إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان درجات الخوف واختلافه في القوة والضعف

اعلم أن الخوف محمود وربما يظن أن كل ما هو خوف محمود فكل ما كان أقوى وأكثر كان أحمد وهو غلط ، بل الخوف سوط الله يسوق به عباده إلى المواظبة على العلم والعمل ، لينالوا بهما رتبة القرب من الله تعالى والأصلح للبهيمة أن لا تخلو عن سوط وكذا الصبي ولكن ذلك لا يدل على أن المبالغة في الضرب محمودة وكذلك الخوف له قصور وله إفراط وله اعتدال والمحمود هو الاعتدال والوسط فأما القاصر منه فهو الذي يجري مجرى رقة النساء ، يخطر بالبال عند سماع آية من القرآن فيورث البكاء ، وتفيض الدموع ، وكذلك عند مشاهدة سبب هائل فإذا غاب ذلك السبب عن الحس ورجع القلب إلى الغفلة فهذا خوف قاصر ، قليل الجدوى ، ضعيف النفع ، وهو كالقضيب الضعيف الذي تضرب به دابة قوية لا يؤلمها ألما مبرحا ، فلا يسوقها إلى المقصد ، ولا يصلح لرياضتها ، وهكذا خوف الناس كلهم إلا العارفين والعلماء ولست أعني بالعلماء المترسمين برسوم العلماء ، والمتسمين بأسمائهم ، فإنهم أبعد الناس عن الخوف بل أعني العلماء بالله وبأيامه وأفعاله ، وذلك مما قد عز وجوده الآن ؛ ولذلك قال الفضيل بن عياض إذا قيل لك : هل تخاف الله ؟ فاسكت ، فإنك إن قلت : لا ، كفرت ، وإن قلت : نعم كذبت وأشار به إلى أن الخوف هو الذي يكف الجوارح عن المعاصي ، ويقيدها بالطاعات ، وما لم يؤثر في الجوارح فهو حديث نفس وحركة خاطر لا يستحق أن يسمى خوفا ،

وأما المفرط فإنه الذي يقوى ويجاوز حد الاعتدال حتى يخرج إلى اليأس والقنوط ، وهو مذموم أيضا لأنه يمنع من العمل وقد يخرج الخوف أيضا إلى المرض والضعف وإلى الوله والدهشة وزوال العقل فالمراد من الخوف ما هو المراد من السوط وهو الحمل على العمل ، ولولاه لما كان الخوف كمالا لأنه بالحقيقة نقصان لأن منشأه الجهل والعجز ،

أما الجهل فإنه ليس يدري عاقبة أمره ، ولو عرف لم يكن خائفا ؛ لأن المخوف هو الذي يتردد فيه ،

وأما العجز فهو أنه متعرض لمحذور ، لا يقدر على دفعه ، فإذا هو محمود بالإضافة إلى نقص الآدمي ، وإنما المحمود في نفسه وذاته هو العلم والقدرة وكل ما يجوز أن يوصف الله تعالى به وما لا يجوز وصف الله تعالى به فليس بكمال في ذاته ، وإنما يصير محمودا ، بالإضافة إلى نقص هو أعظم منه كما يكون احتمال ألم الدواء محمودا لأنه أهون من ألم المرض والموت ، فما يخرج إلى القنوط فهو مذموم وقد يخرج الخوف أيضا إلى المرض والضعف وإلى الوله والدهشة ، وزوال العقل ، وقد يخرج إلى الموت ، وكل ذلك مذموم ، وهو كالضرب الذي يقتل الصبي ، والسوط الذي يهلك الدابة أو يمرضها أو يكسر عضوا من أعضائها ، وإنما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أسباب الرجاء وأكثر منها ليعالج به صدمة الخوف المفرط المفضي إلى القنوط أو أحد هذه الأمور فكل ما يراد لأمر فالمحمود منه ما يفضي إلى المراد المقصود منه وما يقصر عنه أو يجاوزه فهو مذموم .


(بيان درجات الخوف واختلافه في القوة والضعف)

( اعلم) وفقك الله تعالى (أن الخوف محمود) ومطلوب، وفرض عين (وربما يظن أن كل ما هو محمود فكلما كان أقوى وأكثر كان أحمد وهو غلط، بل الخوف سوط الله يسوق به عباده إلى المواظبة على العلم والعمل، لينالوا بها رتبة القرب من الله تعالى) . قال القشيري: سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت محمد بن علي الحيري يقول: سمعت محفوظا يقول: سمعت أبا حفص يقول: الخوف سوط الله يقوم به الشاردين عن بابه. (والأصلح للبهيمة أن لا تخلو عن سوط وكذا الصبي) العرم (ولكن ذلك لا يدل على أن المبالغة في الضرب محمود) كما هو ظاهر (وكذلك الخوف له قصور) وهو مرتبة التفريط (وله إفراط) وهو مرتبة التجاوز (وله اعتدال) وهو مرتبة الوسط (والمحمود) من ذلك (هو الاعتدال والوسط) فخير الأمور أوساطها .

(فأما القاصر منه فهو الذي يجري مجرى رقة النساء، تخطر بالبال عند سماع آية من القرآن فتورث البكاء، وتفيض الدموع، وكذلك عند مشاهدة سبب هائل) عظيم مخوف (فإذا غاب ذلك السبب عن الحس) والمشاهدة (رجع القلب إلى الغفلة فهذا خوف قاصر، قليل الجدوى، ضعيف النفع، وهو كالقضيب الضعيف الذي تضرب به دابة قوية لا يؤلمها ألما مبرحا، فلا يسوقها إلى المقصد، ولا يصلح لرياضتها، وهكذا خوف الناس كلهم إلا العارفون والعلماء) ولذا قال سهل: الناس كلهم هلكى إلا العالمون، والعالمون كلهم هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر. (ولست أعني بالعلماء المترسمين برسوم العلماء، والمتسمين بأسمائهم، فإنهم أبعد الناس عن الخوف بل أعني به العلماء بالله) وبآلائه (وبآياته وأفعاله، وذلك مما قد عز وجوده الآن؛ ولذلك قال الفضيل بن عياض) رحمه الله تعالى: (إذا قيل لك: هل تخاف الله؟ فاسكت، فإنك إن قلت: لا، كفرت، وإن قلت: نعم كذبت) ؛ إذ ليس وصفك وصف من يخاف الله، نقله صاحب القوت .

(وأشار به إلى أن الخوف هو الذي يكف الجوارح عن المعاصي، ويقيدها بالطاعات، وما لم يؤثر في الجوارح فهو حديث نفس وحركة خاطر لا يستحق أن يسمى خوفا، وأما المفرط فهو الذي يقوى ويجاوز حد الاعتدال حتى يخرج إلى اليأس والقنوط، وهو مذموم أيضا لأنه يمنع من العمل) وربما أورثه الكفر، (فالمراد من الخوف ما هو المراد من السوط وهو الحمل على العمل، ولولاه لما كان الخوف كمالا لأنه بالحقيقة نقصان لأن منشأه الجهل والعجز، أما الجهل فإنه ليس يدري عاقبة أمره، ولو عرف لم يكن خائفا؛ لأن المخوف هو الذي يتردد فيه، وأما العجز فهو أنه متعرض لمحذور، ولا يقدر على دفعه، فإذا هو محمود بالإضافة إلى نقص الآدمي، وإنما المحمود في نفسه وذاته هو العلم والقدرة وكل ما يجوز أن يوصف الله تعالى به) .

(و) أما (ما لا يجوز وصف الله تعالى به فليس كمالا في ذاته، وإنما يصير محمودا، بالإضافة إلى نقص أعظم [ ص: 202 ] منه كما يكون احتمال ألم الدواء محمودا إلا أنه أهون من ألم المرض والموت، فما يخرج إلى القنوط فهو مذموم) لما تقدم أنه يمنع العمل. (وقد يخرج الخوف أيضا إلى المرض والضعف) الشديدين، (و) إلى (ألم الوله) والحيرة (والدهشة، وزوال العقل، وقد يخرج إلى الموت إذا أثر في المرارة، وكل ذلك مذموم، وهو كالضرب الذي يقتل الصبي، والسوط الذي يهلك الدابة أو يمرضها أو يكسر عضوا من أعضائها، وإنما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أسباب الرجاء) فيما تقدم من الأخبار (وأكثر منها ليعالج بها صدمة الخوف المفرط المفضي إلى القنوط أو أحد هذه الأمور) المذكورة (فكل ما يراد لأمر فالمحمود منه ما يفضي إلى المراد المقصود منه وما يقصر عنه أو يجاوزه فهو مذموم) إلا أن ما يفضي منه إلى اليأس والقنوط فهو حرام، وإن لم يوجب ذلك ولكن أدى إلى فساد العقل، وضعف البدن، فإنه مكروه لخروجه عن الاعتدال المحبوب .

التالي السابق


الخدمات العلمية