إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان فضيلة الخوف والترغيب فيه

اعلم أن فضل الخوف تارة يعرف بالتأمل والاعتبار ، وتارة بالآيات والأخبار ،

أما الاعتبار فسبيله أن فضيلة الشيء بقدر غنائه في الإفضاء إلى سعادة لقاء الله تعالى ؛ في الآخرة إذ لا مقصود سوى السعادة ولا سعادة للعبد إلا في لقاء مولاه ، والقرب منه ، فكل ما أعان عليه فله فضيلة ، وفضيلته بقدر ، غايته وقد ظهر أنه لا وصول إلى سعادة لقاء الله في الآخرة إلا بتحصيل محبته ، والأنس به في الدنيا ولا تحصل المحبة إلا بالمعرفة ولا تحصل المعرفة إلا بدوام الفكر ولا يحصل الأنس إلا بالمحبة ودوام الذكر ولا تتيسر المواظبة على الذكر والفكر إلا بانقطاع حب الدنيا من القلب ولا ينقطع ذلك إلا بترك لذات الدنيا وشهواتها ، ولا يمكن ترك المشتهيات إلا بقمع الشهوات ولا تنقمع الشهوة بشيء كما تنقمع بنار الخوف فالخوف هو النار المحرقة للشهوات فإن فضيلته بقدر ما يحرق من ، الشهوات وبقدر ما يكف عن المعاصي ، ويحث على الطاعات ويختلف ذلك باختلاف درجات الخوف كما سبق وكيف لا يكون الخوف ذا فضيلة وبه تحصل العفة ، والورع ، والتقوى ، والمجاهدة ، وهي الأعمال الفاضلة المحمودة التي تقرب إلى الله زلفى

وأما بطريق الاقتباس من الآيات والأخبار فما ورد في فضيلة الخوف خارج عن الحصر وناهيك دلالة على فضيلته جمع الله تعالى للخائفين الهدى ، والرحمة ، والعلم والرضوان ، وهي مجامع مقامات أهل الجنان ، وقال الله تعالى : هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون وقال تعالى : إنما يخشى الله من عباده العلماء ، وصفهم بالعلم لخشيتهم :

وقال : عز وجل رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه وكل ما دل على فضيلة العلم دل على فضيلة الخوف ؛ لأن الخوف ثمرة العلم ولذلك جاء في خبر موسى عليه : أفضل الصلاة والسلام وأما الخائفون فإن لهم الرفيق الأعلى لا يشاركون فيه فانظر كيف أفردهم بمرافقة الرفيق الأعلى وذلك لأنهم العلماء ، والعلماء لهم رتبة مرافقة الأنبياء ؛ لأنهم ورثة الأنبياء ومرافقة الرفيق الأعلى للأنبياء ومن يلحق بهم ولذلك لما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض موته بين البقاء في الدنيا ، وبين القدوم على الله تعالى ، كان يقول : أسألك الرفيق الأعلى

فإذن إن نظر إلى مثمره فهو العلم وإن نظر إلى ثمرته فالورع والتقوى ولا يخفى ما ورد في فضائلهما : حتى إن العاقبة صارت موسومة بالتقوى ، مخصوصة ، بها كما صار الحمد مخصوصا بالله تعالى والصلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى يقال : الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، والصلاة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وآله أجمعين .

وقد خصص الله تعالى التقوى بالإضافة إلى نفسه فقال تعالى لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ، وإنما التقوى عبارة عن كف بمقتضى الخوف كما سبق ، ولذلك قال تعالى : إن أكرمكم عند الله أتقاكم ولذلك أوصى الله تعالى الأولين والآخرين بالتقوى ، فقال : تعالى ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وقال عز وجل : وخافون إن كنتم مؤمنين ، فأمر بالخوف وأوجبه ، وشرطه في الإيمان

فلذلك لا يتصور أن ينفك مؤمن عن خوف ، وعن ضعف ، ويكون ضعف خوفه بحسب ضعف معرفته وإيمانه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضيلة التقوى : وإذا جمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم فإذا هم بصوت يسمع أقصاهم ، كما يسمع أدناهم : فيقول يا أيها الناس إني قد أنصت لكم منذ خلقتكم إلى يومكم هذا فأنصتوا إلي اليوم ، إنما هي أعمالكم ترد عليكم ، أيها الناس إني قد جعلت نسبا ، وجعلتم نسبا ، فوضعتم نسبي ، ورفعتم نسبكم ، قلت : إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، وأبيتم إلا أن تقولوا : فلان بن فلان ، وفلان أغنى من فلان ، فاليوم أضع نسبكم ، وأرفع نسبي ، أين المتقون ؟ فيرفع للقوم لواء فيتبع القوم لواءهم إلى منازلهم ، فيدخلون الجنة بغير حساب

وقال عليه : الصلاة والسلام رأس الحكمة : مخافة الله

وقال عليه الصلاة والسلام لابن مسعود : إن أردت أن تلقاني فأكثر من الخوف بعدي

وقال الفضيل من خاف الله دله الخوف على كل خير :

وقال الشبلي رحمه الله ما خفت الله يوما إلا رأيت له بابا من الحكمة والعبرة ما رأيته قط

وقال يحيى بن معاذ ما من مؤمن يعمل السيئة إلا ويلحقها حسنتان ، خوف العقاب ، ورجاء العفو ، كثعلب بين أسدين

وفي خبر موسى عليه : الصلاة والسلام وأما الورعون فإنه لا يبقى أحد إلا ناقشته الحساب ، وفتشت عما في يديه ، إلا الورعين ، فإني ، أستحي منهم وأجلهم ، أن أوقفهم للحساب

والورع والتقوى أسام اشتقت من معان شرطها الخوف ، فإن خلت عن الخوف لم تسم بهذه الأسامي ، وكذلك ما ورد في فضائل الذكر لا يخفى وقد جعله الله تعالى مخصوصا بالخائفين ، فقال : سيذكر من يخشى

وقال تعالى : ولمن خاف مقام ربه جنتان ، وقال صلى الله عليه وسلم : قال الله عز وجل : وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين ، ولا أجمع له أمنين ، فإن أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة ، وإن خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة وقال صلى الله عليه وسلم : من خاف الله تعالى خافه كل شيء ومن خاف غير الله خوفه الله من كل شيء وقال صلى الله عليه وسلم : أتمكم عقلا أشدكم خوفا لله تعالى ، وأحسنكم فيما أمر الله تعالى به ، ونهى عنه نظرا

وقال يحيى بن معاذ رحمة الله عليه مسكين ابن آدم ، لو خاف النار كما يخاف الفقر دخل الجنة

وقال ذو النون رحمه الله تعالى من خاف الله تعالى ذاب قلبه ، واشتد ، لله حبه ، وصح له لبه

وقال ذو النون أيضا ينبغي أن يكون الخوف أبلغ من الرجاء : فإذا غلب الرجاء تشوش القلب : وكان أبو الحسين الضرير يقول : علامة السعادة خوف الشقاوة : لأن الخوف زمام بين الله تعالى ، وبين عبده ، فإذا انقطع زمامه هلك مع الهالكين .

وقيل ليحيى بن معاذ من آمن الخلق غدا ؟ فقال : أشدهم خوفا اليوم :

وقال سهل رحمه الله لا تجد الخوف : حتى تأكل الحلال .

وقيل للحسن يا أبا سعيد كيف نصنع ؟ نجالس أقواما يخوفوننا حتى تكاد قلوبنا تطير : فقال والله إنك إن تخالط أقواما يخوفونك حتى يدركك ، أمن خير لك من أن تصحب قوما يؤمنونك حتى يدركك الخوف

وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله ما فارق الخوف قلبا إلا خرب

وقالت عائشة رضي الله عنها : قلت : يا رسول الله والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة هو الرجل يسرق ويزني قال : لا ، بل الرجل يصوم ، ويصلي ، ويتصدق ، ويخاف أن لا يقبل منه

.


[ ص: 209 ] (بيان فضيلة الخوف والترغيب فيه)

(اعلم أن فضل الخوف تارة يعرف بالتأمل والاعتبار، وتارة بالآيات والأخبار، أما الاعتبار فسبيله) أن تعرف (أن فضيلة الشيء بقدر غنائه في الإفضاء إلى سعادة لقاء الله تعالى؛ إذ لا مقصود سوى السعادة) إذ هي الغاية المطلوبة، (ولا سعادة للعبد إلا في لقاء مولاه، والقرب منه، فكل ما أعان عليه فله فضيلة، وفضيلته بقدر إعانته، وقد ظهر أنه لا وصول إلى سعادة لقاء الله في الآخرة إلا بتحصيل محبته، والأنس به في الدنيا) فيموت على ذلك. (ولا تحصل المحبة إلا بالمعرفة) لأنها فرعها فمن لم يعرف لم يحب، (ولا تحصل المعرفة إلا بدوام الفكر) في مشاهدة جلاله تعالى، (ولا يحصل الأنس إلا بالمحبة ودوام الذكر) لآلاء الله تعالى، (ولا يتيسر الذكر والفكر إلا بانقلاع حب الدنيا من القلب) وفراغه منه، (ولا ينقطع ذلك إلا بترك لذات الدنيا وشهواتها، ولا يمكن ترك المشتهيات إلا بقمع الشهوات) وكف النفس عنها، (ولا تنقمع الشهوة بشيء كما تنقمع بنار الخوف) ، فإذا عرفت منزلته من الدين فلا تتعداها (فالخوف هو النار المحرقة للشهوات) والمزيل لآثار آفتها (فإذا فضيلته بقدر ما يحرق من الشهوة، وبقدر ما يكف عن المعاصي، ويحث على الطاعات) وهو القدر الواجب منه، وأما استيلاؤه على القلب فهو مستحب .

(ويختلف ذلك باختلاف درجات الخوف كما سبق) قريبا، نعم؛ يستحب اكتسابه وتذكاره عند وجود أسبابه مثل قراءتك "ملك يوم الدين"، و"غير المغضوب عليهم"، وعند تذكر ما أعده الله للعصاة، وعند الكسوف، والخسوف، والصواعق، والزلازل، يكون هذا تعبدا لله تعالى، ولو كنت فيما هو أشرف منه كما تنتقل من قراءة القرآن إلى إجابة المؤذن من أجل أنها عبادة الوقت، فالعالم هو القائم بما هو أولى بالوقت. (وكيف لا يكون الخوف ذا فضيلة وبه تحصل العفة، والورع، والتقوى، والمجاهدة، وهي الأعمال الفاضلة المحمودة التي تقرب إلى الله زلفى) . وفي هذا القدر مقنع لأهل التأمل والاعتبار، وعبرة لأولي الأبصار .

(وأما بطريق الاقتباس من الآيات والأخبار فما ورد في فضيلة الخوف خارج عن الحصر) والإحصاء (وناهيك دلالة على فضيلته جمع الله تعالى للخائفين) ما فرقه على المؤمنين (بين الهدى، والعلم، والرحمة، والرضوان، وهي مجامع مقامات أهل الجنان، قال الله تعالى: هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون ) ، والرهبة من لواحق الخوف ومقام من مقاماته، (وقال تعالى: إنما يخشى الله من عباده العلماء ، فوصفهم بالعلم لخشيتهم) أي: جعل الخشية مقاما في العلم حققه بها، والخشية مقام من مقامات الخوف، وقال تعالى: وما يعقلها إلا العالمون ، فرفع العلم عن العقل، وجعله مقاما فيه، (وقال تعالى: رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه ) ، والخشية كما ذكر من مقامات الخوف، فخص الرضوان بأهل الخشية .

(وكل ما دل على فضيلة العلم دل على فضيلة الخوف؛ لأن الخوف ثمرة العلم) بالله تعالى، (ولذلك جاء في خبر موسى عليه السلام: وأما الخائفون فإن لهم الرفيق الأعلى لا يشاركون فيه) كذا في القوت، وهو من الإسرائيليات. (فانظر كيف أفردهم) من غير مشاركة (بمرافقة الرفيق الأعلى) كما حققهم اليوم بشهادة التصديق، وهذا مقام من النبوة فهم مع الأنبياء في الرتبة، (وذلك لأنهم العلماء، والعلماء لهم رتبة مرافقة الأنبياء؛ لأنهم ورثة الأنبياء) كما ورد بذلك الخبر، (ومرافقة الرفيق الأعلى للأنبياء ومن يلحق بهم) قال الله تعالى: فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين ، ثم قال في وصف [ ص: 210 ] منازلهم: وحسن أولئك رفيقا ، بمعنى رفقا عبر عن جماعتهم بالواحد؛ لأنهم كأنهم واحد، وقد يكون رفيقا مقام في الجنة لعلو عليين، وإليه أشار بقوله: (ولذلك لما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض موته بين البقاء في الدنيا، وبين القدوم على الله تعالى، كان يقول: أسألك الرفيق الأعلى) . قال العراقي: متفق عليه من حديث عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول وهو صحيح إنه لم يقبض نبي حتى يرى مقعده من الجنة، ثم يخير، فلما نزل به ورأسه في حجري غشي عليه ثم أفاق فأشخص بصره إلى سقف البيت ثم قال: اللهم الرفيق الأعلى، فعلمت أنه لا يختارنا، وعرفت أنه الحديث الذي كان يحدثنا وهو صحيح. الحديث، انتهى .

قلت: ورواه أحمد مختصرا، ورواه الترمذي في الشمائل مطولا، ثم جاء في خبر موسى عليه السلام: فأولئك لهم الرفيق الأعلى، فدل على أنهم مع الأنبياء بتفسير النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، وشرف مقامهم فوق كل مقام، لطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك .

(فأما إن نظر إلى مثمره) الذي هو السبب (فهو العلم) أو إلى حقيقته فالخشية، (وإن نظر إلى ثمرته فالورع والتقوى) والكف عما سوى الله (ولا يخفى ما ورد في فضائلهما) أي: الورع والتقوى. وبعد إذ فهمت سببه، وحقيقته، وثمرته، سهل عليك مسألة فضيلته (حتى إن العاقبة صارت موسومة بالتقوى، مخصوصة به، كما صار الحمد مخصوصا بالله تعالى والصلاة) مخصوصة (برسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى يقال: الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة على سيدنا محمد وآله أجمعين. وقد خصص الله التقوى بالإضافة إلى نفسه) تشريفا له، ومعنى وصله به، وأكرم عباده عليه، تعظيما له (فقال) في هذين المعنيين: ( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ، وإنما التقوى عبارة عن كف بمقتضى الخوف كما سبق، وقال تعالى: إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) . وفي القوت: والخوف اسم لحقيقة التقوى، والتقوى معنى جامع للعبادة، ينتظم هذا المعنى في قوله تعالى: يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون ، (ولذلك أوصى الله تعالى الأولين والآخرين بالتقوى، فقال: ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله ) ، وهذه الآية قطب القرآن لأن مدار القرآن كله على هذا (وقال عز وجل: وخافون إن كنتم مؤمنين ، فأمر بالخوف) منه (وأوجبه، وشرطه) . ولفظ الرسالة: والخوف من الله تعالى هو أن يخاف أن يعاقبه الله، إما في الدنيا، وإما في الآخرة، وقد فرض الله على العباد أن يخافوه، فقال: وخافون إن كنتم مؤمنين ، وقال: فإياي فارهبون .

(فلذلك لا يتصور أن ينفك مؤمن عن خوف، وعن ضعف، ويكون ضعف خوفه بحسب ضعف معرفته وإيمانه) كما أن قوة خوفه تكون بحسب قوة معرفته وإيمانه، (وقال صلى الله عليه وسلم في فضيلة التقوى: إذا جمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم ناداهم بصوت يسمع أقصاهم، كما يسمع أدناهم: يا أيها الناس إني قد أنصت لكم منذ خلقتكم إلى يومكم هذا فأنصتوا إلي اليوم، إنما هي أعمالكم ترد عليكم، أيها الناس إني جعلت نسبا، وجعلتم نسبا، فوضعتم نسبي، ورفعتم نسبكم، قلت: إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وأبيتم إلا أن تقولوا: فلان بن فلان، وفلان أغنى من فلان، فاليوم أضع نسبكم، وأرفع نسبي، ألا أين المتقون؟ فيرفع للقوم لواء فيتبع القوم لواءهم إلى منازلهم، فيدخلون الجنة بغير حساب) . قال العراقي: رواه الطبراني في الأوسط، والحاكم في المستدرك بسند ضعيف، والثعلبي في التفسير مقتصرا على آخره: إني جعلت نسبا... الحديث من حديث أبي هريرة اهـ .

قلت: ورواه كذلك ابن مردويه مطولا، ولفظ الحاكم: إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أمرتكم فضيعتم ما عهدت إليكم، ورفعتم أنسابكم، فاليوم أرفع نسبي، وأضع أنسابكم، أين المتقون؟ إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وقد صححه وتعقب، ورواه كذلك ابن مردويه، والبيهقي، وفي الباب عن علي حديثه عند الخطيب ولفظه: إذا كان يوم [ ص: 211 ] القيامة وقف العباد بين يدي الله تعالى غرلا بهما، فيقول الله تعالى: عبادي أمرتكم فضيعتم أمري، ورفعت أنسابكم فتفاخرتم بها، اليوم أضع أنسابكم، أنا الملك الديان، أين المتقون؟ أين المتقون؟ إن أكرمكم عند الله أتقاكم.

(وقال صلى الله عليه وسلم: رأس الحكمة) أي: أصلها وأسها (مخافة الله) ، وفي لفظ: خشية الله. قال العراقي: رواه ابن لال في مكارم الأخلاق، والبيهقي في الشعب، وضعفه من حديث ابن مسعود، ورواه في دلائل النبوة من حديث عقبة بن عامر، ولا يصح أيضا اهـ .

قلت: ورواه أيضا الحكيم في النوادر من حديث ابن مسعود. (وقال صلى الله عليه وسلم لابن مسعود: إن أردت أن تلقاني فأكثر من الخوف بعدي) . قال العراقي: لم أقف له على أصل. (وقال الفضيل) بن عياض رحمه الله تعالى: (من خاف الله دله الخوف على كل خير) أي: أرشده إلى كل ما فيه خير إما ظاهرا وإما باطنا. (وقال) أبو بكر (الشبلي) رحمه الله تعالى: (ما خفت الله يوما إلا رأيت له بابا من الحكمة والعبرة ما رأيته قط) فالحكمة هي أسرار المعارف المكتوبة، والعبرة اسم من الاعتبار. (وقال يحيى بن معاذ) الرازي رحمه الله تعالى: (ما من مؤمن يعمل سيئة إلا وتلحقه حسنتان، خوف العقاب، ورجاء العفو، كثعلب بين أسدين) فإن خاف منها محيت له، وإن أقدم على رجائه رحم له. (وفي خبر موسى عليه السلام: وأما الورعون فإنه لا يبقى أحد إلا ناقشته الحساب، وفتشت عما في يديه، إلا الورعين، فإني أستحييهم، وأجلهم، أن أوقفهم للحساب) . كذا في القوت. وروى الحكيم في النوادر من حديث ابن عباس: قال الله تعالى: يا موسى إنه لن يلقاني عبدي في حاضر القيامة إلا فتشته عما في يديه إلا ما كان من الورعين، فإني أستحييهم وأجلهم وأكرمهم وأدخلهم الجنة بغير حساب. ولم يتعرض له العراقي هنا لكونه من الإسرائيليات، وليس من المرفوع، لكن تقدم للمصنف في أوائل الكتاب هذا الخبر بعينه، وقال هناك وفي الخبر، ثم ساق هذا: وأما الورعون فإني أستحييهم، وقال العراقي: هناك لم أقف له على أصل، وقد دللناك على أصله .

(والورع والتقوى أسام اشتقت من معان شرطها الخوف، فإن خلا عن الخوف لم يسم بهذه الأسامي، وكذلك ما ورد في فضائل الذكر لا يخفى وقد جعله الله مخصوصا بالخائفين، فقال: سيذكر من يخشى ) والخشية من مقامات الخوف، ثم قال: ويتجنبها الأشقى ، أي يتجنب التذكرة الشقي، فجعل من عدم الخوف شقيا، وحرمه التذكرة، فخوف عموم المؤمنين بظاهر القلب عن ظاهر العلم بالعقد، وخوف خصوصهم وهم الموقنون بباطن القلب عن باطن العلم بالوجد، فأما خوف اليقين فهو للصديقين من شهداء العارفين عن مشاهدة ما أمر به من الصفات المخوفة. (وقال تعالى: ولمن خاف مقام ربه جنتان ، وقال صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين، ولا أجمع له أمنين، فإن أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة، وإذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة) .

قال العراقي: رواه ابن حبان في صحيحه، والبيهقي في الشعب من حديث أبي هريرة، ورواه ابن المبارك في الزهد، وابن أبي الدنيا في كتاب الخائفين، من رواية الحسن مرسلا اهـ .

قلت: وروى أبو نعيم في الحلية من حديث شداد بن أوس قال الله عز وجل: وعزتي وجلالي لا أجمع لعبدي أمنين ولا خوفين، إن هو أمنني في الدنيا أخفته يوم أجمع عبادي، وإن هو خافني في الدنيا أمنته يوم أجمع عبادي. وأما حديث أبي هريرة فقد رواه كذلك ابن المبارك في الزهد، وكلهم من رواية سلمة عنه، ومرسل الحسن رواه كذلك الحكيم في النوادر، ولكن لفظه: يقول الله: وعزتي، وعند ابن عساكر من حديث أنس: يقول الله عز وجل: وعزتي وجلالي، وارتفاعي فوق خلقي، لا أجمع على عبدي خوفين، ولا أجمع لعبدي أمنين، فمن خافني في الدنيا أمنته اليوم، ومن أمنني في الدنيا أخفته اليوم.

(وقال صلى الله عليه وسلم: من خاف الله تعالى خافه كل شيء ومن خاف غير الله خوفه الله من كل شيء) قال العراقي: رواه أبو الشيخ في كتاب الثواب من حديث أبي أمامة بسند ضعيف جدا ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب الخائفين بإسناد معضل، وقد تقدم اهـ. قلت: ورواه أبو الشيخ أيضا من حديث واثلة بلفظ: من خاف الله أخاف الله منه كل شيء، ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء. ورواه الحكيم بلفظ: من اتقى الله أخاف الله منه كل شيء، ومن لم يتق الله أهابه من كل شيء. ورواه عبد الرحمن بن محمد بن عبد الكريم الكرجي في أماليه والرافعي في تاريخه من حديث ابن عمر [ ص: 212 ] (وقال صلى الله عليه وسلم: أتمكم عقلا أشدكم خوفا لله تعالى، وأحسنكم فيما أمر الله به، ونهى عنه نظرا) . قال العراقي: لم أقف له على أصل، ولم يصح في فضل العقل شيء. (وقال يحيى بن معاذ) الرازي رحمه الله تعالى: (مسكين ابن آدم، لو خاف النار كما يخاف الفقر دخل الجنة) نقله القشيري في الرسالة؛ أي لأن خوفه من الفقر يحمله على أن يشح بما معه على نفسه وعياله، ويخل بقيامه بكثير من الواجبات كفرض ولده ووالده، وحق زكاته، ويقع في كثير من المحرمات لتحصيل المال، كالتلبيس، والغش في العيوب، وتعاطي المعاملات الفاسدة، فلو خاف من النار كما يخاف من الفقر لهرب من أسباب دخولها، وتعاطى أسباب دخول الجنة، ولما غلبت عليه الشهوات .

(وقال ذو النون) المصري رحمه الله تعالى: (من خاف الله ذاب قلبه، واشتد لله حبسه، وصح له لبه) وهو داخل القلب. (وقال) أيضا: (ينبغي أن يكون الخوف أبلغ من الرجاء) أي: في حال صحته، وقوة شبابه، (فإذا غلب الرجاء) في القلب (تشوش القلب) أي: اضطرب، وآل أمره إلى الفساد. ومثله قول الداراني: إذا غلب الرجاء على القلب فسد القلب. (وكان أبو الحسين الضرير) رحمه الله تعالى (يقول: علامة السعادة خوف الشقاوة) أي: مخافة أن تدركه (لأن الخوف زمام بين الله تعالى، وبين عبده، فإذا انقطع زمامه هلك مع الهالكين. وقيل ليحيى بن معاذ) الرازي رحمه الله تعالى: (من آمن الخلق غدا؟) أي: من أكثرهم أمنا في يوم القيامة (فقال: أشدهم خوفا اليوم) أي: في الدنيا. (وقال) أبو محمد (سهل) التستري رحمه الله تعالى: (لا تجد الخوف) أي: لا تكون خائفا خوفا حقيقيا (حتى تأكل الحلال. وقيل للحسن) البصري: (يا أبا سعيد) وهي كنية الحسن (كيف نصنع؟ نجالس أقواما يخوفوننا حتى تكاد قلوبنا تطير) أي: تزول من مواضعها من شدة الخوف (قال) الحسن: (والله إنك إن تخالط أقواما يخوفونك حتى يدركك الأمن، خير لك من أن تصحب قوما يؤمنونك حتى يدركك الخوف) . فيه استحسان لتغليب جانب الخوف على الرجاء. (وقال أبو سليمان الداراني) رحمه الله تعالى: (ما فارق الخوف قلبا إلا خرب) . قال القشيري: سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت الحسن بن أحمد الصفار يقول: سمعت محمد بن المسيب يقول: سمعت هاشم بن خالد يقول: سمعت أبا سليمان الداراني يقول ذلك، والمعنى أن الخوف درجات، ومن انتقل من مقام شريف إن لم يحذر مما يفسده عليه أو لا يكمل أو لا يرقيه إلى ما هو أعلى منه فسد عليه ما هو فيه فلا يستغني مقام عن الخوف .

(و) قال القشيري في الرسالة: أخبرنا علي بن أحمد الأهوازي أخبرنا أحمد بن عبيد حدثنا محمد بن عثمان حدثنا القاسم بن محمد حدثنا يحيى بن يمان عن مالك بن مغول عن عبد الرحمن بن سعيد بن وهب قال: (قالت عائشة رضي الله عنها: قلت: يا رسول الله) قوله تعالى ( والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أهو الرجل يسرق ويزني) ويشرب الخمر؟ (قال: لا، بل الرجل يصوم، ويصلي، ويتصدق، ويخاف ألا يقبل منه) . ففيه دليل على أن الخوف يكون مع كمال طاعة العبد، لكونه لا يعرف صحة عمله، ولا قبوله، لخفاء ما يطرق الأعمال من الآفات. قال العراقي: رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم، وقال: صحيح الإسناد، قلت: بل منقطع بين عائشة وعبد الرحمن بن سعيد بن وهب، قال الترمذي: وروي عن عبد الرحمن بن سعيد بن أبي حازم عن أبي هريرة اهـ .

قلت: لفظ الترمذي رواه كذلك الفريابي وأحمد وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في كتاب الخائفين، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب، واللفظ الثاني الذي أشار له الترمذي رواه ابن أبي الدنيا وابن جرير وابن الأنباري في المصاحف، وابن مردويه عن أبي هريرة: قالت عائشة: يا رسول الله والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة ، هم الذين يخطئون، ويعملون بالمعاصي؟... وفي لفظ: هو الذي يذنب الذنب، وهو وجل منه؟ قال: لا، ولكنهم الذين يصلون، ويصومون، ويتصدقون، وقلوبهم وجلة.

التالي السابق


الخدمات العلمية