إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ولا يمكن الدوام على الذكر والفكر إلا بدوام البدن ولا يبقى البدن إلا بالغذاء ولا يتم الغذاء إلا بالأرض والماء والهواء ولا يتم ذلك إلا بخلق السماء والأرض ، وخلق سائر الأعضاء ظاهرا وباطنا ، فكل ذلك لأجل البدن ، والبدن مطية النفس والراجع إلى الله تعالى هي النفس المطمئنة بطول العبادة والمعرفة فلذلك قال تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق الآية فكل من استعمل شيئا في غير طاعة الله فقد كفر نعمة الله في جميع الأسباب التي لا بد منها لإقدامه على تلك المعصية ولنذكر مثالا واحدا للحكم الخفية التي ليست في غاية الخفاء حتى تعتبر بها وتعلم طريقة الشكر والكفران على النعم فنقول : من نعم الله تعالى خلق الدراهم والدنانير ، وبهما قوام الدنيا وهما حجران لا منفعة في أعيانهما ، ولكن يضطر الخلق إليهما من حيث إن كل إنسان محتاج إلى أعيان كثيرة في مطعمه وملبسه وسائر حاجاته وقد يعجز عما يحتاج إليه ، ويملك ما يستغني عنه ، كمن يملك الزعفران مثلا وهو محتاج إلى جمل يركبه ، ومن يملك الجمل ربما يستغنى عنه ويحتاج إلى الزعفران فلا بد بينهما من معاوضة ولا بد ، في مقدار العوض من تقدير إذ لا يبذل صاحب الجمل جمله بكل مقدار من الزعفران ، ولا مناسبة بين الزعفران والجمل حتى يقال يعطى منه مثله في الوزن أو الصورة ، وكذا من يشتري دارا بثياب أو عبدا بخف أو دقيقا بحمار ، فهذه الأشياء لا تتناسب فيها فلا يدرى أن الجمل كم يسوي بالزعفران فتتعذر المعاملات جدا فافتقرت هذه الأعيان المتنافرة المتباعدة إلى متوسط بينها يحكم بينهما بحكم عدل فيعرف من كل واحد رتبته ومنزلته ، حتى إذا تقررت المنازل ، وترتبت الرتب ، علم بعد ذلك المساوي من غير المساوي فخلق الله تعالى الدنانير والدراهم حاكمين ومتوسطين بين سائر الأموال حتى تقدر الأموال بهما فيقال : هذا الجمل يسوي مائة دينار ، وهذا القدر من الزعفران يسوي مائة ، فهما من حيث إنهما مساويان بشيء واحد إذا متساويان ، وإنما أمكن التعديل بالنقدين إذ لا غرض في أعيانهما ، ولو كان في أعيانهما غرض ربما اقتضى خصوص ذلك الغرض في حق صاحب الغرض ترجيحا ، ولم يقتض ذلك في حق من لا غرض له فلا ينتظم الأمر فإذا خلقهما الله تعالى لتتداولهما الأيدي ، ويكونا حاكمين بين الأموال بالعدل ولحكمة أخرى وهي التوسل بهما إلى سائر الأشياء لأنهما عزيزان في أنفسهما ، ولا غرض في أعيانهما ونسبتهما إلى سائر الأحوال نسبة واحدة ، فمن ملكهما فكأنه ملك كل شيء لا كمن ملك ثوبا ، فإنه لم يملك إلا الثوب فلو احتاج إلى طعام ربما لم يرغب صاحب الطعام في الثوب لأن غرضه في دابة مثلا فاحتيج إلى شيء وهو في صورته كأنه ليس بشيء وهو في معناه كأنه كل الأشياء والشيء إنما تستوي نسبته إلى المختلفات إذا لم تكن له صورة خاصة يفيدها بخصوصها كالمرآة لا لون لها ، وتحكي كل لون فكذلك النقد لا غرض فيه ، وهو وسيلة إلى كل غرض ، وكالحرف لا معنى له نفسه وتظهر به المعاني في غيره ، فهذه هي الحكمة الثانية ، وفيهما أيضا حكم يطول ذكرها ، فكل من عمل فيهما عملا لا يليق بالحكم بل يخالف الغرض المقصود بالحكم فقد كفر نعمة الله تعالى فيهما فإذا ، من كنزهما فقد ظلمهما وأبطل الحكمة فيهما ، وكان كمن حبس حاكم المسلمين في سجن يمتنع عليه الحكم بسببه لأنه إذا كنز فقد ضيع الحكم ولا يحصل الغرض المقصود به ، وما خلقت الدراهم والدنانير لزيد خاصة ، ولا لعمرو خاصة ، إذ لا غرض للآحاد في أعيانهما فإنهما حجران ، وإنما خلقا لتتداولها الأيدي فيكونا حاكمين بين الناس وعلامة معرفة المقادير مقومة للراتب ، فأخبر الله تعالى الذين يعجزون عن قراءة الأسطر الإلهية المكتوبة في صفحات الموجودات بخط إلهي لا حرف فيه ولا صوت الذي لا يدرك بعين البصر بل بعين البصيرة أخبر هؤلاء العاجزين بكلام سمعوه من رسوله صلى الله عليه وسلم حتى وصل إليهم بواسطة الحرف والصوت المعنى الذي عجزوا عن إدراكه فقال تعالى : والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم وكل من اتخذ من الدراهم والدنانير آنية من ذهب أو فضة فقد كفر النعمة وكان أسوأ حالا ممن كنز لأن مثال هذا مثال من استسخر حاكم البلد في الحياكة والمكس والأعمال التي يقوم بها أخساء الناس والحبس أهون منه ، وذلك أن الخزف والحديد والرصاص والنحاس تنوب مناب الذهب والفضة في حفظ المائعات عن أن تتبدد وإنما الأواني لحفظ المائعات ولا يكفي الخزف والحديد في المقصود الذي أريد به النقود فمن لم ينكشف له هذا انكشف له بالترجمة الإلهية ، وقيل له : من شرب في آنية من ذهب أو فضة فكأنما يجرجر في بطنه نار جهنم .


(ولا يمكن الدوام على الذكر والفكر إلا بدوام البدن) الذي هو بمنزلة المركب له، (ولا يبقى البدن إلا بالأرض) في استقراره عليها (والماء والهواء والغذاء) في انتعاشه بها، (ولا يتم ذلك إلا بخلق السماء والأرض، وخلق سائر الأعضاء ظاهرا وباطنا، فكل ذلك لأجل) بقاء (البدن، والبدن مطية النفس) تركب عليه وتستعين به إلى الوصول إلى الآخرة، (والراجع إلى الله تعالى هي النفس المطمئنة بطول العبادة والمعرفة) كما يدل عليه قوله تعالى: يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك في أحد وجوه التفسير، (فلذلك قال الله تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) أي: ليداوموا على العبادة والمعرفة (فكل من استعمل شيئا في غير طاعة الله فقد كفر نعمة الله) تعالى (في جميع الأسباب التي لابد منها لإقدامه على تلك المعصية) .

(ولنذكر مثالا واحدا للحكم الخفية التي ليست في غاية الخفاء حتى يعتبر بها، ويعلم طريق الشكر والكفران على المنعم [ ص: 65 ] فنقول: من) جملة (نعم الله تعالى خلق الدراهم والدنانير، وبهما قوام الدنيا) وملاكها (وهما حجران) كسائر الحجارة (لا منفعة في أعيانهما، ولكن يضطر الخلق إليهما من حيث إن كل إنسان محتاج إلى أعيان كثيرة في مطعمه وملبسه) ومسكنه (وسائر حاجاته) اللازمة، (وقد يعجز عما يحتاج إليه، ويملك ما يستغني عنه، كمن يملك الزعفران مثلا وهو محتاج إلى جمل يركبه، ومن يملك الجمل ربما يستغني عنه) في بعض الأحيان (ويحتاج إلى الزعفران) لحاجة دعته إليه (فلابد بينهما من معاوضة، ولابد في مقدار العوض من تقدير) يرجع إليه (إذ لا يبذل صاحب الجمل جمله بكل مقدار من الزعفران، ولا مناسبة بين الزعفران والجمل حتى يعطي منه مثله في الوزن أو الصورة، وكذا من يشتري دارا بثياب أو عبدا بخف أو دقيقا بحمار، فهذه أشياء لا تناسب فيها فلا يدري أن الجمل كم يسوى بالزعفران فتتعذر المعاملات جدا) ويشتبه أمرها. (فافتقرت هذه الأعيان المتنافرة المتباعدة إلى متوسط بينهما يحكم فيها بحكم عدل) وسط (فيعرف عن كل واحد رتبته ومنزلته، حتى إذا تقررت المنازل، وترتبت الرتب، علم بعد ذلك المساوي من غير المساوي فخلق الله الدنانير والدراهم حاكمين متوسطين بين سائر الأموال حتى تقدر الأموال بهما) في المعاملات (فيقال: هذا الجمل يسوى مائة مثلا، وهذا القدر من الزعفران يسوى مائة، فهما من حيث إنهما متساويان بشيء واحد إذا متساويان، وإنما أمكن التعديل بالتقدير) والتخمين (إذ لا غرض في أعيانهما، ولو كان في أعيانهما غرض ربما اقتضى خصوص ذلك الغرض في حق صاحب الغرض ترجيحا، ولم يقتض ذلك في حق من لا غرض له فلا ينتظم الأمر) .

(فإذا خلقهما الله تعالى لتتداولهما الأيدي، ويكونا حاكمين بين الأموال بالعدل) والسوية (ولحكمة أخرى وهي التوصل بهما إلى سائر الأشياء لأنهما شيئان عزيزان في أنفسهما، ولا غرض في أعيانهما ونسبتهما إلى سائر الأموال نسبة واحدة، فمن ملكهما فكأنه ملك كل شيء لا كمن ملك ثوبا، فإنه لا يملك إلا الثوب) فقط (فلو احتاج إلى طعام ربما يرغب صاحب الطعام في الثوب لأن غرضه في ذاته مثلا فاحتيج إلى شيء هو في صورته كأنه ليس بشيء وهو في معناه كأنه كل الأشياء) وإليه يشير قول الشاعر:


إذا صح كاف الكيس فالكل حاصل

(والشيء إنما تستوي نسبته إلى المختلفات إذا لم تكن له صورة خاصة يفيدها بخصوصها كالمرآة لا لون لها، وتحكي كل لون) عند مقابلتها، (فكذلك النقض لا غرض فيه، وهو وسيلة إلى كل غرض، وكالحرف) الذي هو أحد أقسام الكلمة الثلاثة (لا معنى له في نفسه وتظهر به المعاني في غيره، فهذه هي الحكمة الثانية، وفيهما أيضا حكم) خفية (يطول ذكرها، فكل من عمل فيها عملا لا يليق بالحكام بل يخالف الغرض المقصود بالحكام فقد كفر نعمة الله تعالى فيهما، فإذا من كنزهما فقد ظلمهما وأبطل الحكمة فيهما، وكان كمن حبس حاكم المسلمين في سجن يمتنع عليه الحكم بسببه لأنه [ ص: 66 ] إذا كنز فقد ضيع ولا يحصل الغرض المقصود به، وما خلقت الدراهم والدنانير لزيد خاصة، ولا لعمرو خاصة، إذ لا غرض للآحاد في أعيانهما فإنهما حجران، وإنما خلقا لتتداولهما الأيدي فيكونا حاكمين بين الناس وعلامة معرفة للمقادير مقومة للمراتب، فأخبر الله تعالى الذين يعجزون عن قراءة الأسطر الإلهية المكتوبة على صفحات الموجودات بخط إلهي لا حرف فيه ولا صوت الذي لا يدرك بعين البصر) الظاهر (بل بعين البصيرة) الباطنة (أخبر هؤلاء العاجزين بكلام سمعوه من رسوله) المرسل إليهم (حتى وصل إليهم بواسطة الحرف والصوت المعني الذي عجزوا عن إدراكه) وفهم معناه، (فقال: والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ) ، وقد تقدم الكلام على الآية في كتاب الزكاة .

(وكل من اتخذ من الدراهم والدنانير آنية من ذهب أو فضة فقد كفر النعمة وكان أسوأ حالا مما كنز) ولم ينطق (لأن مثال هذا مثال من استسخر حاكم البلد في الحياكة والكنس و) غيرهما من (الأعمال التي يقوم بها أخساء الناس) وأردياؤهم، (والحبس أهون منه، وذلك أن الخزف والحديد والرصاص والنحاس) وغيرها من المتطرقات (ينوب مناب الذهب والفضة في حفظ المائعات إن تتبدد) أي: تتفرق (وإنما) تتخذ (الأواني لحفظ المائعات) والحفظ يحصل بغيرهما (ولا يكفي الخزف والحديد) والرصاص (في المقصود الذي أريد به النقود) في الغالب، وإن كان يتعامل ببعضها في بعض الأقطار لكن على سبيل التبعية لهما (فمن لم ينكشف له هذا) المعنى (كشف له بالترجمة الإلهية، وقيل: إنه من شرب في آنية من ذهب أو فضة فكأنما يجرجر في بطنه نار جهنم) . لم يصرح المصنف بكونه حديثا وهو متفق عليه من حديث أم سلمة كما قاله العراقي ، ولفظ مسلم: "من شرب في إناء من ذهب أو فضة فإنما يجرجر في بطنه نارا من جهنم، وروى البيهقي في المعرفة، والخطيب وابن عساكر من حديث ابن عمر : من شرب في إناء ذهب أو فضة أو إناء فيه شيء من ذلك إنما يجرجر في بطنه نار جهنم. وروى ابن ماجه من حديث عائشة : من شرب في إناء فضة فكأنما يجرجر في بطنه نار جهنم.

التالي السابق


الخدمات العلمية