إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
القسم الثاني: ما لا يرتبط هجومه باختياره ، وله اختيار في دفعه ، كما لو أوذي بفعل أو قول ، وجنى عليه في نفسه أو ماله ، فالصبر على ذلك بترك المكافأة تارة يكون واجبا ، وتارة يكون فضيلة ، قال بعض الصحابة رضوان الله عليهم : ما كنا نعد إيمان الرجل إيمانا إذا لم يصبر على الأذى وقال تعالى : ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون .

وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة مالا ، فقال بعض الأعراب من المسلمين : هذه قسمة ما أريد بها وجه الله ، فأخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحمرت وجنتاه ثم قال : يرحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر وقال تعالى: ودع أذاهم وتوكل على الله ، وقال تعالى واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا وقال تعالى ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك الآية ، وقال تعالى ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور أي : تصبروا عن المكافأة ولذلك مدح الله تعالى العافين عن حقوقهم في القصاص وغيره ، فقال تعالى : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين .

وقال صلى الله عليه وسلم : صل من قطعك ، وأعط من حرمك ، واعف عمن ظلمك ورأيت في الإنجيل ، قال عيسى ابن مريم عليه السلام : لقد قيل لكم من قبل : إن السن بالسن ، والأنف بالأنف ، وأنا أقول لكم : لا تقاوموا بالشر بل من ضرب خدك الأيمن فحول إليه الخد الأيسر ، ومن أخذ رداءك فأعطه إزارك ، ومن سخرك لتسير معه ميلا فسر معه ميلين . وكل ذلك أمر بالصبر على الأذى ، فالصبر على أذى الناس من أعلى مراتب الصبر لأنه يتعاون فيه باعث الدين وباعث الشهوة والغضب جميعا .


(القسم الثاني ما لا يرتبط هجومه باختياره، وله اختيار في دفعه، كما لو أوذي بفعل أو قول، وجنى عليه نفيه أو ماله، فالصبر على ذلك بترك المكافأة تارة يكون واجبا، وتارة يكون فضيلة، قال بعض الصحابة رضوان الله عليهم: ما كنا نعد إيمان الرجل إيمانا إذا لم يصبر على الأذى) . ولفظ القوت: قال بعض العلماء: ما كنا نعد إيمان من لم يؤذ فيتحمل الأذى ويصبر عليه إيمانا، وقد فعل الله ذلك، قال اختبارا، وأخبر أن ذلك ليس منه عذابا، وإنما هو فتنة وبلاء من الناس، فصار ذلك فتنة عليهم، وابتلاء لهم، فصار رحمة للمؤذى، وخيرا في قوله تعالى: ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ، أى: ليس ذلك عذابا إنما هو رحمة باطنة كقوله تعالى: وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن كلا ، أي: لم أهنك بالفقر، كما لم أكرم الآخر بالنعيم إكراما، وعلى هذا خاطب نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالصبر الذي أمره به، فقال: اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ، فسلاه به وفضله عليه .

ومن الصبر حبس النفس عن المكافأة عن الأذى توكلا على المولى، (قال) الله (عز وجل: ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون ) وهذا صبر أهل الخصوص، وقد قال بعض أهل المعرفة: لا يثبت لعبد مقاما في التوكل حتى يؤذى، ويصبر على الأذى، وقد ذكره الله تعالى في قوله: ولنصبرن على ما آذيتمونا الآية. (وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة مالا، فقال بعض الأعراب من المسلمين: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، فأخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحمرت وجنتاه ثم قال: رحم الله أخي موسى فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر) قال ذلك يوم حنين إذ أعطى الأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، مائة من الإبل، وأعطى غيرهم أقل من ذلك، فقال رجل: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله، فقاله صلى الله عليه وسلم. رواه أحمد والشيخان من حديث ابن مسعود، وقد تقدم .

(وقال تعالى) لحبيبه صلى الله عليه وسلم: ( ودع أذاهم وتوكل على الله ، وقال تعالى: واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا ) بعد قوله "فاتخذه وكيلا"، ففيهما أن مقام التوكل لا يثبت حتى يصبر على الأذى، وهو أول مقام الرضا (وقال) تعالى ( ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك الآية، وقال) تعالى: لتبلون في أموالكم وأنفسكم ( ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ) ففي أول الآية إشارة إلى المقام الثاني من مقامات الرضا، وهو صبر النفس على أحكام البلاء، وفي السياق الذي يليه إشارة إلى أول مقام الرضا وهو الصبر على الأذى، وفي آخره قرن التقوى بالصبر، والتقوى جماع كل خير كما أن الصبر داخل في كل خير وبر فمن جمعهما أوتي عزائم الأمور، وكان من المحسنين (أي: إن تصبروا عن) الأذى (والمكافأة) وتتقوا عند الابتلاء والمكاره، وكذلك قوله تعالى: إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين .

(ولذلك مدح الله تعالى العافين عن حقوقهم في القصاص وغيره، فقال تعالى: وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ) وقال تعالى: [ ص: 25 ] ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل الآية، ثم قال: ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ، فالأول عنى به المكافأة والانتصار بالحق من العدل، والعدل حسن، والثاني هو الصبر والعفو من الإحسان والفضل، وهو أحسن، ومن ذلك قوله تعالى: الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، الآية .

فاستماع القول هو العدل، واتباع الأحسن هو العفو، وفيه المدح بالهداية والعقل، وهذا مقام المحسنين، قيل هم الذين لا يظلمون، فإذا ظلموا لم ينتصروا، فالمدح بالوصف لأهل هذا المقام هو بالإخبات، وهو الخشوع والطمأنينة إلى الجزاء من الله في الآخرة، لقرب اللقاء، وسرعة فناء الدنيا، (وقال صلى الله عليه وسلم: صل من قطعك، وأعط من حرمك، واعف عمن ظلمك) ، رواه ابن النجار من حديث علي بلفظ: "صل من قطعك، وأحسن إلى من أساء إليك، وقل الحق ولو على نفسك"، وقد تقدم .

(ورأيت في الإنجيل، قال عيسى ابن مريم: لقد قيل لكم) يعني في التوراة وغيره من كتب السماء (من قبل: إن السن بالسن، والأنف بالأنف، وأنا أقول لكم: لا تقاوموا الشر بالشر بل من ضرب خدك الأيمن فحول إليه الخد الأيسر، ومن أخذ رداءك فأعطه إزارك، ومن سخرك لتسير معه ميلا فسر معه ميلين. وكل ذلك أمر بالصبر على الأذى، فالصبر على أذى الناس من أعلى مراتب الصبر) ، وقد تقدم أنه أول مقام من مقامات الرضا (لأنه يتعاون فيه على باعث الدين وباعث الشهوة والغضب جميعا) .

التالي السابق


الخدمات العلمية