إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وكل من عامل معاملة الربا على الدراهم والدنانير فقد كفر النعمة وظلم لأنهما خلقا لغيرهما لا لنفسهما إذ لا غرض في عينهما فإذا اتجر في عينهما فقد اتخذهما مقصودا على خلاف وضع الحكمة إذ طلب النقد لغير ما وضع له ظلم ، ومن معه ثوب ولا نقد معه فقد لا يقدر على أن يشتري به طعاما ودابة ، إذ ربما لا يباع الطعام والدابة بالثوب فهو معذور في بيعه بنقد آخر ليحصل النقد فيتوصل به إلى مقصوده ، فإنهما وسيلتان إلى الغير لا غرض في أعيانهما وموقعهما ، في الأموال كموقع الحرف من الكلام ، كما قال النحويون : إن الحرف هو الذي جاء لمعنى في غيره وكموقع المرآة من الألوان ، فأما من معه نقد فلو جاز له أن يبيعه بالنقد فيتخذ التعامل على النقد غاية عمله فيبقى النقد مقيدا عنده وينزل منزلا ، المكنوز ، وتقييد الحاكم والبريد الموصل إلى الغير ظلم ، كما أن حبسه ظلم ، فلا معنى لبيع النقد بالنقد إلا اتخاذ النقد مقصودا للادخار ، وهو ظلم .

فإن قلت : فلم جاز بيع أحد النقدين بالآخر ولما : جاز بيع الدرهم بمثله ، فاعلم أن أحد النقدين يخالف الآخر في مقصود التوصل ، إذ قد يتيسر التوصل بأحدهما من حيث كثرته كالدراهم تتفرق في الحاجات قليلا قليلا ، ففي المنع منه ما يشوش المقصود الخاص به ، وهو تيسر التوصل به إلى غيره ، وأما بيع الدرهم بدرهم يماثله فجائز من حيث إن ذلك لا يرغب فيه عاقل مهما تساويا ولا يشتغل به تاجر فإنه عبث يجري مجرى وضع الدرهم على الأرض وأخذه بعينه ، ونحن لا نخاف على العقلاء أن يصرفوا أوقاتهم إلى وضع الدرهم على الأرض وأخذه بعينه فلا نمنع مما لا تتشوق النفوس إليه إلا أن يكون أحدهما أجود من الآخر وذلك أيضا لا يتصور جريانه إذ صاحب الجيد لا يرضى بمثله من الرديء فلا ينتظم العقد وإن طلب زيادة في الرديء فذلك مما قد يقصده فلا جرم نمنعه منه ، ونحكم بأن جيدها ورديئها سواء لأن الجودة والرداءة ينبغي أن ينظر إليهما فيما يقصد في عينه ، وما لا غرض في عينه فلا ينبغي أن ينظر إلى مضافات دقيقة في صفاته ، وإنما الذي ظلم هو الذي ضرب النقود مختلفة في الجودة والرداءة حتى صارت مقصودة في أعيانها وحقها أن لا تقصد . وأما إذا باع درهما بدرهم مثله نسيئة فإنما لم يجز ذلك لأنه لا يقدم على هذا إلا مسامح قاصد الإحسان في ، القرض وهو مكرمة مندوحة عنه : لتبقى صورة المسامحة فيكون له حمد وأجر والمعاوضة لا حمد فيها ، ولا أجر ، فهو أيضا ظلم لأنه إضاعة خصوص المسامحة وإخراجها في معرض المعارضة ، وكذلك الأطعمة خلقت ليتغذى بها أو يتداوى بها فلا ينبغي أن تصرف على جهتها فإن فتح باب المعاملة فيها يوجب تقييدها في الأيدي ويؤخر عنها الأكل الذي أريدت له ، فما خلق الله الطعام إلا ليؤكل ، والحاجة إلى الأطعمة شديدة فينبغي أن تخرج عن يد المستغني عنها إلى المحتاج ولا يعامل على الأطعمة إلا مستغن عنها إذ من معه طعام فلم لا يأكله إن كان محتاجا ، ولم يجعله بضاعة تجارة ، وإن جعله بضاعة تجارة فليبعه ممن يطلبه بعوض غير الطعام يكون محتاجا إليه ، فأما من يطلبه بعين ذلك الطعام فهو أيضا مستغن عنه ، ولهذا ورد في الشرع لعن المحتكر ، وورد فيه من التشديدات ما ذكرناه في كتاب آداب الكسب نعم بائع البر بالتمر معذور إذ أحدهما لا يسد مسد الآخر في الغرض ، وبائع صاع من البر بصاع منه غير معذور ولكنه عابث فلا يحتاج إلى منع لأن النفوس لا تسمح به إلا عند التفاوت في الجودة ومقابلة الجيد بمثله من الرديء لا يرضى بها صاحب الجيد ، وأما جيد برديئين فقد يقصد ، ولكن لما كانت الأطعمة من الضروريات ، والجيد يساوي الرديء في أصل الفائدة ويخالفه في وجوه التنعم أسقط الشرع غرض التنعم فيما هو القوام ، فهذه حكمة الشرع في تحريم الربا وقد انكشف لنا هذا بعد الإعراض عن فن الفقه فلنلحق هذا بفن الفقهيات فإنه أقوى من جميع ما أوردناه في الخلافيات ، وبهذا يتضح رجحان مذهب الشافعي رحمه الله في التخصص بالأطعمة دون المكيلات إذ لو دخل الجص فيه لكانت الثياب والدواب أولى بالدخول ، ولولا الملح لكان مذهب مالك رحمه الله أقوم المذاهب فيه إذ خصصه بالأوقات ولكن كل معنى يرعاه الشرع فلا بد أن يضبط بحد ، وتحديد هذا كان ممكنا بالقوت وكان ممكنا بالمطعوم فرأى الشرع التحديد بجنس المطعوم أحرى : لكل ما هو ضرورة البقاء وتحديدات الشرع قد تحيط بأطراف لا يقوى فيها أصل المعنى الباعث على الحكم ، ولكن التحديد يقع كذلك بالضرورة ولو لم يحد لتحير الخلق في اتباع جوهر المعنى مع اختلافه بالأحوال والأشخاص فعين المعنى بكمال قوته يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص فيكون الحد ضروريا ، فلذلك قال الله تعالى : ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه . ولأن أصول هذه المعاني لا تختلف فيها الشرائع ، وإنما تختلف في وجوه التحديد ، كما يحد شرع عيسى ابن مريم عليه السلام تحريم الخمر بالسكر ، وقد حده شرعنا بكونه من جنس المسكر لأن قليله يدعو إلى كثير ، والداخل في الحدود داخل في التحريم بحكم الجنس كما دخل أصل المعنى بالجملة الأصلية فهذا مثال واحد لحكمة خفية من حكم النقدين ، فينبغي أن يعتبر شكر النعمة وكفرانها بهذا المثال ، فكل ما خلق لحكمة فينبغي أن يصرف عنها ولا يعرف هذا إلا من قد عرف الحكمة ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ولكن لا تصادف جواهر الحكم في قلوب هي مزابل الشهوات وملاعب الشياطين بل لا يتذكر إلا أولو الألباب ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء وإذا عرفت هذا المثال فقس عليه حركتك وسكونك ونطقك وسكوتك ، وكل فعل صادر منك ، فإنه إما شكر ، وإما كفر إذ لا يتصور أن ينفك عنهما ، وبعض ذلك نصفه في لسان الفقه الذي تناطق به عوام الناس بالكراهة وبعضه بالخطر ، وكل ذلك عند أرباب القلوب موصوف بالخطر ، فأقول مثلا لو استنجيت باليمنى فقد كفرت نعمة اليدين إذ خلق الله لك اليدين وجعل إحداهما أقوى من الأخرى فاستحق الأقوى بمزيد رجحانه في الغالب التشريف والتفضيل ، وتفضيل الناقص عدول عن العدل ، والله لا يأمر إلا بالعدل .


(وكل من عامل معاملة الربا على الدراهم والدنانير فقد كفر النعمة وظلم) أي تعدى ووضع الشيء في غير موضعه (لأنهما خلقا لغيرهما لا لأنفسهما إذ لا غرض في عينهما فإذا اتجر في عينهما فقد اتخذهما مقصودا على خلاف وضع الحكمة) الإلهية (إذ طلب النقد لغير ما وضع له ظلم، ومن معه ثوب ولا نقد معه فقد لا يقدر على أن يشتري به طعاما ودابة، إذ ربما لا يباع الطعام والدابة بالثوب فهو معذور في بيعه بنقد آخر ليحصل النقد فيتوصل به إلى مقصوده، فإنهما وسيلتان إلى الغير لا غرض في أعيانهما، وموقعهما في الأموال كموقع الحرف في الكلام، كما قاله النحويون: إن الحرف هو الذي جاء لمعنى في غيره) كما عرفه ابن الحاجب في كافيته، (وكموقع المرآة من الألوان، فأما من معه نقد فلو جاز له أن يبيعه بالنقد فيتخذ التعامل على النقد غاية عمله فيبقى النقد متقيدا عنده، ويتنزل منزلة المكنوز، وتقييد الحاكم والبريد الموصل إلى الغير ظلم، كما أن حبسه ظلم، فلا معنى لبيع النقد بالنقد إلا اتخاذ النقد مقصودا للادخار، وهو ظلم، فإن قلت: فلم جاز بيع أحد النقدين بالآخر) أي: بيع الذهب بالفضة، والفضة بالذهب، متفاضلين [ ص: 67 ] يدا بيد، وهو بالاتفاق لا بيع الذهب بالذهب منفردا، والورق بالورق منفردا، أو تبرهما ومضروبهما وحليهما، إلا مثلا بمثل، وزنا بوزن، يدا بيد .

(ولم جاز بيع الدراهم بمثله، فاعلم أن أحد النقدين يخالف الآخر في مقصود التوسل، إذ قد يتيسر التوصل بأحدهما من حيث كثرته كالدراهم فتفرق في الحاجات قليلا قليلا، ففي المنع منه ما يشوش المقصود الخاص به، وهو سر التوسل به إلى غيره، وأما بيع الدرهم بدرهم يماثله فجائز من حيث إن ذلك لا يرغب فيه عاقل مهما تساويا) في أوصافهما (ولا يشتغل به تاجر فإنه حيث جرى مجرى وضع الدرهم على الأرض وأخذه بعينه عبثا ولعبا، ونحن لا نخاف على العقلاء بأن يصرفوا أوقاتهم إلى وضع الدراهم على الأرض وأخذها فلا نمنع مما لا تتشوف النفوس إليه إلا أن يكون أحدهما أجود) من الآخر، (وذلك أيضا لا يتصور جريانه إذ صاحب الجيد لا يرضى بمثله من الرديء) الدون (فلا ينتظم العقد إن طلب زيادة في الرديء فذلك مما قد يقصده فلا جرم نمنعه منه، ونحكم بأن جيدها ورديئها سواء لأن الجودة والرداءة ينبغي أن ينظر إليهما فيما يقصد في عينه، وما لا غرض في عينه فلا ينبغي أن ينظر إلى مضافات دقيقة في صفاته، وإنما الذي ظلم هو الذي ضرب النقود مختلفة في الجودة والرداءة حتى صارت مقصودة في أعيانها وحقها أن لا تقصد. وأما إذا باع درهما بدرهم مثله نسيئة فإنما لم يجز ذلك) من طريق الزيادة والنساء جميعا (لأنه لا يقدم على هذا إلا مسامح قاصد للإحسان، ففي القرض وهو مكرمة) قد حث عليه الشارع ووردت في فضله أخبار (مندوحة عنه) أي: متسع (لتبقى صورة المسامحة فيكون له حمد وأجر) معا .

(والمعاوضة لا حمد فيها، ولا أجر، فهو أيضا ظلم لأنه أضاعه خصوص المسامحة وإخراجها في معرض المعاوضة، وكذلك الأطعمة خلقت ليتغذى بها أو يتداوى بها فلا ينبغي أن تصرف عن جهتها) التي خلقت لها، (فإن فتح باب المعاملة فيها يوجب تغييرها في الأيدي ويؤخر عنها الأكل الذي أريدت له، فما خلق الطعام إلا ليؤكل، والحاجة إلى الأطعمة شديدة فينبغي أن تخرج عن يد المستغني عنها إلى المحتاج) إليها، (ولا يتعامل على الأطعمة أي فيستغنى عنها إذ من معه الطعام فلم لا يأكله إن كان محتاجا، ولم يجعله بضاعة تجارة، وإن جعله بضاعة تجارة فليبعه ممن يطلبه بعوض غير الطعام ليكون محتاجا إليه، فأما من يطلبه بعين ذلك الطعام فهو أيضا مستغن عنه، ولهذا ورد في الشرع لعن المحتكر، وورد فيه من التشديدات ما ذكرناه في كتاب آداب الكسب) والمعاش، من ذلك حديث ابن عمر : "المحتكر ملعون"، رواه الحاكم، ومنها حديث أبي هريرة: "من احتكر حكرة يريد أن يغلي بها على المسلمين فهو خاطئ، وقد برئت منه ذمة الله ورسوله"، رواه أحمد.

(نعم بائع البر بالتمر معذور إذ أحدهما لا يسد مسد الآخر في الغرض، وبائع صاع من البر بصاع) منه (غير معذور) لأنهما جنس واحد، (ولكنه عابث فلا يحتاج إلى منع لأن النفوس لا تسمح به إلا عند التفاوت في الجودة) وبيع صاع من البر بصاع من شعير مبني على اختلافهم هل هو جنس واحد أو جنسان، فقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد في أظهر روايتيه هما جنسان، فعلى هذا يجوز بالمفاضلة والمماثلة لأن أحدهما لا يسد مسد الآخر، وقال مالك وأحمد في الرواية الأخرى هما جنس واحد فلا يجوز بيع [ ص: 68 ] بعضهما ببعض إلا مثلا بمثل، يدا بيد، ومع جوازه يكون عابثا .

(ومقابلة الجيد بمثله من الرديء لا يرضى به صاحب الجيد، وأما جيد برديئين فقد يقصد، ولكن لما كانت الأطعمة من الضروريات يضطر إليها الإنسان أبدا، والجيد يساوي الرديء فى أصل الفائدة) الذي هو الغذاء (ويخالفه في وجود التنعم أسقط الشرع غرض التنعم فيما هو القوام، فهذه حكمة الشرع في تحريم الربا) . وقد أشار إلى نحو ذلك القفال في محاسن الشريعة .

(وقد انكشف لنا هذا بعد الإعراض عن) الاشتغال في (فن الفقه) ، وذلك عند خروجه من دار السلام ببغداد (فلنلحق هذا بفن الفقهيات فإنه أقوى من جميع ما أوردناه في الخلافيات، وبهذا يتضح رجحان مذهب الشافعي رحمه الله تعالى) على غيره (في التخصيص بالأطعمة دون المكيلات إذ لو دخل الجص فيه لكان الثياب والدواب أولى بالدخول فيه، ولولا الملح لكان مذهب مالك رحمه الله تعالى أقوى المذاهب فيه إذ خصصه بالأقوات) وتفصيل ذلك أنهم اختلفوا في علة جريان الربا المحرم في غير الأعيان الستة المنصوص عليها، فقال أبو حنيفة وأحمد: العلة في الذهب والفضة الوزن والجنس، وكل ما جمعه الوزن والجنس فالتحريم ثابت فيه إذا باعه متفاضلا كالذهب والفضة، ثم يتعدى منها إلى الحديد والرصاص والنحاس وما أشبهه .

وقال مالك والشافعي: العلة في الذهب والفضة الثمينة فلا يجرى الربا عندهما في الحديد والنحاس وما أشبههما، وقال أبو حنيفة في أظهر الروايات عنه، وهي اختيار الخرقي من الحنابلة وشيوخ أصحابه، العلة في الأعيان الأربعة الباقية الكيل والجنس، فكل ما جمعه الكيل والجنس فالتحريم فيه ثابت إذا بيع متفاضلا كالحنطة والشعير والنورة والجص والأشنان وما أشبهه، وعن أحمد رواية ثانية في علة الأعيان الأربعة أنها مأكول مكيل أو مأكول موزون، فعلى هذه الرواية لا ربا فيما يؤكل وليس بمكيل ولا موزون مثل الرمان والسفرجل والبطيخ والخيار، ولا في غير المأكول مما يكال ويوزن كالنورة والجص والأشنان، وعنه رواية ثالثة في علة الأعيان الأربعة أنه مأكول جنس، فعلى هذه الرواية يحرم ما كان مأكولا خاصة، ويدخل في التحريم سائر المأكولات ويخرج منه ما ليس مأكولا. وقال مالك: العلة في الأعيان الأربعة كونها مقتاتة، وما يصلح للقوت في جنس مدخر فيدخل تحريم الربا في ذلك كله كالأقوات المدخرة واللحوم والألبان والخلول والزيوت والعنب والزبيب والزيتون والعسل والسكر .

وقال الشافعي في الجديد: إن العلة في الأعيان الأربعة أنها مطعومة جنس، فعلى هذا يجري الربا عنده في الرمان والسفرجل ونحوه كالرواية الثالثة عن أحمد، وقال في القديم مطعومة مكيلة أو موزونة، فعلى هذا لا يجري الربا بمجرد العلم في المطعومات. ذكر ذلك كله الوزير في الإفصاح وتقدم في كتاب آداب الكسب .

(ولكن كل معنى يرعاه الشرع فلابد وأن يضبط بحد، وتحديد هذا كان ممكنا بالقوت) كما ذهب إليه مالك (وكان ممكنا بالمطعوم) كما ذهب إليه الشافعي (فرأى الشرع التحديد بجنس المطعوم أحرى) أي: أشمل (لكل ما هو ضرورة البقاء) ودوام العيش (وتحديدات الشرع قد تحيط بأطراف لا يقوى فيها أصل المعنى الباعث على الحكم، ولكن التحديد يقع كذلك بالضرورة ولو لم يحد لتحير الخلق في اتباع) وفي نسخة في تتبع (جوهر المعنى مع اختلافه بالأحوال والأشخاص فعين المعنى بكمال قوته يختلف بالأحوال والأشخاص فيكون الحد ضروريا، فلذلك قال) الله (تعالى: ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ولأن أصول هذه المعاني لا تختلف فيها الشرائع، وإنما تختلف في وجوه التحديد، كما يحد شرع عيسى عليه السلام تحريم الخمر بالسكر، وقد حده شرعنا بكونه من جنس المسكر لأن قليله يدعو إلى كثيره، والداخل في الحدود داخل في التحريم بحكم الجنس) وفي نسخة بحكمة الحسم لها (كما دخل أصل المعنى بالحكمة الأصلية فهذا مثال واحد [ ص: 69 ] لحكمة خفية من حكم النقدين، فينبغي أن يعتبر شكر النعمة وكفرانها بهذا المثال، فكل ما خلق لحكمة فلا ينبغي أن يصرف عنها ولا يعرف هذا إلا من قد عرف الحكمة) وأتى من بابها ( ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) يشير إلى قوله تعالى: ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا .

(ولكن لا تصادف جواهر الحكم في قلوب هي مزابل الشهوات) ومقارها (وملاعب الشياطين) ومحال وساوسها (بل لا يذكر إلا أولو الألباب) أشار به إلى تمام الآية المذكورة، (ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء) . رواه أحمد من حديث أبي هريرة بنحوه، وقد تقدم في كتاب أسرار الصوم. (وإذا عرفت هذا المثال فقس عليه حركتك وسكونك ونطقك وسكوتك، وكل فعل صادر منك، فإنه) لا يخلو (إما شكر، وإما كفر إذ لا يتصوران ينفك عنهما، وبعض ذلك نصفه في لسان الفقه الذي تناطق به عوام الناس) وهم المشتغلون بالعلوم الظاهرة (بالكراهة وبعضه بالحظر، وكل ذلك عند أرباب القلوب) وهم المشتغلون بعلوم الآخرة (موصوف بالحظر، فأقول مثلا لو استنجيت باليمين فقد كفرت نعمة اليدين إذ خلق الله لك اليدين وجعل أحدهما أقوى من الأخرى) وهي اليمنى، وهذا هو الأغلب فلا يناقضه الأعسر، وهو الذي يسراه أقوى من اليمنى لندوره (فاستحق الأقوى بمزيد رجحانه في الغالب التشريف والتفضيل، وتفضيل الناقص عدول عن) منهج (العدل، والله) تعالى (لا يأمر إلا بالعدل) لقوله تعالى: إن الله يأمر بالعدل والإحسان .

التالي السابق


الخدمات العلمية