إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان دواء الرجاء والسبيل الذي يحصل منه حال الرجاء ويغلب

اعلم أن هذا الدواء يحتاج إليه أحد رجلين ، إما رجل غلب عليه اليأس فترك العبادة وإما رجل غلب عليه الخوف فأسرف في المواظبة على العبادة حتى أضر بنفسه وأهله وهذان رجلان مائلان عن الاعتدال إلى طرفي الإفراط والتفريط فيحتاجان إلى علاج يردهما إلى الاعتدال فأما العاصي المغرور المتمني على الله مع الإعراض عن العبادة ، واقتحام المعاصي ، فأدوية الرجاء تنقلب سموما مهلكة في حقه ، وتنزل منزلة العسل الذي هو شفاء لمن غلب عليه البرد وهو سم مهلك لمن غلب عليه الحرارة بل المغرور لا يستعمل في حقه إلا أدوية الخوف ، والأسباب المهيجة له فلهذا يجب أن يكون واعظ الخلق متلطفا ناظرا إلى مواقع العلل ، معالجا لكل علة بما يضادها ، لا بما يزيد فيها فإن المطلوب هو العدل والقصد في الصفات والأخلاق كلها ، وخير الأمور أوساطها فإذا جاوز الوسط إلى أحد الطرفين عولج بما يرده إلى الوسط لا بما يزيد في ميله عن الوسط ، وهذا الزمان زمان لا ينبغي أن يستعمل فيه مع الخلق أسباب الرجاء بل المبالغة في التخويف أيضا تكاد : أن لا تردهم إلى جادة الحق وسنن الصواب : فأما ذكر أسباب الرجاء : فيهلكهم ويرديهم بالكلية ولكنها لما كانت أخف على القلوب ، وألذ عند النفوس ولم يكن غرض الوعاظ إلا استمالة القلوب واستنطاق الخلق بالثناء كيفما كانوا مالوا إلى الرجاء حتى ازداد الفساد فسادا وازداد المنهمكون في طغيانهم تماديا

قال علي كرم الله وجهه إنما العالم الذي لا يقنط الناس من رحمة الله تعالى ولا يؤمنهم من مكر الله

ونحن نذكر أسباب الرجاء لتستعمل في حق الآيس أو فيمن غلب عليه الخوف اقتداء بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فإنهما مشتملان على الخوف والرجاء جميعا ، لأنهما جامعان لأسباب الشفاء في حق أصناف المرضى ، ليستعمله العلماء الذين هم ورثة الأنبياء بحسب الحاجة استعمال الطبيب الحاذق لا استعمال الأخرق الذي يظن أن كل شيء من الأدوية صالح لكل مريض كيفما كان .

وحال الرجاء يغلب بشيئين أحدهما الاعتبار والآخر استقراء الآيات والأخبار والآثار :

أما الاعتبار فهو أن يتأمل جميع ما ذكرناه في أصناف النعم من كتاب الشكر حتى إذا علم لطائف نعم الله تعالى لعباده في الدنيا ، وعجائب حكمه التي راعاها في فطرة الإنسان : حتى أعد له في الدنيا كل ما هو ضروري له في دوام الوجود كآلات الغذاء ، وما هو محتاج إليه ، كالأصابع والأظفار ، وما هو زينة له ، كاستقواس الحاجبين : واختلاف ألوان العينين وحمرة الشفتين ، وغير ذلك مما كان لا ينثلم بفقده غرض مقصود : وإنما كان يفوت به مزية جمال فالعناية الإلهية إذا لم تقصر عن عباده في أمثال هذه الدقائق حتى لم يرض لعباده أن تفوتهم المزايد والمزايا في الزينة والحاجة ، كيف يرضى بسياقهم إلى الهلاك المؤبد . بل إذا نظر الإنسان نظرا شافيا علم أن أكثر الخلق قد هيئ له أسباب السعادة في الدنيا ، حتى إنه يكره الانتقال من الدنيا بالموت وإن أخبر بأنه لا يعذب بعد الموت أبدا مثلا أو لا يحشر أصلا فليست كراهتهم للعدم إلا لأن أسباب النعم أغلب لا محالة ، وإنما الذي يتمنى الموت نادر ثم لا يتمناه إلا في حال نادرة ، وواقعة هاجمة غريبة فإذا كان حال أكثر الخلق في الدنيا الغالب عليه الخير والسلامة ، فسنة الله لا تجد لها تبديلا فالغالب أن أمر الآخرة هكذا يكون ؛ لأن مدبر الدنيا والآخرة واحد ، وهو غفور رحيم ، لطيف بعباده ، متعطف عليهم ، فهذا إذا تؤمل حق التأمل قوي به أسباب الرجاء ومن الاعتبار أيضا النظر في حكمة الشريعة وسنتها في مصالح الدنيا ، ووجه الرحمة للعباد بها ، حتى كان بعض العارفين يرى آية المداينة في البقرة من أقوى أسباب الرجاء

فقيل له : وما فيها من الرجاء ؟ فقال : الدنيا كلها قليل ورزق الإنسان منها قليل والدين قليل عن رزقه ، فانظر كيف أنزل الله تعالى فيه أطول آية ليهدي عبده إلى طريق الاحتياط في حفظ دينه ، فكيف لا يحفظ دينه الذي لا عوض له منه .


(بيان دواء الرجاء والسبيل الذي يحصل منه حال الرجاء ويغلب)

(اعلم) وفقك الله تعالى (أن هذا الدواء يحتاج إليه أحد رجلين، إما رجل غلب عليه اليأس) من روح الله تعالى (فترك العبادة) من أصلها، (وإما رجل غلب عليه الخوف فأسرف في المواظبة على العبادة فأضر بنفسه وأهله) . وهذا هو الموطن الرابع من مواطن استعمال الرجاء، وقد تقدمت الإشارة للمواطن الثلاثة، ثم هذا العبد الذي أورثه الإفراط في الخوف إلى القنوط إما بسبب كثرة الذنوب أو بسبب الجهل بجود الله وكرمه وقبوله للتوبة من العبد المذنب إذا رجع إليه، فهذا داء عظيم يجب دواؤه بالرجاء، كما يشير إليه المصنف فيما بعد. (وهذان رجلان مائلان عن) حد (الاعتدال إلى طرفي الإفراط والتفريط فيحتاجان إلى علاج) يردهما إلى الاعتدال (فأما العاصي المغرور المتمني على الله) المغفرة والدرجات العالية (مع الإعراض عن العبادة، واقتحام المعاصي، فأدوية الرجاء تنقلب سموما مهلكة في حقه، وتنزل منزلة العسل الذي هو شفاء) للناس بنص القرآن أي (لمن غلب عليه البرد) منهم في مزاجه، إما من أصله أو من عارض (وهو سم مهلك لمن غلب عليه الحرارة) في مزاجه، إما من طبع أو من عارض، وهذا مما اتفق عليه العارفون بالطب، والمتكلمون على الخواص .

(بل المغرور) المتمني (لا يستعمل في حقه إلا أدوية الخوف، والأسباب المهيجة له) لتكون مزيلة لمرض غروره، والأمراض لا تعالج إلا بأضدادها (فلهذا يجب أن يكون واعظ) العامة من (الخلق) وكذا الأستاذ والمعلم حكيما بصيرا (متلطفا) عارفا بنبضهم (ناظرا إلى مواقع العلل، معالجا لكل علة بما يضادها، لا بما يزيد فيها) ويهيجها، (فإن المطلوب) في كل شيء (هو العدل والقصد في الصفات والأخلاق كلها، وخير الأمور أوسطها) كما ورد ذلك في الخبر، وتقدم ذكره. (فإذا جاوز الوسط إلى أحد الطرفين عولج بما يرده إلى الوسط لا بما يريد في ميله عن الوسط، وهذا الزمان) يعني به زمانه الذي كان فيه، وهو رأس الأربعمائة بعد الهجرة (زمان لا ينبغي أن يستعمل فيه مع الخلق أسباب الرجاء) وما يترخص فيه (بل المبالغة في التخويف) والتحذير (أيضا تكاد) أي: تقرب (لا تردهم إلى جادة الحق وسنن [ ص: 173 ] الصواب) أي: طريقة. (فأما ذكر أسباب الرجاء) والرخص (فتهلكهم وترديهم) أي: توقعهم في الردى (بالكلية ولكنها لما كانت أخف) وقعا (على القلوب، وألذ عند النفوس) وأروح عند الأسماع (ولم يكن غرض الوعاظ) وأرباب الكراسي (إلا استمالة القلوب) إليهم (واستنطاق الخلق بالثناء) عليهم كيفما كانوا (مالوا إلى الرجاء) والرخص حتى ازداد الفساد فسادا، وازداد المنهمكون في الطغيان تماديا، قال علي كرم الله وجهه: "إنما العالم الذي لا يقنط الناس من رحمة الله تعالى، ولا يؤمنهم من مكر الله تعالى"، ولفظه في نهج البلاغة: "الفقيه كل الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يؤيسهم من روح الله، ولم يؤمنهم من مكر الله". وقال أبو نعيم في الحلية: حدثنا أبي حدثنا أبو جعفر محمد بن إبراهيم بن الحكم حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي حدثنا شجاع بن الوليد عن زياد بن خيثمة عن أبي إسحاق عن عاصم بن حمزة عن علي رضي الله عنه قال: ألا إن الفقيه كل الفقيه الذي لا يقنط الناس من رحمة الله، ولا يؤمنهم من عذاب الله، ولا يرخص لهم في معصية الله، ولا يدع القرآن رغبة عنه إلى غيره، ولا خير في عبادة لا علم فيها، ولا خير في علم لا فهم فيه، ولا خير في قراءة لا تدبر فيها.

(ونحن نذكر أسباب الرجاء ليستعمل في حق الآيس) من روح الله (وفيمن غلب عليه الخوف) وأفرط عليه حتى أخرجه إلى القنوط من رحمة الله (اقتداء بكتاب الله) عز وجل (وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنهما مشتملان على الخوف والرجاء جميعا، لأنهما جامعان لأسباب الشفاء في حق أصناف المرضى، ليستعمله العلماء الذين هم ورثة الأنبياء) كما ورد ذلك في الخبر، وذلك (بحسب الحاجة) والاضطرار (استعمال الطبيب الحاذق) الذي يضع الهناء مواضع النقب (لا استعمال الأخرق) الجاهل (الذي يظن أن كل شيء من الأدوية صالح لكل مريض كيفما كان. وحال الرجاء يغلب بفنين أحدهما الاعتبار) وهو افتعال من العبرة (والآخر استقراء الآيات والأخبار والآثار) أي: تتبعها (أما الاعتبار فهو) استقراء أول الوجود فإنك ترى الوجود من قمة العرش إلى منتهى الفرش خيرا كله، ولم يكن فيه من الشر إلا ما ينسب إلى جنس المكلفين، والمكلفون في جزء يسير من الأرض، والأرض جزء يسير من الدنيا، وما الدنيا في الآخرة إلا كما يضع أحدكم إصبعه في اليم، وهذا ظاهر في الاستقراء؛ لأن عالم الآخرة أوسع من عالم الدنيا، بل ملك من الملائكة يعدل الخلق أجمع، فموجبات الرحمة في الوجود أكثر من موجبات الغضب؛ ولذلك آثار كثيرة أثنى بها على نفسه فقال: الرحمن الرحيم الفتاح الكريم الجواد الأكرم التواب الوهاب العفو الغفور الشكور الصمد المجيب الودود البر الرزاق اللطيف الرؤوف المحسن المنعم المنان الرفيق الهادي مع ما يضاف إلى هذا من الرضا والمحبة والذكر والمشي والهرولة وما أشبه هذا. فالنظر إلى آثار هذه الأفعال، وما ورد من الأخبار في فضائل الأعمال شفاء للإياس، وترويح للخائف، وترغيب للمعتدل .

ومن الاعتبار أيضا (أن يتأمل جميع ما ذكرناه في أصناف النعم) الستة عشر (من كتاب الشكر حتى إذا علم لطائف نعم الله لعباده في الدنيا، وعجائب حكمه التي راعاها في فطرة الإنسان) أي: خلقته (حتى أعدله في الدنيا كل ما هو ضروري له في دوام الوجود كآلات الغذاء، وما هو محتاج إليه، كالأصابع والأظفار، وما هو زينة له، كاستقواس الحاجبين) أي: كونهما على صورة القوس ثم سواهما (واختلاف ألوان العينين) من بياض وسواد (وحمرة الشفتين، وغير ذلك مما لا ينثلم بفقده غرض مقصود) أي: لا ينقص ولا يفوت، (وإنما كان يفوت به مزية جمال) الصورة (فالعناية الإلهية إذا لم تقصر عن عباده في أمثال هذه الدقائق حتى لم يرض لعباده أن يفوتهم المزايد والمزايا في الزينة والحاجة، كيف يرضى بسياقهم إلى الهلاك المؤبد. بل إذا نظر الإنسان [ ص: 174 ] نظرا شافيا علم أن أكثر الخلق قد هيئ له أسباب السعادة في الدنيا، حتى إنه يكره الانتقال من الدنيا بالموت) ومفارقتها، (وإن أخبر بأنه لا يعذب بعد الموت مثلا أو لا يحشر أصلا فليس كراهتهم للعدم) الذي هو الموت (إلا لأن أسباب النعم أغلب لا محالة، وإنما الذي يتمنى الموت نادر) قليل. (ثم) إذا فرض تمنيه فإنه (لا يتمناه إلا في حالة نادرة، وواقعة هاجمة غريبة) هجمت عليه، ولم ير منها الانفكاك، فاختار بطن الأرض على ظهرها .

(فإذا حال أكثر الخلق في الدنيا الغالب عليه الخير والسلامة، فسنة الله لا تجد لها تبديلا) ، ولن تجد لسنت الله تحويلا. (فالغالب أن أمر الآخرة هكذا يكون؛ لأن مدبر الدنيا والآخرة واحد، وهو غفور رحيم، لطيف بعباده، متعطف عليهم، فهذا) الذي ذكرناه مع ما سبق من غلبة الرحمة (إذا تؤمل حق التأمل قوي به أسباب الرجاء) للآيسين .

(ومن الاعتبار أيضا النظر في حكمة الشريعة) المطهرة (وسنتها في) أحكام (مصالح الدنيا، ووجه الرحمة للعباد بها، حتى كان بعض العارفين يرى آية المداينة) الطويلة المذكورة (في) سورة (البقرة من أقوى أسباب الرجاء) وهي قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه إلى قوله والله بما تعملون عليم ، (فقيل له: وما فيها من الرجاء؟ فقال: الدنيا كلها قليل) بالنسبة إلى الآخرة (ورزق الإنسان منها قليل) بالإضافة إلى رزق سائر الحيوانات، (والدين قليل من رزقه، فانظر كيف أنزل الله تعالى فيه أطول آية ليهدي عباده إلى طريق الاحتياط في حفظ دينه، فكيف لا يحفظ دينه الذي لا عوض له منه) في دنياه وعقباه؟! ولفظ القوت: وكان بعض الراجين من العارفين إذا تلا هذه الآية، آية الدين التي في سورة البقرة، يسر بذلك، ويستبشر لها، ويعظم رجاؤه عندها، فقيل له في ذلك إنها ليس فيها رجاء، ولا ما يوجب رجاء الاستبشار، فقال: بل فيها رجاء عظيم، فقال: إن الدنيا كلها قليل، ورزق الإنسان فيها قليل، وهذا الدين من رزقه فقليل من قليل، ثم إن الله احتاط في ذلك، ودقق النظر إلي بأن وكد ديني بالشهود والكتاب، وأنزل الله فيه أطول آية، ولو فاتني ذلك لم أبال به، فكيف يكون فعله بي في الآخرة التي لا عوض لي من نفسي فيها .

التالي السابق


الخدمات العلمية