافظ أبو بكر الخطيب في كتاب المبهمات حديث الغامدية. وقال رواه عمران بن حصين، وقال لامرأة من جهينة، واسم هذه المرأة سبيعة، وقيل: آسية بنت الفرج، وساق شاهدها، وقد جاء في بعض طرقه بأنها القريشية، وليس بين هذه النسب اجتماع، وظاهر كلام الخطيب أنها امرأة واحدة، واختلف في نسبها، هكذا نقله المنذري عن الخطيب.

قلت: آسية بنت الفرج جرهمية، أورد ابن منده قصتها من طريق أيوب: بنت الفرج امرأة من جرهم، وكان مسكنها الحجون بمكة فذكرها بطولها، وقيل: هي سبيعة بنت الحارث الأسلمية، وقيل: هي امرأة من قريش، وهي غير الأسلمية، أوردها هبة الله في الناسخ والمنسوخ، وروى ابن منده من رواية عبيد بن عمير، عن عائشة قالت: سمعت سبيعة القرشية، قالت: يا رسول الله إني زنيت فأقم علي حد الله. فقال: اذهبي حتى تضعي، فذكر الحديث .

قال الحافظ في الإصابة: سنده ضعيف، وأخلق بها إن ثبت خبرها أن تكون هي سبيعة الأسلمية انتهى. قال المنذري: وذكر بعضهم أن حديث عمران بن حصين فيه أنه قد أمر برجمها حين وضعت، ولم يستأن بها، وكذا روي عن علي أنه فعل بشراحة رجمها لما وضعت، وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وأصحاب الرأي، وقال أحمد وإسحاق: تترك حتى تضع ما في بطنها، ثم تترك حولين حتى تفطمه، ويشبه أن يكونا ذهبا إلى حديث بريدة. وحديث عمران أجود إسنادا، وقال بعضهم: يحتمل أن تكونا امرأتين: إحداهما وجد لولدها كفيل وقبلها، والأخرى لم يوجد لولدها كفيل أو لم يقبل، فوجب إمهالها حتى يستغني عنها; لئلا يهلك بهلاكها، ويكون الحديث محمولا على حالين، ويرتفع الخلاف، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية