إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ولما قرأ عمر رضي الله عنه إذا الشمس كورت وانتهى إلى قوله تعالى : وإذا الصحف نشرت خر مغشيا عليه .

ومر يوما بدار إنسان وهو يصلي ويقرأ سورة " والطور "، فوقف يستمع فلما بلغ قوله : تعالى إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع نزل عن حماره واستند إلى حائط ومكث زمانا ورجع إلى منزله فمرض شهرا يعوده الناس ولا يدرون ما مرضه .

وقال علي كرم الله وجهه وقد سلم من صلاة الفجر وقد علاه كآبة وهو يقلب يده لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلم أر اليوم شيئا يشبههم لقد كانوا يصبحون شعثا صفرا غبرا بين أعينهم أمثال ركب المعزى قد باتوا لله سجدا وقياما يتلون كتاب الله يراوحون بين جباههم وأقدامهم فإذا أصبحوا ذكروا الله فمادوا كما يميد الشجر في يوم الريح وهملت أعينهم بالدموع حتى تبل ثيابهم والله فكأني بالقوم باتوا غافلين ثم قام فما رئي بعد ذلك ضاحكا حتى ضربه ابن ملجم .

وقال عمران بن حصين وددت أن أكون رمادا تنسفني الرياح في يوم عاصف .

وقال أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه

وددت أني كبش فيذبحني أهلي فيأكلون لحمي ويحسون مرقي .

وكان علي بن الحسين رضي الله عنه إذا توضأ اصفر لونه فيقولون له أهله : ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء ؟ فيقول : أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم

قال موسى بن مسعود كنا إذا جلسنا إلى الثوري كأن النار قد أحاطت بنا لما نرى من خوفه وجزعه .

وقرأ مضر القارئ يوما هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق الآية فبكى عبد الواحد بن زيد حتى غشي عليه فلما أفاق قال : وعزتك لا عصيتك جهدي أبدا فأعني بتوفيقك على طاعتك

وكان المسور بن مخرمة لا يقوى أن يسمع شيئا من القرآن لشدة خوفه ، ولقد كان يقرأ عنده الحرف والآية فيصيح الصيحة فما يعقل أياما حتى أتى عليه رجل من خثعم فقرأ عليه يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا فقال : أنا من المجرمين ولست من المتقين ، أعد علي القول أيها القارئ ، فأعادها عليه فشهق شهقة فلحق بالآخرة .

وقرئ عند يحيى البكاء ولو ترى إذ وقفوا على ربهم فصاح صيحة مكث منها مريضا أربعة أشهر يعاد من أطراف البصرة .


(ولما قرأ عمر - رضي الله عنه - إذا الشمس كورت وانتهى إلى قوله تعالى: وإذا الصحف نشرت خر مغشيا عليه، ومر يوما بدار إنسان وهو يصلي ويقرأ سورة "والطور"، فوقف يسمع فلما بلغ قوله: إن عذاب ربك لواقع * ما له من دافع نزل عن حماره واستند إلى حائط ومكث زمانا) يتأمل فيه (ورجع إلى منزله فمرض شهرا يعوده [ ص: 251 ] الناس ولا يدرون ما مرضه) ، ومثل هذا من أحوال عمر - رضي الله عنه - معروف، روى ابن جريج عن ابن أبي مليكة أخبرني علقمة بن وقاص قال: كان عمر يقرأ في العشاء الآخرة سورة يوسف وأنا في مؤخر الصف حتى إذا ذكر يوسف سمعت نشيجه. وعن عبد الله بن شداد قال: سمعت عمر يقرأ في الصبح بسورة يوسف فسمعت نشيجه، وإني لفي آخر الصفوف وهو يقرأ: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وعن ابن عمر قال: سمعت خنين عمر من وراء ثلاث صفوف.

(وقال علي - كرم الله وجهه - وقد سلم من صلاة الفجر وقد علاه كآبة) أي: تغير لونه من غم (وهو يقلب يده) ظهرا لبطن (لقد رأيت أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فلم أر اليوم شيئا يشبههم لقد كانوا يصبحون شعثا صفرا غبرا بين أعينهم أمثال ركب المعزى) أي: من أثر السجود (قد باتوا لله سجدا وقياما يتلون كتاب الله يراوحون بين جباههم وأقدامهم فإذا أصبحوا ذكروا الله فمادوا) أي: اهتزوا (كما تميد الشجرة في يوم الريح) أي: تهتز يمينا وشمالا (وهملت أعينهم الدموع حتى تبل ثيابهم والله كأني بالقوم باتوا غافلين) أي: عن ذكر الله تعالى (ثم قام) من موضعه (فما رئي بعد ذلك ضاحكا حتى ضربه ابن ملجم) عبد الرحمن المرادي .

رواه أبو نعيم في الحلية فقال: حدثنا محمد بن جعفر وعلي بن أحمد قالا: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا محمد بن يزيد أبو هاشم، حدثنا المحاربي عن مالك بن مغول عن رجل من جعفى عن السدي عن أبي أراكة قال: صلى علي الغداة ثم لبث في مجلسه حتى ارتفعت الشمس قيد رمح كان عليه كآبة، ثم قال: لقد رأيت أثرا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما أرى أحدا يشبههم، والله إن كانوا ليصبحون شعثا غبرا صفرا بين أعينهم مثل ركب المعزى، قد باتوا يتلون كتاب الله، يراوحون بين أقدامهم وجباههم إذا ذكر الله مادوا كما تميد الشجرة في يوم ريح فانهملت أعينهم حتى تبل والله ثيابهم، والله لكأن القوم باتوا غافلين.

(وقال عمران بن الحصين) - رضي الله عنه -: (وددت أني أكون رمادا تنسفني الرياح في يوم عاصف) وقد روي مثل ذلك عن ابن مسعود قال: ليتني أني أكون رمادا، وفي رواية عنه: ليتني كنت بعرة ليتني لم أك شيئا، وقد تقدم قريبا، (وقال أبو عبيدة) عامر (بن الجراح) - رضي الله عنه - (وددت أني كبش فيذبحني أهلي فيأكلون لحمي ويحسون مرقي) .

هذا قد روي عن عمر - رضي الله عنه - رواه هناد في الزهد من طريق الضحاك قال: قال عمر: ليتني كنت كبش أهلي سمنوني ما بدا لهم حتى إذا كنت أسمن ما أكون زارهم بعض من يحبون فجعلوا بعضي شواء وبعضي قديدا ثم أكلوني فأخرجوني عذرة ولم أك بشرا.

(وكان) زين العابدين (علي) بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - (إذا توضأ اصفر لونه فيقول له أهله: ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء؟ فيقول: أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم) رواه أبو نعيم في الحلية فقال: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا محمد بن زكريا الغلابي، حدثنا العتبي، حدثنا أبي قال: كان علي بن الحسين إذا فرغ من وضوئه وصار بين وضوئه وصلاته أخذته رعدة ونفضة فقيل له في ذلك فقال: ويحكم، أتدرون إلى من أقوم؟ ومن أريد أن أناجي؟ وقد روي مثل ذلك عن عطاء السليمي أخرجه أبو نعيم في الحلية .

(وقال موسى بن مسعود) أبو حذيفة النهدي البصري قال العجلي: ثقة صدوق. وقال ابن أبي حاتم سألت أبي عنه فقال: صدوق معروف بالثوري تزوج أمة لما قدم البصرة مات سنة عشرين ومائتين وله اثنتان وتسعون سنة، روى عنه البخاري وروى له أبو داود والترمذي وابن ماجه: (كنا إذا جلسنا إلى سفيان الثوري كأن النار قد أحاطت بنا لما نرى من خوفه وجزعه) أخرجه أبو نعيم في الحلية .

(وقرأ مضر القارئ يوما) قوله تعالى: ( هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون فبكى عبد الواحد بن زيد حتى غشي عليه فلما أفاق قال: وعزتك لا عصيتك جهدي أبدا فأعني بتوفيقك على عبادتك) قال أبو نعيم في الحلية: حدثنا أبو محمد بن حيان، حدثنا علي بن سعيد، حدثنا محمد بن إدريس، حدثنا عبد الله بن عبيد عن مضر القارئ قال: سمعت عبد الواحد بن زيد يقول: [ ص: 252 ] وعزتك ما أعلم لمحبتك فرجا دون لقائك والاشتفاء من النظر إلى جلال وجهك في دار كرامتك فيا من أحل الصادقين محل الكرامة وأورث البطالين منزل الندامة اجعلني ومن حضرني من أفضل أوليائك زلفا، وأعظمهم منزلة وقربة تفضلا منك علي وعلى إخواني يوم تجزي الصادقين بصدقهم جنات قطوفها دانية متدلية عليهم ثمرها.

(وكان المسور بن مخرمة) بن نوفل القرشي أبو عبد الرحمن الزهري له ولأبيه صحبة وأمه الشفاء بنت عوف أخت عبد الرحمن بن عوف توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثمان سنين، ومات بمكة في فتنة ابن الزبير سنة أربع وسبعين وهو يومئذ ابن ثلاث وستين روى له الجماعة (لا يقوى أن يسمع القرآن لشدة خوفه، ولقد كان يقرأ عنده الحرف والآية فيصيح الصيحة فما يعقل أياما حتى أتى عليه رجل من خثعم) بن أنمار (فقرأ عليه) قوله تعالى: ( يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا * ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا فقال: أنا من المجرمين ولست من المتقين، أعد علي القول أيها القارئ، فعاد عليه فشهق شهقة فلحق بالآخرة) ، هكذا ذكره المصنف في سبب موته والذي ثبت من قول عمرو بن علي الفلاس أنه أصابه المنجنيق في فتنة ابن الزبير وهو يصلي في الحجر، فمكث خمسة أيام، ثم مات، فلعل هذه القصة إن صحت كانت في أثناء هذه الأيام الخمسة أو حصل التصحيف من النساخ في صاحب القصة .

(وقرئ عند يحيى البكاء) هو يحيى بن مسلم أو ابن سليم مصغرا وهو ابن أبي خلية البصري المعروف بالبكاء لكثرة بكائه الحداني مولاهم ضعيف مات سنة ثلاثين ومائة روى له الترمذي وابن ماجه وله ذكر في الحلية في ترجمة محمد بن واسع أخرج من طريق حماد بن زيد قال: دخلنا على محمد بن واسع نعوده في مرضه فجاء يحيى البكاء يستأذن عليه فقالوا: يا أبا عبد الله هذا أخوك أبو سلمة على الباب قال: من أبو سلمة قالوا: يحيى، قال: من يحيى؟ قالوا: يحيى البكاء، قال حماد وقد علم أنه يحيى البكاء فقال: إن شر أيامكم يوم نسبتم إلي البكاء ( ولو ترى إذ وقفوا على ربهم ) الآية (فصاح صيحة ومكث منها مريضا أربعة أشهر يعاد من أطراف البصرة) أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الخائفين .

التالي السابق


الخدمات العلمية