إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الطرف الرابع في نعم الله تعالى في الأصول التي يحصل منها الأطعمة .

وتصير صالحة لأن يصلحها الآدمي بعد ذلك بصنعته .

اعلم أن الأطعمة كثيرة ، ولله تعالى في خلقها عجائب كثيرة لا تحصى ، وأسباب متوالية : لا تتناهى ، وذكر ذلك في كل طعام مما يطول فإن الأطعمة إما أدوية وإما فواكه وإما أغذية ، فلنأخذ الأغذية فإنها الأصل ولنأخذ من جملتها حبة من البر ولندع سائر الأغذية ، فنقول : إذا وجدت حبة أو حبات فلو أكلتها فنيت وبقيت جائعا ؛ فما أحوجك إلى أن تنمو الحبة في نفسها ، وتزيد وتتضاعف حتى تفي بتمام حاجتك ، فخلق الله تعالى في حبة الحنطة من القوى ما يغتذى به ، كما خلق فيك فإن النبات إنما يفارقك في الحس والحركة ولا يخالفك في الاغتذاء ، لأنه يغتذي بالماء ويجتذب إلى باطنه بواسطة العروق كما تغتذي أنت وتجتذب . ولسنا نطنب في ذكر آلات النبات في اجتذاب الغذاء إلى نفسه ولكن نشير إلى غذائه فنقول : كما أن الخشب والتراب لا يغذيك بل تحتاج إلى طعام مخصوص ، فكذلك الحبة لا تغتذي بكل شيء بل تحتاج إلى شيء مخصوص بدليل أنك لو تركتها في البيت لم تزد لأنه ليس يحيط بها إلا هواء ومجرد الهواء لا يصلح لغذائها ، ولو تركتها في الماء لم تزد ولو تركتها في أرض لا ماء فيها لم تزد بل لا بد من أرض فيها ماء يمتزج ماؤها بالأرض فيصير طينا وإليه الإشارة بقوله تعالى فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا الآية ثم لا يكفي الماء والتراب ؛ إذ لو تركت في أرض ندية صلبة متراكمة لم تنبت لفقد الهواء فيحتاج إلى تركها في أرض رخوة متخلخلة يتغلغل الهواء إليها ثم الهواء لا يتحرك إليها بنفسه فيحتاج إلى ريح تحرك الهواء وتضربه بقهر وعنف على الأرض حتى ينفذ فيها ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : وأرسلنا الرياح لواقح : وإنما إلقاحها في إيقاع الازدواج بين الهواء والماء والأرض ثم كل ذلك لا يغنيك لو كان في برد مفرط وشتاء شات فتحتاج إلى حرارة الربيع والصيف ، فقد بان احتياج غذائه إلى هذه الأربعة ؛ فانظر إلى ماذا يحتاج كل واحد إذ يحتاج ؛ الماء لينساق إلى أرض الزراعة من البحار والعيون والأنهار والسواقي ، فانظر كيف خلق الله البحار وفجر العيون وأجرى منها الأنهار ثم الأرض ربما تكون مرتفعة والمياه لا ترتفع إليها فانظر كيف خلق الله تعالى الغيوم وكيف سلط الرياح عليها لتسوقها بإذنه إلى أقطار الأرض ، وهي سحب ثقال حوامل بالماء ، ثم انظر كيف يرسله مدرارا على الأراضي في وقت الربيع والخريف على حسب الحاجة وانظر كيف خلق الجبال حافظة للمياه تتفجر منها العيون تدريجا فلو خرجت دفعة لغرقت البلاد وهلك الزرع والمواشي ، ونعم الله في الجبال والسحاب والبحار والأمطار لا يمكن إحصاؤها وأما الحرارة فإنها لا تحصل بين الماء والأرض وكلاهما باردان فانظر كيف سخر الشمس وكيف خلقها مع بعدها عن الأرض مسخنة للأرض في وقت دون وقت ليحصل البرد عند الحاجة إلى البرد والحر عند الحاجة إلى الحر فهذه إحدى حكم الشمس والحكم فيها أكثر من أن تحصى ثم النبات إذا ارتفع عن الأرض كان في الفواكه انعقاد وصلابة فتفتقر إلى رطوبة تنضجها ، فانظر كيف خلق القمر وجعل من خاصيته الترطيب ، كما جعل من خاصية الشمس التسخين ، فهو ينضج الفواكه ويصبغها : بتقدير الفاطر الحكيم .

ولذلك لو كانت الأشجار في ظل يمنع شروق الشمس والقمر وسائر الكواكب عليها لكانت فاسدة ناقصة حتى إن الشجرة الصغيرة تفسد إذا ظللتها شجرة كبيرة وتعرف ترطيب القمر بأن تكشف رأسك له بالليل فتغلب على رأسك الرطوبة التي يعبر عنها بالزكام فكما يرطب رأسك يرطب الفاكهة أيضا . ولا نطول فيما لا مطمع في استقصائه بل نقول : كل كوكب في السماء فقد سخر لنوع فائدة كما سخرت الشمس للتسخين ، والقمر للترطيب ، فلا يخلو واحد منها عن حكم كثيرة لا تفي قوة البشر بإحصائها ، ولو لم يكن كذلك لكان خلقها عبثا وباطلا ، ولم يصح قوله تعالى : ربنا ما خلقت هذا باطلا وقوله عز وجل: وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين وكما أنه ليس في أعضاء بدنك عضو إلا لفائدة فليس في أعضاء بدن العالم عضو إلا لفائدة والعالم كله كشخص واحد وآحاد أجسامه كالأعضاء له ، وهي متعاونة تعاون أعضاء بدنك في جملة بدنك ، وشرح ذلك يطول ، ولا ينبغي أن تظن أن الإيمان بأن النجوم والشمس والقمر مسخرات بأمر الله سبحانه في أمور جعلت أسبابا لها بحكم الحكمة مخالف للشرع لما ، ورد فيه من النهي عن تصديق المنجمين وعن علم النجوم .

بل المنهي عنه في النجوم أمران : أحدهما أن تصدق بأنها فاعلة لآثارها مستقلة بها ، وأنها ليست مسخرة تحت تدبير مدبر خلقها وقهرها ، وهذا كفر .


(الطرف الرابع) (في) بيان (نعم الله تعالى في الأصول التي منها تحصل الأطعمة، وتصير صالحة لأن يصلحها الآدمي بعد ذلك بصنعته) ومعالجته .

(اعلم) وفقك الله تعالى (أن الأطعمة كثيرة، ولله تعالى في خلقها عجائب كثيرة لا تحصى، وأسباب متوالية) أي: متتابعة (لا تتناهى، وذكر ذلك في كل طعام مما يطول) بيانه (فإن الأطعمة) لا تخلو (إما أدوية وإما فواكه وإما أغذية، فلنأخذ الأغذية فإنها الأصل) [ ص: 117 ] في قوام الأبدان (ولنأخذ من جملتها حبة من البر) وهو أشرف الحبوب (ولندع سائر الأغذية، فنقول: إذا وجدت حبة أو حبات فلو أكلتها فنيت وبقيت جائعا؛ فما أحوجك إلى أن تنمو الحبة في نفسها، وتزيد وتتضاعف حتى تفي بتمام حاجتك، فخلق الله تعالى في حب الحنطة من القوى ما تغتذى، كما خلق فيك) من تلك القوى (فإن النبات إنما يفارقك في الحس والحركة ولا يخالفك في الاغتذاء، لأنه يتغذى بالماء ويجتذب إلى باطنه بواسطة العروق) المستبطنة في الأرض (كما تغتذي أنت وتجتذب. ولسنا نطنب في ذكر آلات النبات في اجتذاب الغذاء إلى نفسه ولكن نشير إلى غذائه فنقول: كما أن الخشب والتراب لا يغذيك بل تحتاج إلى طعام مخصوص، فكذلك الحبة لا تغتذى بكل شيء بل تحتاج إلى شيء مخصوص بدليل لو أنك تركتها في البيت لم تزد، ولو تركتها في أرض لا ماء فيها لم تزد) أيضا (بل لابد من أرض فيها ماء يمتزج ماؤها بالأرض فيصير طينا) رخوا (وإليه الإشارة بقوله تعالى:) في جملة تعدد النعم (أنا صببنا الماء صبا) أي من السحاب (ثم شققنا الأرض شقا) ونسبة الشق إليه مجاز ( فأنبتنا فيها حبا وعنبا) وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا .

(ثم لا يكفي الماء والتراب؛ إذ لو تركت في أرض ندية) بالماء لكنها (صلبة متراكمة لم تنبت لفقد الهواء فيحتاج إلى تركها في أرض رخوة متخلخلة يتخلخل الهواء إليها ثم الهواء لا يتحرك إليها بنفسه فيحتاج إلى ريح تحرك الهواء وتضربه بقهر وعنف على الأرض حتى ينفذ فيها، وإليه الإشارة بقوله تعالى: وأرسلنا الرياح لواقح ) أي: ذات لقاح، وقد ألقحت الريح السحاب (وإنما إلقاحها في إيقاع الازدواج بين الهواء والماء والأرض ثم كل ذلك لا يغنيك لو كان في برد مفرط أو شتاء شات فتحتاج إلى حرارة الربيع والصيف، فقد بان احتياج غذائه إلى هذه الأربعة؛ فانظر إلى ماذا يحتاج كل واحد؛ إذ يحتاج الماء لينساق إلى أرض الزراعة من البحار والعيون والأنهار والسواقي، فانظر كيف خلق البحار وفجر العيون وأجرى منها الأنهار ثم الأرض ربما تكون مرتفعة والمياه لا ترتفع إليها) لغور العيون والأنهار في الأرض (فانظر كيف خلق الله تعالى الغيوم وكيف سلط الرياح عليها لتسوقها بإذنه إلى أقطار العالم، وهي سحب ثقال حوامل بالماء، ثم انظر كيف يرسله مدرارا على الأراضي في وقت الربيع والخريف حسب الحاجة) إليه، (وانظر كيف خلق الجبال حافظة للمياه تتفجر منها العيون تدريجا فلو خرجت دفعة لغرقت البلاد وهلك الزرع والمواشي، ونعم الله في الجبال والسحاب والبحار والأمطار لا يمكن إحصاؤها) .

(وأما الحرارة فإنها لا تحصل بين الماء والأرض وكلاهما باردان) طبعا (فانظر كيف سخر الشمس وكيف خلقها مع بعدها عن الأرض) ؛ إذ هي في الفلك الرابع (مسخنة للأرض في وقت دون وقت ليحصل البرد عند الحاجة إلى البرد و) يحصل (الحر عند الحاجة إلى الحر فهذه إحدى حكم الشمس والحكم فيها أكثر من أن تحصى ثم النبات إذا ارتفع عن الأرض كان في الفواكه انعقاد وصلابة [ ص: 118 ] فتفتقر إلى رطوبة تنتجها، فانظر كيف خلق القمر وجعل من خاصيته الترطيب، كما جعل من خاصية الشمس التسخين، فهو ينضج الفواكه ويصبغها) أي: يلونها ألوانا مختلفة (بتقدير الفاطر الحكيم) جل جلاله، فالشمس طباخ والقمر صباغ (ولذلك لو كانت الأسحار في ظل يمنع شروق الشمس والقمر وسائر الكواكب عليها لكانت فاسدة ناقصة) لا ينتفع بها (حتى إن الشجرة الصغيرة تفسد إذا أظلتها شجرة كبيرة) حتى إن بعض أغصانها البارزة إلى السماء أحسن وأنور من التي تحت الظلال. (وتعرف ترطيب القمر بأن تكشف له رأسك بالليل) عند نومك (فتغلب على رأسك الرطوبة التي يعبر عنها بالزكام) وهو عندهم عبارة عن تحلب فضول رطبة من بطني الدماغ المقدمين إلى المنخرين، (فكما يرطب رأسك يرطب الفاكهة أيضا. ولا نطول فيما لا مطمع في استقصائه بل نقول: كل كوكب في السماء فقد سخر لنوع فائدة كما سخرت الشمس للتسخين، والقمر للترطيب، فلا يخلو واحد منها عن حكم كثيرة لا تفي قوة البشر بإحصائها، ولو لم يكن كذلك لكان خلقها عبثا وباطلا، ولم يصح قوله تعالى: ربنا ما خلقت هذا باطلا ، و) كذا (قوله تعالى: وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ) .

(وكما أنه ليس في أعضاء بدنك عضو إلا لفائدة) خاصة (فليس في أعضاء بدن العالم عضو إلا لفائدة) وحكمة (والعالم كله) إذا تصورته (كشخص واحد وآحاد أجسامه كالأعضاء له، وهي متعاونة تعاون أعضاء بدنك في جملة بدنك، وشرح ذلك يطول، ولا ينبغي أن تظن أن الإيمان بأن النجوم والشمس والقمر مسخرات بأمر الله) منقادات به (في أمور جعلت أسبابا لها بحكم الحكمة) الإلهية (مخالف للشرع، كما ورد فيه من النهي عن تصديق المنجمين) . روى أحمد ومسلم وأبو داوود والنسائي من حديث معاوية بن الحكم السلمي قال: قلت: يا رسول الله أمورا كنا نصنعها في الجاهلية كنا نأتي الكهان، قال: فلا تأتوا الكهان... الحديث. قال ابن الأثير في النهاية: إن منهم من كان يسمي الطبيب والمنجم كاهنا. قلت: وبهذا يتم الاستدلال بالحديث. (وعن علم النجوم) روى أحمد وأبو داود وابن ماجه بسند صحيح والبيهقي من حديث ابن عباس: من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد، وللطبراني من حديث ابن مسعود وثوبان: إذا ذكر النجوم فأمسكوا، إسنادهما ضعيف، وقد تقدم قريبا في كتاب العلم .

(بل المنهي عنه في النجوم أمران: أحدهما أن تصدق بأنها فاعلة لآثارها مستقلة بها، وأنها ليست مسخرة تحت تدبير مدبر خلقها وقهرها، وهذا كفر) والعياذ بالله منه .

التالي السابق


الخدمات العلمية