إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ثم أحوجك من أعطاك اليدين إلى أعمال بعضها شريف ، كأخذ المصحف ، وبعضها خسيس كإزالة النجاسة ، فإذا أخذت المصحف باليسار ، وأزلت النجاسة باليمين ، فقد خصصت الشريف بما هو خسيس فغضضت من حقه : وظلمته وعدلت عن العدل ، وكذلك إذا بصقت مثلا في جهة القبلة أو استقبلتها في قضاء الحاجة فقد كفرت نعمة الله تعالى في خلق الجهات وخلق سعة العالم لأنه خلق الجهات لتكون متسعك في حركتك ، وقسم الجهات إلى ما لم يشرفها ، وإلى ما شرفها ، بأن وضع فيها بيتا أضافه إلى نفسه استمالة لقلبك إليه ليتقيد به قلبك فيتقيد بسببه بدنك في تلك الجهة على هيئة الثبات والوقار إذا عبدت ربك ، وكذلك انقسمت أفعالك إلى ما هي شريفة كالطاعات ، وإلى ما هي خسيسة ، كقضاء الحاجة ورمي البصاق .

فإذا رميت بصاقك إلى الجهة القبلة فقد ظلمتها وكفرت نعمة الله تعالى عليك بوضع القبلة التي بوضعها كمال عبادتك ، وكذلك إذا لبست خفك فابتدأت باليسرى فقد ظلمت لأن الخف وقاية للرجل فللرجل فيه حظ ، والبداءة في الحظوظ ينبغي أن تكون بالأشرف فهو العدل والوفاء بالحكمة ونقيضه ظلم وكفران لنعمة الخف والرجل ، وهذا عند العارفين كبيرة وإن سماه الفقيه مكروها حتى إن بعضهم : كان قد جمع إكرارا من الحنطة وكان يتصدق بها فسئل عن سببه فقال : لبست المداس : مرة فابتدأت بالرجل اليسرى سهوا فأريد أن أكفره بالصدقة نعم الفقيه لا يقدر على تفخيم الأمر في هذه الأمور لأنه مسكين بل بإصلاح العوام الذين تقرب درجتهم من درجة الإنعام وهم مغموسون في ظلمات أطم وأعظم من أن تظهر أمثال هذه الظلمات بالإضافة إليها فقبيح أن يقال الذي شرب الخمر وأخذ القدح بيساره قد تعدى من وجهين أحدهما الشرب ، والآخر الأخذ باليسار ، ومن باع خمرا في وقت النداء يوم الجمعة فقبيح أن يقال خان من وجهين أحدهما بيع الخمر والآخر البيع في وقت النداء ، ومن قضى حاجته في محراب المسجد مستدبر القبلة فقبيح أن يذكر تركه الأدب في قضاء الحاجة من حيث إنه لم يجعل القبلة عن يمينه ، فالمعاصي كلها ظلمات بعضها فوق بعض فينمحق بعضها في جنب البعض ، فالسيد قد يعاقب عبده إذا استعمل سكينه بغير إذنه ، ولكن لو قتل بتلك السكين أعز أولاده لم يبق لاستعمال السكين بغير إذنه حكم ونكاية في نفسه ، فكل ما راعاه الأنبياء والأولياء من الآداب وتسامحنا فيه في الفقه مع العوام فسببه هذه الضرورة وإلا فكل هذه المكاره عدول عن العدل وكفران للنعمة ونقصان عن الدرجة المبلغة للعبد إلى درجات القرب بعضها يؤثر في العبد بنقصان القرب وانحطاط المنزلة ، وبعضها يخرج بالكلية عن حدود القرب إلى عالم البعد الذي هو مستقر الشياطين وكذلك من كسر غصنا من شجرة من غير حاجة ناجزة مهمة ومن غير حاجة غرض صحيح فقد كفر نعمة الله تعالى في خلق الأشجار وخلق اليد أما اليد فإنها لم تخلق للعبث بل للطاعة والأعمال المعينة على الطاعة ، وأما الشجر فإنه خلقه الله تعالى وخلق له العروق وساق إليه : الماء وخلق فيه قوة الاغتذاء والنماء ليبلغ منتهى نشوه فينتفع به عباده فكسره قبل منتهى نشوة لا على وجه ينتفع به عباده مخالفة لمقصود الحكمة وعدول عن العدل ، فإن كان له غرض صحيح فله ذلك إذ الشجر والحيوان جعلا فداء لأغراض الإنسان فإنهما جميعا فانيان هالكان فإفناء الأخس في بقاء الأشرف مدة ما أقرب إلى العدل من تضييعهما جميعا وإليه الإشارة بقوله تعالى : وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه نعم إذا كسر ذلك من ملك غيره فهو ظالم أيضا ، وإن كان محتاجا لأن كل شجرة بعينها لا تفي بحاجات عباد الله كلهم بل تفي بحاجة واحدة ، ولو خصص واحد بها من غير رجحان واختصاص كان ظلما ، فصاحب الاختصاص هو الذي حصل البذر ووضعه في الأرض وساق إليه الماء وقام بالتعهد فهو أولى به من غيره فيرجح جانبه بذلك فإن نبت ذلك في موات الأرض لا بسعي آدمي اختص بمغرسه : أو بغرسه فلا بد من طلب اختصاص آخر وهو السبق إلى أخذه فللسابق خاصية السبق فالعدل هو أن يكون أولى به وعبر الفقهاء عن هذا الترجيح بالملك وهو مجاز محض إذ لا ملك إلا لملك الملوك الذي له ما في السموات والأرض وكيف يكون العبد مالكا وهو في نفسه ليس يملك نفسه بل هو ملك غيره نعم الخلق عباد الله والأرض مائدة الله وقد أذن لهم في الأكل من مائدته بقدر حاجتهم كالملك ينصب مائدة لعبيده فمن أخذ لقمة بيمينه واحتوت عليها براجمه : فجاء عبد آخر وأراد انتزاعها من يده لم يمكن منه لا لأن اللقمة صارت ملكا له بالأخذ باليد ، فإن اليد وصاحب اليد أيضا مملوك ، ولكن إذا كانت كل لقمة بعينها لا تفي بحاجة كل العبيد فالعدل في التخصيص عند حصول ضرب من الترجيح والاختصاص ، والأخذ اختصاص ينفرد به العبد فمنع من لا يدلي بذلك الاختصاص عن مزاحمته فهكذا ينبغي أن تفهم أمر الله في عباده ، ولذلك نقول من أخذ من أموال الدنيا أكثر من حاجته وكنزه وأمسكه وفي عباد الله من يحتاج إليه فهو ظالم وهو من الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله وإنما سبيل الله طاعته وزاد الخلق في طاعته أموال الدنيا إذ بها تندفع ضروراتهم وترتفع حاجاتهم نعم لا يدخل هذا في حد فتاوى الفقه لأن مقادير الحاجات خفية والنفوس في استشعار الفقر في الاستقبال مختلفة ، وأواخر الأعمار غير معلومة فتكليف ، العوام ذلك يجري مجرى تكليف الصبيان الوقار والتؤدة والسكوت عن كلام غير مهم وهو ، بحكم نقصانهم لا يطيقونه فتركنا الاعتراض عليهم في اللعب واللهو ، وإباحتنا ذلك إياهم لا يدل على أن اللهو واللعب حق ، فكذلك إباحتنا للعوام حفظ الأموال والاقتصار في الإنفاق على قدر الزكاة لضرورة ما جبلوا عليه من البخل لا يدل على أنه غاية الحق وقد أشار القرآن إليه إذ قال تعالى : إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا بل الحق الذي لا كدورة فيه ، والعدل الذي لا ظلم فيه ، أن لا يأخذ أحد من عباد الله من مال الله إلا بقدر زاد الراكب فكل عباد الله ركاب لمطايا الأبدان إلى حضرة الملك الديان فمن أخذ زيادة عليه ثم منعه عن راكب آخر محتاج إليه فهو ظالم تارك للعدو وخارج عن مقصود الحكمة وكافر نعمة الله تعالى عليه بالقرآن والرسول والعقل وسائر الأسباب التي بها عرف أن ما سوى زاد الراكب وبال عليه في الدنيا والآخرة فمن فهم حكمة الله تعالى في جميع أنواع الموجودات قدر على القيام بوظيفة الشكر ، واستقصاء ذلك يحتاج إلى مجلدات ثم لا تفي إلا بالقليل وإنما أوردنا هذا القدر ليعلم علة الصدق في قوله تعالى : وقليل من عبادي الشكور وفرح إبليس لعنه الله بقوله ولا تجد أكثرهم شاكرين ، فلا يعرف معنى هذه الآية من لم يعرف معنى هذا كله وأمورا أخر وراء ذلك تنقضي الأعمار دون استقصاء مباديها . فأما تفسير الآية ومعنى لفظها فيعرفه كل من يعرف اللغة وبهذا يتبين لك الفرق بين المعنى والتفسير .

فإن قلت : فقد رجع حاصل هذا الكلام إلى أن الله تعالى حكمه في كل شيء وأنه جعل بعض أفعال العباد سببا لتمام الحكمة وبلوغها غاية المراد منها وجعل بعض أفعالها مانعا من تمام الحكمة فكل فعل وافق مقتضى الحكمة حتى انساقت الحكمة إلى غايتها فهو شكر وكل ما خالف ومنع الأسباب من أن تنساق إلى الغاية المرادة بها فهو كفران ، وهذا كله مفهوم ولكن الإشكال باق ، وهو أن فعل العبد المنقسم إلى ما يتمم الحكمة وإلى ما يرفعها هو أيضا من فعل الله تعالى ، فأين العبد في البين حتى يكون شاكرا مرة وكافرا أخرى ، فاعلم أن تمام التحقيق في هذا يستمد من تيار بحر عظيم من علوم المكاشفات ، وقد رمزنا فيما سبق إلى تلويحات : بمباديها : .


(ثم أحوجك من أعطاك اليدين إلى أعمال بعضها شريف، كأخذ المصحف، وبعضها خسيس كإزالة النجاسة، فإذا أخذت المصحف باليسار، وأزلت النجاسة باليمين، فقد خصصت الشريف بما هو خسيس فغضضت من حقه) أي: نقصت (وظلمته وعدلت عن العدل، وكذلك إذا بصقت مثلا في جهة القبلة أو استقبلتها في قضاء الحاجة فقد كفرت نعمة الله تعالى في خلق الجهات وخلق سعة العالم لأنه خلق الجهات لتكون متسعك في حركاتك، وقسم الجهات إلى ما لم يشرفها، وإلى ما شرفها، بأن وضع فيها بيتا أضافه إلى نفسه) تشريفا له بذلك (واستمالة لقلبك إليه ليتقيد به قلبك) ويحترمه (فيتقيد بسببه بدنك في تلك الجهة على هيئة الثبات والوقار إذا عبدت ربك، وكذلك انقسمت أفعالك إلى ما هي شريفة كالطاعات، وإلى ما هي خسيسة، كقضاء الحاجة ورمي البصاق، فإذا رميت بصاقك إلى جهة القبلة فقد ظلمتها وكفرت نعمة الله عليك بوضع القبلة التي بوضعها كمال عبادتك، وكذلك إذا لبست خفك فابتدأت باليسرى فقد ظلمت لأن الخف وقاية للرجل فللرجل فيه حظ، والبداءة في الحظوظ ينبغي أن يكون بالأشرفية فهو العدل والوفاء بالحكمة ونقيضه ظلم وكفران لنعمة الرجل والخف، وهذا عند العارفين كبيرة) لما فيه من مناقضة مقام العدل والوفاء، (وإنما سماه الفقيه مكروها) وخفف أمره على العامة (حتى إن بعضهم) أي: من العارفين (كان قد جمع أكرارا) جمع كر بالضم أي: أحمالا (من الحنطة وكان يتصدق بها) على المحتاجين (فسئل عن سببه فقال: لبست المداس) أي: [ ص: 70 ] النعل (مرة فابتدأت بالرجل اليسرى سهوا) من غير اختيار (فأريد أن أكفره بالصدقة) ، ولعله وجد الحنطة عزيزة فلذلك اختار التصدق بها أو لكونها مما يعم النفع بها أكثر من غيرها .

(نعم الفقيه لا يقدر على تفخيم الأمر في هذه الأمور لأنه مسكين بلي) أي: امتحن (بإصلاح العوام الذين تقرب درجتهم من درجة الأنعام) في بلادتهم وحرصهم (وهم متغمسون) وفي نسخة: مغموسون (في ظلمات) وهمية (أطم وأعظم من أن تظهر أمثال هذه الظلمات بالإضافة إليها فقبيح أن يقال الذي شرب الخمر وأخذ القدح بيساره فقد تعدى) الحد الشرعي (من وجهين أحدهما الشرب، والآخر الأخذ باليسار، ومن باع حرا) وفي نسخة: خمرا (في وقت النداء) وهو الأذان الثاني (يوم الجمعة فقبيح أن يقال خالف من وجهين أحدهما بيع الحر) وفي نسخة: الخمر (والآخر البيع في وقت النداء، ومن قضى حاجته في محراب المسجد مستدبر القبلة فقبيح أن يذكر تركه الأدب في قضاء الحاجة من حيث لم يجعل القبلة عن يمينه، فالمعاصي كلها ظلمات وبعضها فوق بعض) في القبح ( فينمحق بعضها) ويضمحل (في جنب البعض، فالسيد قد يعاقب عبده إذا استعمل سكينه بغير إذنه، ولكن لو قتل بتلك السكين أعز أولاده لم يبق) وفي نسخة: لم يكن (لاستعمال السكين بغير إذنه حكم ونكاية في نفسه، فكل ما راعاه الأنبياء والأولياء من الآداب) الظاهرة (وتسامحنا فيه في الفقه مع العوام فسببه هذه الضرورة وإلا فكل هذه المكاره عدول من العدل) المأمور به (وكفران للنعمة ونقصان عن الدرجة المبلغة للعبد إلى درجات القرب نعم بعضها يؤثر في العبد بنقصان القرب وانحطاط المنزلة، وبعضها يخرج بالكلية عن حدود القرب إلى عالم البعد الذي هو مستقر الشياطين كما) أن عالم القرب هو مستقر الملائكة .

(وكذلك من كسر غصنا من شجرة من غير حاجة ناجرة مهمة من غير غرض صحيح فقد كفر نعمة الله في خلق الأشجار وخلق اليد أما اليد فإنها لم تخلق للعبث) بها ( بل للطاعة والأعمال المعينة على الطاعة، وأما الشجر فإنما خلقه الله تعالى وخلق له العروق وساق إليها) أي: إلى عروقها (الماء) من باطن الأرض (وخلق فيها قوة الاغتذاء والنماء ليبلغ منتهى نشوة فينتفع به عباده) بظله وثمره (فكسره قبل منتهى نشوة لا على وجه ينتفع به عباده مخالفة لمقصود الحكمة وعدول عن العدل، فإن كان له غرض صحيح فله ذلك إذ الشجر والحيوان جعل) كل منهما (فداء لأغراض الإنسان فإنهما جميعا فانيان هالكان وإفناء الأخس) رتبة (في بقاء الأشرف مدة ما أقرب إلى العدول من تضييعها جميعا وإليه الإشارة بقوله تعالى: وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه نعم إن كسر ذلك من ملك غيره فهو ظالم أيضا، وإن كان محتاجا) إليه (لأن كل شجرة بعينها فلا تفي بحاجات عباد الله كلهم بل تفي بحاجة واحد، ولو خصص واحد بها من غير رجحان واختصاص كان ظلما، فصاحب الاختصاص هو الذي حصل البذر ووضعه في الأرض وساق إليه الماء وقام بالتعهد) والخدمة في نموه ونشأته (فهو أولى به من غيره فتربح جانبه بذلك فإن نبت في موات الأرض) من نفسه (لا بسقي آدمي [ ص: 71 ] اختص بمغرسه) أي: منبته بالملكية (أو بغرسه) بأن وضع بذره في تلك الأرض وتعهده بالسقي (فلابد من طلب اختصاص آخر وهو السبق إلى أخذه فللسابق خاصية السبق فالعدل أن يكون هو أولى به) وهو ترجيح في حقه .

(وعبر الفقهاء عن هذا الترجيح بالملك وهو) في الحقيقة (مجاز محض) أي: خالص لا شوب للحقيقة فيه (إذ لا ملك) حقيقة (إلا لملك الملوك) جل شأنه (الذي له ما في السموات والأرض) وما في يد العبد هو مستعار مردود (وكيف يكون للعبد مالكا و) هو (في نفسه ليس بملك نفسه بل هو ملك غيره) لأن وجوده مستعار من وجود غيره وما له الوجود من غيره موجود مستعار لا قوام له بنفسه، بل إذا اعتبرت ذاته من حيث ذاته فهو عدم محض، وإنما وجوده من حيث نسبته إلى غيره وذلك ليس بوجود حقيقي، ونسبة المستعار إلى المستعير مجاز محض .

(نعم الخلق عباد الله والأرض مائدة الله) المفروشة (وقد أذن لهم في الأكل من مائدته بقدر حاجتهم كالملك ينصب مائدته لعبيده) فهم شركاء فيها (فمن أخذ لقمة بيمينه واحتوت عليها براجمه) أي: مفاصل أصابعه (فجاء آخر أراد انتزاعها من يده لم يكن منه لا لأن اللقمة صارت ملكا له بالأخذ باليد، فإن اليد وصاحب اليد أيضا مملوك، ولكن إذا كانت لقمة بعينها لا تفي بحاجة كل العبيد فالعدل في التخصيص عند حصول ضرب في الترجيح والاختصاص، والأخذ اختصاص ينفرد به العبد فمنع من لا يدلي) أي: لا يقترب (بذلك الاختصاص عن مزاحمته) وانتزاع اللقمة منه (فهكذا ينبغي أن تفهم أمر الله في عباده، ولذلك نقول من أخذ من أموال الدنيا أكثر من حاجته وكنزه وأمسكه) ولم ينفقه (وفي عباد الله من يحتاج إليه فهو ظالم) ولو أدى زكاة ما كنزه، وهو أحد الوجوه في الآية (وهو من الذين) قال الله تعالى في حقهم: والذين (يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) فبشرهم بعذاب أليم. (وإنما سبيل الله طاعته وزاد الخلق في الطاعة) وفي نسخة: من طاعته (أموال الدنيا إذ بها تندفع ضروراتهم وترتفع حاجاتهم نعم هذا لا يدخل في حد فتاوى الفقه لأن مقادير الحاجات خفية) لا تدرك، (والنفوس في استشعار الفقر في الاستقبال مختلفة، وأواخر الأعمال غير معلومة، فتكاليف العوام ذلك يجري مجرى تكليف الصبيان الوقار والتؤدة والسكون عن كلام غير مهم، وهم بحكم نقصانهم) في عقولهم (لا يطيقونه فتركنا الاعتراض عليهم في اللعب واللهو، وإباحتنا ذلك إياهم لا يدل على أن اللهو واللعب حق، فكذلك إباحتنا للعوام حفظ الأموال والاقتصار في الإنفاق على قدر الزكوات لضرورة ما جبلوا عليه من البخل لا يدل على أنه غاية الحق) وإلى هذا يشير ما ورد: كل مال أدي زكاته فليس بكنز (وقد أشار القرآن إليه إذ قال تعالى: إن يسألكموها فيحفكم) أي: يبالغ في سؤالكم حتى لا تبقوا منها شيئا إلا وقد صرفتموه في سبيل الحق (تبخلوا) وذلك بمقتضى الجبلية .

(بل الحق الذي لا كدورة فيه، والعدل الذي لا ظلم فيه، أن لا يأخذ أحد من عباد الله من مال الله إلا بقدر زاد الراكب) كما ورد ذلك في الخبر بلفظ: وليكن زاد أحدكم من الدنيا مثل زاد الراكب أي: فإن الراكب لا يحمل من الزاد إلا قدر كفايته فقط، (فكل عباد الله ركاب لمطايا الأبدان إلى حضرة الملك الديان) وسنوهم منازلهم (فمتى أخذ زيادة عليه ومنعه عن راكب آخر محتاج إليه فهو ظالم تارك للعدل خارج عن مقصود الحكمة وكافر نعمة الله تعالى [ ص: 72 ] عليه بالقرآن والرسول والعقل وسائر الأسباب التي بها عرف أن ما سوى زاد الراكب وبال عليه في الدنيا والآخرة فمن فهم حكمة الله) تعالى (في جميع أنواع الموجودات قدر على القيام بوظيفة الشكر، واستقصاء ذلك يحتاج إلى مجلدات ثم لا تفي إلا بالقليل) لكثرة أنواع الموجودات فتكثر الحكم (وإنما أوردنا هذا القدر لتعلم علة الصدق في قوله تعالى: وقليل من عبادي الشكور و) تعلم (فرح إبليس لعنه الله ولا تجد أكثرهم شاكرين، فلا يعرف معنى هذه الآية من لا يعرف هذا) الذي أوردناه (كله وأمورا أخر وراء هذا تنقضي الأعمار دون استقصاء مباديها. فأما تفسير الآية ومعنى لفظها فيعرفه كل من يعرف اللغة) وهي لسان العرب، (وبهذا يتبين لك الفرق بين المعنى والتفسير) ، فإن التفسير بيان لظاهر اللفظ والمعنى هو ما يكون بيانا لباطنه، (فإن قلت: فقد رجع حاصل الكلام إلى أن لله تعالى حكمة في كل شيء وأنه جعل بعض أفعال العباد سببا لتمام تلك الحكمة وبلوغها غاية المراد منها وجعل بعض أفعالهم مانعا من تمام الحكمة فكل فعل وافق مقتضى الحكمة حتى انساقت الحكمة إلى غايتها فهو شكر وكل ما خالف ومنع الأسباب من أن تنساق إلى الغاية المرادة بها فهو كفران، وهذا كله مفهوم ولكن الإشكال باق، وهو أن فعل العبد ينقسم إلى ما يتمم الحكمة وإلى ما يدفعها هو أيضا من فعل الله تعالى، فأين العبد في البين حتى يكون شاكرا مرة وكافرا أخرى، فاعلم أن تمام التحقيق في هذا يستمد من تيار بحر عظيم من علوم المكاشفات، وقد رمزنا فيما سبق إلى تلويحات) أي: إشارات (بمباديها) أي: أوائلها .

التالي السابق


الخدمات العلمية