إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فإن قلت : فكيف يكون الاستغفار نافعا من غير حل عقدة الإصرار ، وفي الخبر : المستغفر من الذنب وهو مصر عليه كالمستهزئ بآيات الله وكان بعضهم يقول: أستغفر الله من قولي : أستغفر الله وقيل : الاستغفار باللسان توبة الكذابين وقالت رابعة العدوية استغفارنا يحتاج إلى استغفار كثير فاعلم أنه قد ورد في فضل الاستغفار أخبار خارجة عن الحصر ذكرناها في كتاب الأذكار والدعوات حتى قرن الله الاستغفار ببقاء الرسول صلى الله عليه وسلم فقال تعالى : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون فكان بعض الصحابة يقول : كان لنا أمانان : ذهب أحدهما وهو كون الرسول فينا وبقي ، الاستغفار معنا ، فإن ذهب هلكنا فنقول : الاستغفار الذي هو توبة الكذابين هو الاستغفار بمجرد اللسان من غير أن يكون للقلب فيه شركة ، كما يقول الإنسان بحكم العادة وعن رأس الغفلة : أستغفر الله وكما يقول إذا سمع صفة النار نعوذ بالله منها من غير أن يتأثر به قلبه ، وهذا يرجع إلى مجرد حركة اللسان ولا جدوى له ، فأما إذا انضاف إليه تضرع القلب إلى الله تعالى ، وابتهاله في سؤال المغفرة عن صدق إرادة وخلوص نية ورغبة ، فهذه حسنة في نفسها فتصلح لأن تدفع بها السيئة وعلى هذا تحمل الأخبار الواردة في فضل الاستغفار حتى قال صلى الله عليه وسلم : ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة .

وهو عبارة عن الاستغفار بالقلب وللتوبة والاستغفار درجات وأوائلها لا تخلو عن الفائدة ، وإن لم تنته إلى أواخرها ولذلك ، قال سهل لا بد للعبد في كل حال من مولاه فأحسن أحواله أن يرجع إليه في كل شيء ، فإن عصى قال : يا رب استر علي ، فإذا فرغ من المعصية قال : يا رب تب علي ، فإذا تاب قال : يا رب ارزقني العصمة وإذا عمل قال : يا رب تقبل مني وسئل أيضا عن الاستغفار الذي يكفر الذنوب فقال : أول الاستغفار الاستجابة ، ثم الإنابة ، ثم التوبة فالاستجابة أعمال الجوارح ، والإنابة أعمال القلوب ، والتوبة إقباله على مولاه بأن يترك الخلق ثم يستغفر الله من تقصيره الذي هو فيه ومن الجهل بالنعمة ، وترك الشكر فعند ذلك يغفر له ، ويكون عنده مأواه ، ثم التنقل إلى الانفراد ، ثم الثبات ، ثم البيان ، ثم الفكر ، ثم المعرفة ، ثم المناجاة ، ثم المصافاة ، ثم الموالاة ، ثم محادثة السر ، وهو الخلة ، ولا يستقر هذا في قلب عبد حتى يكون العلم غذاءه ، والذكر قوامه ، والرضا زاده والتوكل صاحبه ، ثم ينظر الله إليه فيرفعه إلى العرش فيكون مقامه مقام حملة العرش وسئل أيضا عن قوله صلى الله عليه وسلم : « التائب حبيب الله فقال » : إنما يكون حبيبا إذا كان فيه جميع ما ذكر في قوله تعالى : التائبون العابدون الآية وقال : الحبيب هو الذي لا يدخل فيما يكرهه حبيبه .


(فإن قلت: فكيف يكون الاستغفار نافعا من غير حل عقدة الإصرار، وفي الخبر: المستغفر من الذنب وهو مصر عليه كالمستهزئ بآيات الله؟) قال: العراقي: رواه ابن أبي الدنيا في التوبة، ومن طريقه البيهقي في الشعب من حديث ابن عباس بلفظ: "كالمستهزئ بربه"، وسنده ضعيف ا هـ .

قلت: لفظ ابن أبي الدنيا: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه، ومن آذى مسلما كان عليه من الذنب كذا وكذا"، وفي سنده من لا يعرف .

وروي مرفوعا، قال المنذري، ولعله أشبه، بل هو الراجح، وقد رواه البيهقي، وابن عساكر من هذا الطريق، (وكان بعضهم يقول: أستغفر الله من قولي: أستغفر الله) أي: من غير توبة وندم من القلب، نقله صاحب القوت .

(وقيل: الاستغفار باللسان توبة الكذابين) نقله صاحب القوت، وفي الرسالة قال ذو النون الاستغفار من غير إقلاع توبة الكذابين قال: وقال بعضهم: توبة الكذابين على طرف لسانهم [ ص: 605 ] يعني قول: أستغفر الله. (وقالت رابعة) بنت إسماعيل (العدوية) البصرية رحمها الله تعالى: (استغفارنا هذا يحتاج إلى استغفار) ، وتوبتنا تحتاج إلى توبة أي: في صحتها وإخلاصها من النظر إليها والسكوت والإدلال بها، نقله صاحب القوت .

(فاعلم أنه قد ورد في فضل الاستغفار أخبار خارجة عن الحصر) والاستقصاء (ذكرناها في كتاب الأذكار والدعوات حتى) أنه قد (قرن الله تعالى الاستغفار) للعباد (ببقاء الرسول) فيهم، ودفع العذاب عنهم بوجوده; فضلا منه ونعمة، (فقال الله تعالى: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ) نقله صاحب القوت، (فكان بعض الصحابة) ولفظ القوت: وقد كان بعض السلف (يقول: كان لنا أمانان: ذهب أحدهما) ، ولفظ القوت: فذهب أحدهما، وبقي الآخر، (وهو كون الرسول فينا، و) الذي (بقي الاستغفار، فإن ذهب هلكنا) . قال العراقي: رواه أحمد من قول أبي موسي الأشعري، ورفعه الترمذي من حديثه: "أنزل الله علي أمانين" الحديث، وضعفه، ورواه ابن مردويه في التفسير من قول ابن عباس ا هـ .

قلت: لفظ الترمذي: أنزل الله تعالى علي أمانين لأمتي وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ، فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة، وأما الموقوف من قول أبي موسى فقد أخرجه أيضا ابن جرير وأبو الشيخ، والطبراني، وابن مردويه، والحاكم، وابن عساكر عنه قال: إنه قد مضى لسبيله، وأما الاستغفار فهو كائن فيكم إلى يوم القيامة، وأما قول ابن عباس بلفظ ابن مردويه: "إن الله جعل في هذه الأمة أمانين لا يزالون معصومين من قوارع العذاب ما دام بين أظهرهم، فأمان قبضه الله إليه وأمان بقي فيكم، وما كان الله ليعذبهم الآية، وهكذا رواه ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ ورواه البيهقي في الشعب بلفظ: كان في هذه الأمة أمانان يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقي أمان يعني الاستغفار، وروي أيضا في السنن مثله .

وقد روي مثل ذلك من قول أبي هريرة بلفظ: كان فيهم أمانان، مضى أحدهما، وبقي الآخر قال الله تعالى: وما كان الله ليعذبهم الآية .

وروى الديلمي من حديث عثمان بن أبي العاص رفعه: "في الأرض أمانان: أنا أمان، والاستغفار أمان، وأنا مذهوب بي، وبقي أمان الاستغفار، فعليكم بالاستغفار عند كل حدث وذنب".

وروى صاحب نهج البلاغة من طريق أهل البيت عن علي رضي الله عنه أنه قال: كان في الأرض أمانان من عذاب الله سبحانه، فرفع أحدهما، فدونكم الآخر، فتمسكوا به; أما الأمان الذي رفع فهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما الأمان الباقي فالاستغفار، قال الله عز وجل: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون .

(فنقول: الاستغفار الذي هو توبة الكذابين هو الاستغفار بمجرد اللسان من غير أن يكون للقلب فيه شركة، كما يقول الإنسان بحكم العادة وعن رأس الغفلة: أستغفر الله فيجري) على لسانه من غير أن يتعقل معناه، أو يعمل بموجبه، (وكما يقول إذا سمع صفة النار) وأحوال المعذبين فيها: (نعوذ بالله منها) ، أو ما يشبهه (من غير أن يتأثر قلبه، وهذا يرجع إلى مجرد حركة اللسان) في الظاهر، (ولا جدوى له، فأما إذا انضاف إليه تضرع إلى الله تعالى، وابتهاله في سؤاله المغفرة) منه (عن صدق إرادة) وحضور طوية، (وخلوص رغبة، فهذه حسنة في نفسها فتصلح لأن تدفع بها السيئة) ، وتمحى بها، (وعلى هذا تحمل الأخبار الواردة في فضل الاستغفار) مما تقدم ذكرها في كتاب الأذكار والدعوات، (حتى قال صلى الله عليه وسلم: ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة) ، رواه أبو داوود والترمذي، وضعفه أبو يعلى، والبيهقي وابن السني في عمل يوم وليلة، والدارقطني في الأفراد من حديث أبي بكر، وقد تقدم في الدعوات .

(وهو عبارة عن الاستغفار بالقلب) مع اللسان، لا بمجرد حركة اللسان، (وللتوبة والاستغفار درجات وأوائلها لا تخلو عن الفائدة، وإن لم تنته إلى أواخرها، وكذلك قال) أبو محمد (سهل) بن عبد الله التستري رحمه الله تعالى: (لا بد للعبد في كل حال من مولاه فأحسن أحواله أن يرجع إليه في كل شيء، فإن عصى يقول: يا رب استر علي، فإذا فرغ من المعصية قال: يا رب تب علي، فإذا تاب قال: يا رب ارزقني العصمة [ ص: 606 ] وإذا عمل قال: يا رب تقبل مني) نقله صاحب القوت، (وسئل) سهل (أيضا) رحمه الله تعالى (عن الاستغفار الذي يكفر الذنوب فقال: أول الاستغفار الاستجابة، ثم الإنابة، ثم التوبة والاستجابة أعمال الجوارح، والإنابة أعمال القلوب، والتوبة إقباله على مولاه بأن يترك الخلق) ، ولفظ القوت وترك الخلق (ثم يستغفر من تقصيره الذي هو فيه من الجهل بالنعمة، وترك الشكر فعند ذلك يغفر له، ويكون عنده مأواه، ثم ينتقل إلى الانفراد، ثم الثبات، ثم البيان، ثم الفكر، ثم المعرفة، ثم المناجاة، ثم المصافاة، ثم الموالاة، ثم محادثة السر، وهو الخلة، ولا يستقر هذا في قلب عبد حتى يكون العلم غذاءه، والذكر قوامه، والرضا زاده) ، والتفويض مراده، (والتوكل صاحبه، ثم ينظر الله تعالى إليه فيرفعه إلى العرش فيكون مقامه مقام حملة العرش) هكذا نقله صاحب القوت، وفي الرسالة للقشيري: وقال ابن عطاء: التوبة توبة الإنابة، وتوبة الاستجابة; فتوبة الإنابة أن يتوب إليه خوفا من عقوبته، وتوبة الاستجابة أن يتوب حياء من كرمه.

(وسئل) سهل رحمه الله تعالى (أيضا عن قوله صلى الله عليه وسلم: "التائب حبيب الله") كما تقدم في أول هذا الكتاب متى يكون التائب حبيب الله؟ (قال: إنما يكون حبيبا إذا كان فيه جميع ما ذكره الله في قوله: التائبون العابدون الحامدون الآية كلها) تمامها: السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين فالعابدون هم المخلصون في عبادة الله، والحامدون على نعمة الإسلام، والسائحون هم الصائمون، والراكعون الساجدون المحافظون على الصلوات، والحافظون لحدود الله أي: أوامره ونواهيه أو معالم الشرع. (وقال: الحبيب هو الذي لا يدخل فيما يكرهه حبيبه) ، ولفظ القوت ثم قال: الحبيب لا يدخل إلا في شيء يحبه الحبيب .

التالي السابق


الخدمات العلمية