إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ثم هب أنك قطعت الطعام وطحنته وهو يابس فلا تقدر على الابتلاع إلا بأن ينزلق إلى الحلق بنوع رطوبة ، فانظر كيف خلق الله تعالى تحت اللسان عينا يفيض اللعاب منها وينصب بقدر الحاجة حتى يتعجن به الطعام ، فانظر كيف سخرها لهذا الأمر فإنك ترى الطعام من بعد فيثور الحنكان للخدمة ، وينصب اللعاب ، حتى تتحلب أشداقك ، والطعام بعد بعيد عنك ثم هذا الطعام المطحون المتعجن من يوصله إلى المعدة وهو في الفم ، ولا تقدر على أن تدفعه باليد ، ولا يد في المعدة حتى تمتد فتجذب الطعام ، فانظر كيف هيأ الله تعالى المريء والحنجرة وجعل على رأسها طبقات تنفتح لأخذ الطعام ثم تنضغط حتى يتقلب الطعام .بضغطه فيهوي إلى المعدة في دهليز المريء فإذا ورد الطعام على المعدة وهو خبز وفاكهة مقطعة فلا يصلح لأن يصير لحما وعظما ودما على هذه الهيئة بل لا بد وأن يطبخ طبخا تاما حتى تتشابه أجزاؤه ، فخلق الله تعالى المعدة على هيئة قدر فيقع فيها الطعام فتحتوي عليه وتغلق عليه الأبواب فلا يزال لابثا فيها حتى يتم الهضم والنضج بالحرارة التي تحيط بالمعدة من الأعضاء الباطنة إذ من جانبها الأيمن الكبد ، ومن الأيسر الطحال ومن قدام الترائب ومن خلف لحم الصلب : فتتعدى الحرارة إليها من تسخين هذه الأعضاء من الجوانب حتى ينطبخ الطعام ويصير مائعا متشابها : يصلح للنفوذ في تجاويف العروق ، وعند ذلك يشبه ماء الشعير في تشابه أجزائه ووقته ، وهو بعد لا يصلح للتغذية .


(ثم هب أنك قطعت الطعام وطحنته وهو يابس فلا تقدر على الابتلاع) والازدراد (إلا بأن يتزلق إلى الحلق) وهو الفضاء الذي في أقصى الفم، وفيه مجريان أحدهما قصبة الرئة، والثاني المريء، ولا يكون التزلق إلا (بنوع رطوبة، فانظر كيف خلق الله تعالى تحت اللسان عينا يفيض اللعاب منها) وهما فوهتان وهما ساكبتا اللعاب، وبهما يبقى في اللسان وما حوله النداوة الطبيعية، (و) هذا اللعاب (ينصب بقدر الحاجة حتى يتعجن به الطعام، فانظر كيف سخرها لهذا الأمر فإنك ترى الطعام من بعد فيثور الحنكان للخدمة، وينصب اللعاب، حتى تتحلب أشداقك، والطعام بعد بعيد عنك ثم هذا الطعام المطحون المتعجن من يوصله إلى المعدة وهو في الفم، ولا تقدر على أن تدفعه باليد، ولا في المعدة يد حتى تمتد فتجتذب الطعام، فانظر كيف هيأ الله تعالى المريء والحنجرة) فالمريء هو منفذ الطعام والشراب متصل بالحلقوم الذي يجري فيه الطعام والشراب، وهو مؤلف من لحم، وأغشية، والحنجرة مؤلفة من غضاريف ثلاثة (وجعل على رأسها طبقات) منها داخلة، وهي شبيهة بالأغشية ومنها خارجة وهي أكثر حمية (تنفتح لأخذ الطعام ثم تنطبق وتنضغط حتى ينقلب الطعام بضغطته فتهوى إلى المعدة في دهليز المريء) .

واعلم أن في الحنجرة رطوبة دسمة لزجة كائنة في تضاعيف غضاريف الحنجرة بها يكون الصوت صافيا فإذا عرض لأحد حمى محرقة تحترق تلك الرطوبة فلا يقدر على إخراج الصوت، وكذا من تكلم كثيرا أو سافر في هواء حار يابس فإنهما لا يقدران على التكلم إلا إذا بلا حلقهما بالماء أو بشيء آخر رطب (فإذا) ورد (طعام على المعدة وهو خبز وفاكهة مقطعة فلا يصلح لأن يصير لحما وعظما ودما على هذه الهيئة بل [ ص: 109 ] لا بد وأن يطبخ طبخا تاما تتشابه أجزاؤه، فخلق الله تعالى المعدة على هيئة قدر فيقع فيها الطعام فتحتوي عليه وتنغلق عليه الأبواب فلا يزال لابثا فيها حتى يتم الهضم والنضج) .

اعلم أن المعدة جسم مستدير الهيئة، مركب من اللحم والعصب والعروق والشرايين والغشائين، وهي مؤلفة من طبقتين، والطبقة الظاهرة لحمية، وكلما بعدت المعدة عن المريء اتسعت وصار المريء كالعنق، ولها من أسفل ثقب أضيق من فمها يسمى البواب، وعند اشتمال المعدة على الغذاء وانضمامها ينغلق البواب بحيث لا يخرج عنه أصلا حتى الماء إلى أن يتم الهضم، ثم ينفتح ليصير ما في المعدة إلى الأمعاء الاثنى عشر، ويبقى مفتوحا إلى أن يتم فعل الدافعة، ومبدأ الاتساع يسمى فم المعدة، وهو عندما ينقطع عظام القص وهو عار عن اللحم وباقيه هو العضو المسمى بالمعدة، وموضعها فوق السرة، وهي مربوطة مع الفقار ومع غيرها من الأحشاء بأربطة وثيقة تمسكه، وكذا جميع الأحشاء قد أحكم ربطها ودعائمها بقدر شرفها وشدة الحاجة إليها والخوف عليها، فإذا ورد الغذاء في البدن تهضمه الطبيعة هضوما أربعة أي تعده لأن يصير جزءا من البدن، وابتداء الهضم الأول عند المضغ بسبب أن سطح الفم متصل بسطح المعدة بل لأنهما سطح واحد، وفيه منه قوة هاضمة فإذا لاقى الممضوغ أحاله إحالة ما، ويعين على ذلك الريق المستفيد بالنضج الواقع فيه حرارة غريزية، ثم إذا ورد على المعدة انهضم الهضم التام الأول لا بحرارة المعدة وحدها بل (وبالحرارة التي تحيط بالمعدة من الأعضاء الباطنة) أيضا (إذ من جانبها الأيمن الكبد، ومن الأيسر الطحال) فإن الطحال قد يسخن به لا بجوهره بل بالشرايين والأوردة الكثيرة التي فيه، (ومن قدام الترب) الشحمي القابل للحرارة المؤدي بها إلى المعدة (ومن خلف لحم الصلب) أي: العرق العظيم الممتد على الصلب من خلف المعدة، ومن فوق القلب بتوسط تسخينه للحجاب لأنه حاجز بين القلب والمعدة فهو يسخن الحجاب ثم يسخن الحجاب المعدة، ومن تحت المرارة بما فيها من الصفراء، (فتتعدى الحرارة إليها من تسخين هذه الأعضاء من الجوانب حتى ينطبخ الطعام ويصير) بذاته في كثير من الحيوان كجوارح الصيد، والجمل، والحية، من غير شرب ماء، وبمعونة ما يخالطه من المشروب في أكثره (مائعا متشابها) أي: كيلوسا وهو جوهر سيال (يصلح للنفوذ في تجاويف العروق، وعند ذلك يشبه ماء الشعير) وهو الكشك الثخين (في تشابه أجزائه، وهو بعد لا يصلح للتغذية) .

اعلم أن جسم المعدة مؤلف من ثلاث طبقات، إحداها يأخذ ليفه طولا، والثانية يأخذ ليفه عرضا، والثالثة يأخذ ليفه ورابا، وليس في المريء ليف مورب لعدم الاحتياج إلى الماسكة هناك، ويوجد اللحم في الطبقة الخارجة عند قعر المعدة أكثر ليكون أسخن فيجود الهضم، وذلك أن قعرها بعيد عن القلب والكبد المسخنين بالمجاورة فاحتيج إلى فضل تسخين، وقد وصل إلى فم المعدة شعبة من عصب الحس وانبسط فيه وبواسطته يدري ألم الجوع والحاجة إلى الغذاء، ولهذا لا يحس بألم الجوع إلا في فم المعدة، والشريان والأجوف قد أتيا من القلب والكبد إلى محدب المعدة ونسجت شعبها بعضها ببعض، وأصل الشرب، وهو عضو مؤلف من طبقتين غشائيين يراكب إحداهما على الأخرى، وتخلل بينهما شحم كثير، وشعب دقاق في العروق والشرايين، إذ هو يبتدئ من فم المعدة ويمر منتهاها إلى معاء قولون، وإنه كجراب لو أوعي شيئا سيالا لأمسكه. وتنتسج طبقاته من الصفاق، ومن شظايا العروق والشريان، ثم تترشح إليها رطوبة لزجة دهنه هي الشحم، وهو كبطانة للصفاق، وظهارة للمعدة، ومنفعته تقوية الأحشاء وتسخينها، وفوق الشرب غشاء قوي يسمى "الصفاق" يحفظ الأمعاء على أوضاعها، وفوق الصفاق تكون عضلات البطن المسماة بـ"المراق"، والصفاق والمراق يحفظان حرارة الأحشاء. وقد نبت أصل الصفاق من فوق الحجاب ثم انبسط إلى الأضلاع من داخل البطن ثم نزل إلى أسفل المثانة، وهناك يوجد فيه منفذان ضيقان تنفذ فيهما العروق والرباطات النازلة إلى الأنثيين .

التالي السابق


الخدمات العلمية