إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
والقرآن من أوله إلى آخره مخاوف لمن قرأه بتدبر ولو لم يكن فيه إلا قوله تعالى : وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى لكان كافيا إذ علق المغفرة على أربعة شروط يعجز العبد عن ، آحادها وأشد منه قوله تعالى : فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين : وقوله تعالى : ليسأل الصادقين عن صدقهم وقوله تعالى : سنفرغ لكم أيه الثقلان ، وقوله : عز وجل أفأمنوا مكر الله الآية ، وقوله: : وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ، وقوله تعالى : يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ، الآيتين ، وقوله تعالى : وإن منكم إلا واردها ، الآية ، وقوله : اعملوا ما شئتم الآية ، وقوله : من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه الآية

قوله فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره الآيتين .

وقوله تعالى : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل الآية

وكذلك قوله تعالى : والعصر إن الإنسان لفي خسر إلى آخر السورة ، فهذه أربعة شروط للخلاص من الخسران وإنما كان خوف الأنبياء مع ما فاض عليهم من النعم لأنهم لم يأمنوا مكر الله تعالى ، فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون حتى روي أن النبي ، وجبريل ، عليهما الصلاة والسلام بكيا خوفا من الله ، تعالى فأوحى الله إليهما : لم تبكيان وقد أمنتكما ؟! فقالا : ومن يأمن مكرك ؟! .

وكأنهما إذ علما أن الله هو علام الغيوب ، وأنه لا وقوف لهما على غاية الأمور ، ولم يأمنا أن يكون قوله : قد أمنتكما ابتلاء وامتحانا لهما ومكرا بهما ، حتى إن سكن خوفهما ظهر أنهما قد أمنا من المكر ، وما وفيا بقولهما .

كما أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم لما وضع في المنجنيق قال : حسبي الله ، وكانت هذه من الدعوات العظام ، فامتحن ، وعورض بجبريل في الهواء ، حتى قال : ألك حاجة ؟ فقال : أما إليك فلا فكان ذلك وفاء بحقيقة قوله حسبي الله فأخبر الله تعالى عنه فقال : وإبراهيم الذي وفى أي بموجب قوله : حسبي الله وبمثل هذا أخبر عن موسى صلى الله عليه وسلم حيث قال : إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى . ومع هذا لما ألقى السحرة سحرهم أوجس موسى في نفسه خيفة ؛ ؛ إذ لم يأمن مكر الله والتبس الأمر عليه حتى جدد عليه الأمن وقيل له : لا تخف إنك أنت الأعلى ولما ضعفت شوكة المسلمين يوم بدر قال صلى الله عليه وسلم اللهم إن تهلك هذه العصابة لم يبق على وجه الأرض أحد يعبدك ، فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه : دع عنك مناشدتك ربك فإنه واف لك بما وعدك فكان مقام الصديق رضي الله عنه مقام الثقة بوعد الله ، وكان مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم مقام الخوف من مكر الله ؛ وهو أتم لأنه لا يصدر إلا عن كمال المعرفة بأسرار الله تعالى ، وخفايا أفعاله ، ومعاني صفاته التي يعبر عن بعض ما يصدر عنها بالمكر ، وما لأحد من البشر الوقوف على كنه صفات الله تعالى ، ومن عرف حقيقة المعرفة ، وقصور معرفته عن الإحاطة بكنه الأمور عظم خوفه لا محالة ؛ ولذلك قال المسيح صلى الله عليه وسلم لما قيل له : أأنت قلت : للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال : سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك .

وقال: إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم ، الآية .فوض الأمر إلى المشيئة وأخرج نفسه بالكلية من البين لعلمه بأنه ليس له من الأمر شيء وأن الأمور مرتبطة بالمشيئة ارتباطا يخرج عن حد المعقولات والمألوفات فلا يمكن الحكم عليها بقياس : ولا حدس ولا حسبان فضلا عن التحقيق والاستيقان وهذا هو الذي قطع قلوب العارفين إذ الطامة الكبرى هي ارتباط أمرك بمشيئة من لا يبالي بك إن أهلكك فقد أهلك أمثالك ممن لا يحصى ، ولم يزل في الدنيا يعذبهم بأنواع الآلام والأمراض ، ويمرض من ذلك قلوبهم بالكفر والنفاق ، ثم يخلد العقاب عليهم أبد الآباد ، ثم يخبر عنه ويقول : ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين .

وقال تعالى : وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم ، الآية .فكيف لا يخاف ما حق من القول في الأزل ، ولا يطمع في تداركه ، ولو كان الأمر آنفا لكانت الأطماع تمتد إلى حيلة ، فيه ولكن ليس إلا التسليم فيه واستقراء خفي السابقة من جلي الأسباب الظاهرة على القلب والجوارح ، فمن يسرت له أسباب الشر ، وحيل بينه وبين أسباب الخير ، وأحكمت علاقته من الدنيا فكأنه كشف له على التحقيق سر السابقة التي سبقت له بالشقاوة ؛ إذ كل ميسر لما خلق له وإن كانت الخيرات كلها ميسرة ، والقلب بالكلية عن الدنيا ، منقطعا وبظاهره وباطنه على الله مقبلا ، كان هذا يقتضي تخفيف الخوف لو كان الدوام على ذلك موثوقا به ، ولكن خطر الخاتمة ، وعسر الثبات ، يزيد نيران الخوف ، إشعالا ولا يمكنها من الانطفاء ، وكيف يؤمن تغير الحال ، وقلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن ؟! وإن القلب أشد تقلبا من القدر في غليانها وقد قال : مقلب القلوب عز وجل إن عذاب ربهم غير مأمون ، فأجهل الناس من أمنه ، وهو ينادي بالتحذير من الأمن ولو أن الله لطف بعباده العارفين ؛ إذ روح قلوبهم بروح الرجاء لاحترقت قلوبهم من نار الخوف .

فأسباب الرجاء رحمة لخواص الله وأسباب الغفلة رحمة على عوام الخلق من وجه إذ لو انكشف الغطاء لزهقت النفوس ، وتقطعت القلوب ، من خوف تقلب القلوب .

قال بعض العارفين : لو حالت بيني وبين من عرفته بالتوحيد خمسين سنة أسطوانة فمات لم أقطع له بالتوحيد لأني لا أدري ما ظهر له من التقلب .

وقال بعضهم : لو كانت الشهادة على باب الدار ، والموت على الإسلام عند باب الحجرة ، لاخترت الموت على الإسلام لأني لا أدري ما يعرض لقلبي بين باب الحجرة وباب الدار .

وكان أبو الدرداء يحلف بالله ما أحد آمن على إيمانه أن يسلبه عن الموت إلا سلبه .

وكان سهل يقول : خوف الصديقين من سوء الخاتمة عند كل خطوة وعند كل حركة وهم الذين وصفهم الله تعالى إذ قال : وقلوبهم وجلة .

ولما احتضر سفيان جعل يبكي ويجزع ، فقيل له : يا أبا عبد الله عليك بالرجاء ، فإن عفو الله أعظم من ذنوبك ، فقال : : أوعلى ذنوبي أبكي ؟! لو علمت أني أموت على التوحيد لم أبال بأن ألقى الله بأمثال الجبال من الخطايا .

وحكي عن بعض الخائفين أنه أوصى بعض إخوانه فقال: إذا حضرتني الوفاة فاقعد عند رأسي فإن رأيتني مت على التوحيد فخذ جميع ما أملكه فاشتر به لوزا وسكرا وانثره على صبيان أهل البلد ، وقل هذا عرس المنفلت وإن مت على غير التوحيد فأعلم الناس بذلك حتى لا يغتروا بشهود جنازتي ليحضر جنازتي من أحب على بصيرة لئلا يلحقني الرياء بعد الوفاة

فقال وبم أعلم ذلك ؟ فذكر له علامة فرأى علامة التوحيد عند موته فاشترى السكر واللوز وفرقه .


(والقرآن من أوله إلى آخره مخاوف لمن قرأ بتدبر) وتأمل (ولو لم يكن فيه إلا قوله تعالى: وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى لكان كافيا) في المقصود (إذ علق المغفرة) على (أربع شروط يعجز العبد عن أحادها وهي التوبة ثم الإيمان ثم العمل الصالح ثم الاهتداء، وأشد منه قوله تعالى: فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين ) أي: من وجدت فيه هذه الشروط الثلاثة فعسى ولعل أن يعد من زمرة أهل الفلاح أي الفوز والنجاة. (وقوله تعالى: ليسأل الصادقين عن صدقهم وقوله تعالى: سنفرغ لكم أيه الثقلان ، وقوله تعالى: أفأمنوا مكر الله الآية، وقوله تعالى: وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ، وقوله تعالى: يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ، الآيتين، وقوله تعالى: وإن منكم إلا واردها ، الآية، وقوله تعالى: اعملوا ما شئتم الآية، وقوله تعالى: من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه الآية، وقوله تعالى: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره الآيتين، وقوله تعالى: وقدمنا إلى ما عملوا من عمل الآية) .

فهذه المخاوف وهي من المحكمات ليس فيها أمر ولا زجر، وردت في السوابق الأول، والخواتم الأخر، وجاءت بالخبر عن قديم الخبر فيها سرائر الغيوب، وغرائب الفهوم، ومخاوف القلوب، وزواجر النفوس، وبصائر العقول، لمن كان له قلب، وهي من آي المطلع لأهل الإشراق على شرفات العرش والأعراف، (وكذا قوله تعالى: والعصر إن الإنسان لفي خسر إلى آخر السورة، فهذه أربعة شروط للخلاص من الخسران) ، وهي الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر .

(وإنما كان خوف الأنبياء مع ما فاض عليهم من النعم) الظاهرة والباطنة (لأنهم لم يأمنوا مكر الله تعالى، فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) . وقد كثرت الأخبار فيمن عبد الله واجتهد أكثر عمره ثم أحبط ذلك بعجب ساعة أو كلمة كبر أو بإزرائه على غيره، وجاءت الأخبار بأعمال ترفع إلى السماء، ويبنى بها الدرجات العلى ثم ينظر الله إلى صاحبها نظرة بعد أو يمقته فتهدم الدرجات، وتسقط المنازل (حتى روي) في الخبر المشهور (أن النبي صلى الله عليه وسلم، وجبريل عليه السلام، بكيا خوفا من الله عز وجل، فأوحى الله إليهما: لم تبكيان وقد أمنتكما؟! فقالا: ومن يأمن مكرك؟!) كذا في القوت. وقال العراقي: رواه الطبراني في الأوسط، وابن شاهين في شرح السنة، من حديث عمر، ورويناه في مجلس من أمالي أبي سعيد النقاش بسند ضعيف .

(وكأنهما إذ علما أن الله هو علام الغيوب، وأنه لا وقوف لهما على غاية الأمور، ولم يأمنا أن يكون قوله: قد أمنتكما ابتلاء وامتحانا ومكرا بهما، حتى إن سكن خوفهما ظهر أنهما قد أمنا من المكر، وما وفيا بقولهما) وعبارة القوت: فلولا أنهما علما أن مكره لا نهاية له لأن حكمه لا غاية لم يقولا: ومن يأمن مكرك؟! مع قوله: وقد أمنتكما، ولكن قد انتهى مكره بقوله: ولكانا قد وقفا على آخر مكره، لكن خافا من بقية المكر الذي هو غيب عنهما، وعلما أنهما لا يقفان على كنه غيب الله تعالى إذ هو علام الغيوب، فلا نهاية لعلام في علم، ولا غاية للغيوب بوصف، فلم يحكم عليهما القول لعنايته بهما، وفضل نظره لهما، ولأنهما على مزيد من معرفة الصفات؛ إذ المكر عن الوصف وإظهار القول لا يقضي على باطن الوصف، فكأنهما خافا أن يكون قوله عز وجل قد أمنتكما مكري مكرا منه بالقول على وصف مخصوص عن حكمه قد استأثر بعلمه يختبر بذلك حالهما، وينظر كيف يعملان تعبدا منه لهما به؛ إذ الابتلاء وصفه من قبل أن المبتلى اسمه قد يترك مقتضى وصفه لتحقيق اسمه، ولا يبدل سننه التي قد خلت في عباده .

(كما أن) خليله (إبراهيم صلى الله عليه وسلم) اختبره (لما وضع في المنجنيق) وأهوي به في الهواء (قال: حسبي الله، وكانت) هذه القولة (من [ ص: 228 ] الدعاوى العظام، فامتحن، وعورض بجبريل في الهواء، حتى قال: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا) فأثبت لنفسه حاجة كما هو مقتضى وصف الخلة، (فكان ذلك وفاء بمقتضى قوله حسبي الله) وصدق القول بالعمل (فأخبر الله تعالى عنه فقال: وإبراهيم الذي وفى أي بموجب قوله: حسبي الله) . ولأن الله تعالى لا يدخل تحت الأحكام، ولا يلزمه ما حكم به على الأنام، ولا يختبر صدقه تعالى، ولا يجوز أن يوصف بضد الصدق إن بدل الكلم هو بتبديل منه؛ لأن أحكامه وكلامه قائم به، فله أن يبدل منه به ما شاء بما شاء، وهو الصادق في الكلامين، العادل في الحكمين، الحاكم في الحالين؛ لأنه حاكم عليه، ولا حكم يلزمه فيه؛ لأنه قد جاوز العلوم والعقول التي هي أماكن للحدود من الأمر والنهي، وفات الرسوم التي هي أواسط الأحكام والأقدار، وفي مشاهدة ما ذكرنا علم دقيق من علوم التوحيد، ومقام رفيع من أحوال الموحد .

(وبمثل هذا) المعنى (أخبر عن) كليمه (موسى صلى الله عليه وسلم حيث قال: إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى ) يعني فرعون ( قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى . ومع هذا لما ألقى السحرة سحرهم أوجس موسى في نفسه خيفة؛ إذ لم يأمن مكر الله والتباس الأمر عليه) بأن يكون قد أسر عنه في غيبه، وقد استأثر عن نفسه تعالى ما لم يظهره له في القول، لمعرفته عليه السلام بخفي المكر، وباطن الوصف، ولعلمه أنه لم يعطه الحكم؛ إذ هو محكوم عليه مقهور، فخاف خوفا ثانيا (حتى جدد عليه الأمن) بحكم ثان (وقيل له: لا تخف إنك أنت الأعلى) لا تخف إنك من الآمنين، فاطمأن إلى القائل، ولم يسكن إلى الإظهار الأول لعلمه بسعة علمه إنه هو علام الغيوب التي لا نهاية لها، ولأن القول أحكام، والحاكم لا تحكم عليه الأحكام، كما لا تعود عليه الأحكام، وإنما تفصل الأحكام من الحاكم العلام، ثم تعود على الحكومات أبدا، ولأنه جلت قدرته لا يلزمه ما ألزم الخلق الذين هم تحت الحكم، ولا يدخل تحت معيار العقل والعلم، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .

(ولما ضعفت شوكة المسلمين يوم بدر قال صلى الله عليه وسلم) في دعائه: (اللهم إن تهلك هذه العصابة لم يبق على وجه الأرض أحد يعبدك، فقال أبو بكر رضي الله عنه: دع مناشدتك ربك فإنه واف لك بما وعدك) . قال العراقي: رواه من حديث ابن عباس بلفظ: اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم.. الحديث. (فكان مقام الصديق) رضي الله عنه (مقام الثقة بوعد الله، وكان مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم مقام الخوف من مكر الله؛ لأنه لم يصدر إلا عن كمال المعرفة بأسرار الله تعالى، وخفايا أفعاله، ومعاني صفاته التي يعبر عن بعض ما يصدر عنها بالمكر، وما لأحد من البشر الوقوف على كنه صفات الله تعالى، ومن عرف حقيقة المعرفة، و)عرف (قصور معرفته عن الإحاطة بكنه الأمور عظم خوفه لا محالة. ولذلك قال المسيح) عيسى بن مريم (صلى الله عليه وسلم لما قيل له: أأنت قلت: للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ) وقد علم أنه لم يقله، فلما عرض له بالقول فزع فخاف أن يكون قاله، وأن الله يؤاخذه به؛ إذ جعله سببا له (قال: إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ، وقال) مثل هذا في يوم القيامة ( إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم ، الآية. فوض الأمر إلى المشيئة) لعزته وحكمته .

(وأخرج نفسه بالكلية من البين لعلمه بأنه ليس له من الأمر شيء) وأن الله يتحكم في خلقه كيف شاء من غير سبب منهم (فإن الأمور مرتبطة بالمشيئة ارتباطا يخرج عن حد المعقولات والمألوفات فلا يمكن الحكم عليها بقياس وحدس) أي: تخمين (وحسبان، فضلا عن التحقيق والاستيقان وهذا هو الذي قطع قلوب [ ص: 229 ] العارفين) ؛ ولذلك لا يصلح أن يكشف حقيقة تفصيله في كتاب خشية الإنكار (إذ الطامة الكبرى هو ارتباط أمرك بمشيئة من لا يبالي بك إن أهلكك فقد أهلك أمثالك ممن لا يحصى، ولم يزل في الدنيا يعذبهم بأنواع الآلام والأمراض، ويمرض مع ذلك قلوبهم بالكفر والنفاق، ثم يخلد العقاب عليهم أبد الآباد، ثم يخبر عنه ويقول: ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ، وقال تعالى: وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم ، الآية. فكيف لا يخاف ما حق من القول في الأزل، ولا مطمع في تداركه، ولو كان الأمر آنفا) وفي نسخة معاينا (لكانت الأطماع تمتد إلى حيلة، ولكن ليس إلا التسليم واستقراء خفي أسباب السابقة من جلي الأسباب الظاهرة على القلب والجوارح، فمن يسرت له أسباب الشر، وحيل بينه وبين أسباب الخير، وأحكمت علاقته من الدنيا فكأنه كشف له على التحقيق سر السابقة التي سبقت له بالشقاوة؛ إذ كل ميسر لما خلق له) كما ورد ذلك في الخبر: اعملوا فكل ميسر لما خلق له.

(وإن كانت الخيرات كلها ميسرة، وكان القلب بالكلية منقطعا عن الدنيا، وبظاهره وباطنه على الله مقبلا، كان هذا يقتضي تخفيف الخوف لو كان الدوام على ذلك موثوقا به، ولكن خطر الخاتمة، وعسر الثبات، يزيد نيران الخوف اشتعالا، ولا يمكنها من الانطفاء، وكيف يؤمن تغيير الحال، وقلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن؟!) . روى الحاكم من حديث جابر: إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يقلبها كيف شاء، وقد تقدم في قواعد العقائد. (وأنه أشد تغلبا من القدر في غليانها) كما في الخبر، وتقدم في عجائب القلب. (وقد قال: مقلب القلوب) جل جلاله: (إن عذاب ربهم غير مأمون، فأجهل الناس من أمنه، وهو ينادي بالتحذير من الأمن) وأعلمهم من خاف في الأمن حتى يخرج من دار الخوف إلى مقام أمين، وهذا خوف لا يقوم له شيء، وكرب لا يوازي مقاما ولا عملا (لولا أن الله لطيف بعباده العارفين؛ إذ روح قلوبهم بروح الرجاء لاحترقت قلوبهم من نار الخوف) ولأخرجهم إلى القنوط، ولولا أنه روحها بروح الإنسان بحسن الظن لأدخلهم في اليأس، ولكن إذا كان هو المعدل والمروح كيف لا يعتدل الخوف والرجاء حكمة بالغة، وحكم نافذ، لعلم سابق، وقدر جار حقيقته ما شاء الله لا قوة إلا بالله .

(فأسباب الرجاء رحمة من الله تعالى) لعباده (وأسباب الغفلة رحمة على عوام الخلق من وجه إذ لو انكشف الغطاء لرهقت النفوس، وتقطعت القلوب، من خوف تقلب القلوب، قال بعض العارفين: لو حال بيني وبين من عرفته بالتوحيد خمسين سنة أسطوانة فمات لم أقطع له بالتوحيد لأني لا أدري ما ظهر له من التقلب) كذا في القوت. (وقال بعضهم: لو كانت الشهادة على باب الدار، والموت على الإسلام عند باب الحجرة، لاخترت الموت على الإسلام) دون الشهادة، قيل: ولم؟ قال: (لأني لا أدري ما يعرض لقلبي) من المشاهدة فيما (بين باب الحجرة وباب الدار) فيغيره عن التوحيد. كذا في القوت، قال: وروينا عن زهير بن نعيم البابي قال: ما أكثر همي ذنوبي، إنما أخاف ما هو أعظم علي من الذنوب، أن أسلب التوحيد، وأموت على غيره .

(وكان أبو الدرداء) رضي الله عنه (يحلف بالله ما أحد آمن على إيمانه أن يسلبه عند الموت إلا سلبه) ، وقال مرة: فما سلبه عبد فوجد له فقدا. قال صاحب القوت: فهذا على أمرين أحدهما [ ص: 230 ] أن يخفى ذلك عليه فلا يعلم بسلب إيمانه لخفي مكر الله به، والثاني أن يظلم قلبه ويسود لطول الغفلة وكثافة الرين، فلا يبالي بفقده؛ إذ قد هيأ قلبه على قلة المبالاة، وترك الاكتراث لذلك، فيهون لذلك عليه فقد الإيمان، وقد كان بعض العلماء يقول: من أعطي التوحيد أعطيه بكماله، ومن منعه منعه بكماله، إذا كان التوحيد في نفسه لا يتبعض .

(وكان) أبو محمد (سهل) التستري رحمه الله (يقول: خوف الصديقين من سوء الخاتمة عند كل خطوة) وهمة (وعند كل حركة) يخافون البعد من الله تعالى (وهم الذين وصفهم الله تعالى إذ قال:) ويؤتون ما أتوا ( وقلوبهم وجلة ) . ولفظ القوت: وهم الذين مدح الله وجلة قلوبهم، وقال أيضا: لا يصح خوفه حتى يخاف من الحسنات كما يخاف السيئات. وقال أيضا: أعلى الخوف أن يخاف سبق علم الله تعالى فيه، ويحذر أن يكون منه حدث خلاف السنة يجره إلى الكفر. وقال أيضا: خوف التعظيم ميراث خوف السابقة .

(ولما احتضر سفيان) الثوري رحمه الله تعالى (جعل يبكي ويجزع، فقيل له: يا أبا عبد الله عليك بالرجاء، فإن عفو الله أعظم من ذنوبك، فقال: أوعلى ذنوبي أبكي؟! لو علمت أني أموت على التوحيد لم أبال بأن ألقى الله بأمثال الجبال من الخطايا) . وقال مرة: ذنوبي أهون من هذا، ورفع حبة من الأرض، إنما أخاف أن أسلب التوحيد في آخر الوقت. وقد كان رحمه الله أحد الخائفين كما سيأتي في الحكايات .

(وحكي عن بعض الخائفين) ولفظ القوت: وحدثني بعض إخواني عن بعض الصادقين وكان خائفا (أنه أوصى بعض إخوانه) فقال: (إذا حضرتني الوفاة فاقعد عند رأسي) فإذا عاينت فانظر إلي (فإن رأيتني مت على التوحيد فخذ جميع ما أملكه فاشتر به لوزا وسكرا وانثره على صبيان أهل البلد، وقل هذا عرس المتفلت) الحاذق (وإن مت على غير التوحيد فأعلم الناس) أني مت على غير الإسلام (حتى لا يغتروا بشهود جنازتي ليحضر جنازتي من أحب على بصيرة لئلا يلحقني الرياء بعد الموت) فأكون قد خدعتهم حيا وميتا، (قال) له صاحبه: ( وبم أعلم ذلك؟ فذكر له علامة) وهي أنه قال له: ضع إصبعك في كفي فإن أمسكتها وشددت عليها فاعلم أني قد مت على التوحيد، وإن أرسلتها ونبذتها فاعلم أن حالي سيئة ففعل، (فرأى علامة التوحيد عند موته) بأن قبض على إصبعه، وشدها، فلم يخرجها من كفه إلا بعد موته، قال فنفذ وصيته (فاشترى السكر واللوز وفرقه عند موته) كما أمر، قال: ولم أحدث بذلك أحدا إلا خصوص إخواني من العلماء. وذلك أن العبد مهما عمل في حياته من سوء أعيد ذكره عليه عند فراق الحياة، وقلب قلبه فيه، وأشهد وجده إياه عند آخر ساعة من وفاته، فإن استحلى ذلك بقلبه واستهوته نفسه وقف معه، وسكن إليه، فإذا وقف معه حسب عليه وجعل عملا من أعماله، إلا أنه من أعمال القلوب في الوقت، وقد تقدم سعيه فيه وهواه قبل الوقت، وكان ذلك فأتبع سببا، وإن قل وكان هو الخاتمة فسبحان متيح الأسباب، وجاعلها أبوابا، ومقيض القرناء وجاعلها حجابا .

التالي السابق


الخدمات العلمية