إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان أحوال السائلين .

كان بشر : رحمه الله يقول : الفقراء ثلاثة : فقير لا يسأل وإن أعطي لا يأخذ فهذا مع الروحانيين في عليين .

وفقير لا يسأل وإن أعطي أخذ فهذا مع المقربين في جنات الفردوس .

وفقير يسأل عند الحاجة فهذا مع الصادقين من أصحاب اليمين .

فإذا قد اتفق كلهم على ذم السؤال وعلى أنه مع الفاقة يحط المرتبة والدرجة .

قال شقيق البلخي لإبراهيم بن أدهم حين قدم عليه من خراسان : كيف تركت الفقراء من أصحابك ؟ قال : تركتهم إن أعطوا شكروا وإن منعوا صبروا وظن أنه لما وصفهم بترك السؤال قد أثنى عليهم غاية الثناء ، فقال شقيق : هكذا تركت كلاب بلخ عندنا فقال له إبراهيم : فكيف الفقراء عندك يا أبا إسحاق ؟ فقال : الفقراء عندنا إن منعوا شكروا وإن أعطوا آثروا فقبل رأسه وقال : صدقت يا أستاذ .

فإذا درجات أرباب الأحوال في الرضا والصبر والشكر والسؤال كثيرة فلا بد لسالك طريق الآخرة من معرفتها ومعرفة انقسامها واختلاف درجاتها ، فإنه إذا لم يعلم لم يقدر على الرقي من حضيضها إلى قلاعها ومن أسفل سافلين إلى أعلى عليين وقد خلق الإنسان في أحسن تقويم ثم رد إلى أسفل سافلين ثم أمر أن يترقى إلى أعلى عليين ومن لا يميز بين السفل والعلو لا يقدر على الرقي قطعا ، وإنما الشك فيمن عرف ذلك فإنه ربما لا يقدر عليه وأرباب الأحوال قد تغلبهم حالة تقتضي أن يكون السؤال مزيدا لهم في درجاتهم ولكن بالإضافة إلى حالهم فإن مثل هذه الأعمال بالنيات وذلك كما روي أن بعضهم رأى أبا إسحاق النوري رحمه الله يمد يده ويسأل الناس في بعض المواضع قال فاستعظمت ذلك واستقبحته له فأتيت الجنيد رحمه الله فأخبرته بذلك فقال : لا يعظم هذا عليك فإن النوري لم يسأل الناس إلا ليعطيهم وإنما سألهم ليثيبهم في الآخرة فيؤجرون من حيث لا يضرهم .

وكأنه أشار به إلى قوله : صلى الله عليه وسلم : يد المعطي هي العليا فقال بعضهم : يد المعطي هي يد الآخذ للمال ؛ لأنه يعطى الثواب والقدر له لا لما يأخذه ثم قال الجنيد هات الميزان فوزن مائة درهم ثم قبض قبضة فألقاها على المائة ثم قال : احملها إليه فقلت : في نفسي إنما يوزن الشيء ليعرف مقداره فكيف خلط به مجهولا ، وهو رجل حكيم واستحييت أن أسأله ، فذهبت بالصرة إلى النوري فقال : هات الميزان فوزن مائة درهم وقال : ردها عليه ، وقل له : أنا لا أقبل منك أنت شيئا ، وأخذ ما زاد على المائة ، قال فزاد تعجبي فسألته فقال الجنيد رجل حكيم يريد أن يأخذ الحبل بطرفيه وزن المائة لنفسه طلبا لثواب الآخرة وطرح عليها قبضة بلا وزن لله : عز وجل : فأخذت ما كان لله تبارك وتعالى ورددت ما جعله لنفسه ، قال فرددتها إلى الجنيد فبكى وقال : أخذ ماله ، ورد مالنا الله ، المستعان فانظر الآن كيف صفت قلوبهم وأحوالهم وكيف خلصت لله أعمالهم حتى كان يشاهد كل واحد منهم قلب صاحبه من غير مناطقة باللسان ، ولكن بتشاهد القلوب وتناجي الأسرار ، وذلك نتيجة أكل الحلال ، وخلو القلب عن حب الدنيا ، والإقبال على الله تعالى بكنه الهمة فمن أنكر ذلك قبل تجربة طريقه فهو جاهل كمن ينكر مثلا كون الدواء مسهلا قبل شربه .

ومن أنكره بعد أن طال اجتهاده حتى بذل كنه مجهوده ولم يصل فأنكر ذلك لغيره كان كمن شرب المسهل فلم يؤثر في حقه خاصة لعلة في باطنه فأخذ ينكر كون الدواء مسهلا ، وهذا وإن كان في الجهل دون الأول ولكنه ليس خاليا عن حظ واف من الجهل بل البصير أحد رجلين إما رجل سلك الطريق فظهر له مثل ما ظهر لهم ، فهو صاحب الذوق والمعرفة وقد وصل إلى عين اليقين وإما رجل لم يسلك الطريق أو سلك ولم يصل ولكنه آمن بذلك وصدق به فهو صاحب علم اليقين وإن لم يكن واصلا إلى عين اليقين .

ولعلم اليقين أيضا رتبة وإن كان دون عين اليقين ، ومن خلا عن علم اليقين وعين اليقين فهو خارج عن زمرة المؤمنين ، ويحشر يوم القيامة في زمرة الجاحدين المستكبرين الذين هم قتلى القلوب الضعيفة ، وأتباع الشياطين .

فنسأل الله تعالى أن يجعلنا من الراسخين في العلم القائلين : آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب .


(بيان أحوال السائلين )

من السالكين (كان بشر) بن الحارث الحافي (- رحمه الله تعالى - يقول: الفقراء ثلاثة: فقير لا يسأل وإن أعطي لا يأخذ فهذا مع الروحانيين في عليين) لكمال تجرده عن العلائق، (وفقير لا يسأل وإن أعطي أخذ) على قدر حاجته ورد الباقي (فهذا من المقربين في جنات الفردوس) وهو أنزل درجة من الأول (وفقير يسأل عند الحاجة) وفي نسخة: عند فاقته (فهذا مع الصادقين من أصحاب اليمين) وهو أنزل درجة من الذي قبله .

وهذا القول رواه القشيري في الرسالة في باب التوكل، فقال: سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن الحسن المخرمي يقول: حدثنا أحمد بن محمد بن صالح، حدثنا محمد بن عبدون، حدثنا الحسن الخياط قال: كنت عند بشر الحافي فجاء نفر فسلموا عليه فقال: من أنتم؟ ثم ساق القصة وفي آخرها، ثم قال بشر: أحسن الفقراء ثلاثة: فقير لا يسأل وإن أعطي لا يأخذ، فذاك من جملة الروحانيين، وفقير لا يسأل وإن أعطي قبل فذاك توضع له موائد في حظائر القدس، وفقير يسأل وإن أعطي قبل قدر الكفاية فكفارته صدقته (فإذا قد اتفق كلهم على ذم السؤال) مطلقا (وعلى أنه مع الحاجة يحط المرتبة والدرجة) ثم هذا الذي يسأل لنفسه أو لغيره فإن سأل لغيره فهو معونة، وإن سأل لنفسه فلا يخلو من أن يسأل الأقارب والأصدقاء أو سائر الناس. الأول طريق القوم، والثاني حرام، وقد تقدم تفصيل ذلك قال (شقيق) بن إبراهيم (البلخي) - رحمه الله تعالى - (لإبراهيم بن أدهم) - رحمه الله تعالى - (حين قدم عليه من خراسان: كيف تركت الفقراء من أصحابك؟ قال: تركتهم إن أعطوا أنكروا وإن منعوا) من الإعطاء (صبروا وظن أنه لما وصفهم بترك السؤال فقد أثنى عليهم غاية الثناء، فقال شقيق: هكذا تركت كلاب بلخ عندنا) إن أعطوا أكلوا وشكروا، وإن منعوا صبروا، (فقال له إبراهيم: فكيف الفقراء عندك يا أبا إسحاق؟ فقال: الفقراء عندنا إن منعوا شكروا) وعلموا أن المنع منة من الله عليهم لئلا يشغلهم بسواه، (وإن أعطوا آثروا) غيرهم على أنفسهم ولم يتعلقوا بما لاح لهم من العطاء (فقبل رأسه وقال: صدقت يا أستاذ) ، هكذا سياق هذه القصة في النسخة، وهو مزال عن الأصل، والصواب أن السائل هو إبراهيم والمسئول هو شقيق، وقوله: فقال شقيق، صوابه: فقال إبراهيم، وقوله: فقال إبراهيم، صوابه: [ ص: 312 ] فقال له شقيق. بدليل قوله: يا أبا إسحاق، فإنه كنية إبراهيم، وأما كنية شقيق فأبو علي.

وقد رواه أبو نعيم في الحلية على الصواب حيث قال: سمعت أبا القاسم عبد السلام بن محمد المخرمي البغدادي الصوفي يقول: حدثني أحمد بن محمد الخزاعي عن حذيفة المرعشي قال: دخلنا مكة مع إبراهيم بن أدهم فإذا شقيق البلخي قد حج تلك السنة فاجتمعنا في شق الطواف فقال إبراهيم لشقيق: على أي شيء أصلتم أصلكم؟ فقال: أصلنا أصلنا على أنا إذا رزقنا أكلنا، وإذا منعنا صبرنا، فقال إبراهيم: هكذا هكذا تفعل كلاب بلخ، فقال له شقيق: فعلام أصلتم؟ قال: أصلنا على أنا إذا رزقنا آثرنا، وإذا منعنا شكرنا وحمدنا، فقام شقيق فجلس بين يدي إبراهيم فقال: يا أستاذ، أنت أستاذنا.

ثم راجعت نسخة أخرى من الكتاب صحيحة بخط العجم فإذا فيها على الصواب كما أشرت إليه، وقال إبراهيم بن أدهم لشقيق حين قدم عليه فساقها، وفيه فقال إبراهيم: هكذا تركت كلاب بلخ، وفيه فقال له شقيق: فكيف الفقراء عندك يا أبا إسحاق، وذكر القشيري في باب الفتوة من الرسالة هذه القصة لشقيق مع جعفر الصادق، فقال: وقيل: سأل شقيق البلخي جعفر بن محمد عن الفتوة فقال: ما تقول أنت؟ فقال: إن أعطينا شكرنا وإن منعنا صبرنا، فقال جعفر: الكلاب عندنا بالمدينة كذلك تفعل، فقال شقيق: يا ابن رسول الله، ما الفتوة عندكم؟ قال: إن أعطينا آثرنا، وإن منعنا شكرنا. وفي بعض النسخ: فقال شقيق: الله أعلم حيث رسالته.

(فإذا درجات أرباب الأحوال) من السالكين (في الرضا والصبر والشكر والسؤال) والإيثار والفتوة (كثيرة) مختلفة (فلا بد لسالك طريق الآخرة من معرفتها ومعرفة انقسامها ودرجاتها، فإنه إذا لم يعلم لم يقدر في الرقي من حضيضها إلى يفاعها) أي: ذروتها (ومن أسفل السافلين إلى أعلى عليين وقد خلق الإنسان في أحسن تقويم) بنص القرآن (ثم رد إلى أسفل سافلين) بنص القرآن أيضا (ثم أمر أن يترقى إلى أعلى عليين ومن لا يميز بين السفل والعلو لا يقدر على الترقي مطلقا، وإنما الشك فيمن عرف ذلك فإنه ربما يقدر عليه) فالترقي تابع للمعرفة والتمييز .

(وأرباب الأحوال) في أثناء سلوكهم (قد تغلبهم حالة تقتضي أن يكون السؤال مزيدا لهم في درجاتهم) في بعض الأحيان وبعض المواطن (فإن مثل هذه الأعمال) لا يطلع عليها وهي مربوطة (بالنيات) ففي الخبر: إنما الأعمال بالنيات.

(وذلك كما روي أن بعضهم رأى أبا الحسن) أحمد بن محمد (النوري) - رحمه الله تعالى - بغدادي المولد والمنشأ بغوي الأصل وكان من أقران الجنيد وكان كبير الشأن مات سنة خمس وتسعين ومائتين (يمد يده ويسأل الناس في بعض المواطن قال) الرائي: (فاستعظمت ذلك واستقبحته له) أي: عددته قبيحا من مثله (فأتيت الجنيد) - رحمه الله تعالى - (فأخبرته بذلك فقال: لا يعظم هذا عليك) ولا تتعجب منه (فإن النوري لم يسأل الناس إلا ليعطيهم) لا ليأخذ منهم، فإنه في غنى عن ذلك (إنما سألهم ليثيبهم من الآخرة فيؤجرون من حيث لا يضره) .

قال المصنف: (وكأنه) أي: الجنيد (أشار) بذلك (إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: يد المعطي هي العليا) قال العراقي: رواه مسلم من حديث أبي هريرة. اهـ .

قلت: وروى الطيالسي والنسائي والبغوي وابن قانع والباوردي والطبراني والبيهقي والضياء من حديث ثعلبة ابن زهدم الحنظلي: يد المعطي العليا، وابدأ بمن تعول، ورواه أحمد والطبراني أيضا من حديث أبي رمثة، ورواه النسائي أيضا وابن حبان والحاكم من حديث طارق المحاربي، ورواه أحمد أيضا من حديث رجل من بني يربوع (فقال بعضهم: يد المعطي هي يد الآخذ للمال; لأنه يعطي الثواب والقدر له لا لما يأخذه) وظاهر هذا ما يخالفه ما رواه الطبراني من حديث رافع بن خديج: يد المعطي العليا، ويد الآخذ السفلى إلى يوم القيامة. وما رواه مالك والشيخان والنسائي من حديث بن عمر: واليد العليا المنفقة واليد السفلى هي السائلة. إلا أن يقال: إن المراد بالمعطي الآخذ إذا كان من غير سؤال، والآخذ بالسؤال هو الذي اقتضى كون يده سفلى، وهو وجيه إلا أنه لا يطابق واقعة حال النوري فتأمل .

(ثم قال الجنيد) - رحمه الله تعالى - (هات الميزان فوزن مائة درهم ثم قبض قبضة) من الدراهم (فألقاها على المائة) جزافا (ثم قال: احملها إليه) أي: إلى النوري (فقلت: في نفسي إنما يوزن الشيء ليعرف مقداره فكيف خلط به مجهولا، وهو رجل حكيم واستحييت أن [ ص: 313 ] أسأله، فذهبت بالصرة إلى النوري) فاستشرف (على) باطن (الأمر فقال: هات الميزان فوزن مائة درهم وقال: ردها عليه، وقل له: أنا لا أقبل منك شيئا، وأخذ ما زاد على المائة، قال) الرجل: (فزاد تعجبي فسألته) يعني النوري (فقال) أبو القاسم: (الجنيد رجل حكيم يريد أن يأخذ الحبل بطرفيه وزن المائة لنفسه طلبا لثواب الآخرة وطرح عليها قبضة بلا وزن لله - عز وجل - فأخذت ما كان لله تعالى ورددت ما جعله لنفسه، قال فرددتها) أي: الصرة المذكورة (إلى الجنيد) - رحمه الله تعالى - (فبكى وقال: أخذ ما له، ورد ما لنا، والله المستعان) .

أي: فمن كان بهذه المثابة من المعرفة والاستشراف على الخواطر كيف لا يكون السؤال مزيدا في درجاته (فانظر الآن كيف صفت قلوبهم وأحوالهم وكيف خلصت لله أعمالهم حتى كان يشاهد كل واحد قلب صاحبه من غير مناطقة باللسان، ولكن بتشاهد القلوب وتناجي الأسرار، وذلك نتيجة أكل الحلال، وخلو القلب عن حب الدنيا، والإقبال على الله بكنه الهمة) أي: خالصا (فمن أنكر ذلك قبل تجربة طريقه فهو جاهل) وهو (كمن ينكر مثلا كون الدواء مسهلا) للبطن (قبل شربه) واستعماله (ومن أنكره بعد أن طال اجتهاده حتى بذل كنه مجهوده ولم يصل فأنكر ذلك لغيره كان كمن شرب المسهل فلم يؤثر في حقه خاصة لعلة في باطنه) كاليبس البالغ وتحجر المعدة (وأخذ ينكر كون الدواء مسهلا، وهذا وإن كان في الجهل دون الأول ولكنه ليس خاليا عن حظ وافر من الجهل) بل ضرره أشد .

(بل البصير السالك أحد رجلين إما رجل سلك الطريق فظهر له مثل ما ظهر لهم، فهو صاحب الذوق والمعرفة وقد وصل إلى) مرتبة (عين اليقين) وهو مقام المشاهدة والكشف (وإما رجل لم يسلك الطريق) رأسا فهذا لا كلام فيه (أو سلك ولم يصل) لقصوره في جهده، (ولكن آمن بذلك وصدق به) وسلم لأهله (فهذا صاحب عين اليقين) تصديقه أعطاه الدليل بتصور الأمر على ما هو عليه (وإن لم يكن واصلا إلى عين اليقين، ولعلم اليقين أيضا رتبة) بالإضافة إلى ما قبله (وإن كان دون عين اليقين، ومن خلا عن علم اليقين وعين اليقين فهو خارج عن زمرة المؤمنين، ويحشر يوم القيامة في زمرة الجاحدين المستكبرين الذين هم قتلى العقول الضعيفة، وأتباع الشياطين، فنسأل الله تعالى أن يجعلنا من الراسخين في العلم القائلين: آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب ) .

ولنذكر ما يتعلق بالفقر مما ذكره القشيري وصاحب القوت وصاحب البصائر وغيرهم تكميلا للباب وتكثيرا للفوائد، قال القشيري في الرسالة: شعار الأولياء، وحلية الأصفياء، واختيار الحق سبحانه لخواصه من الأتقياء والأنبياء والفقراء، صفوة الله من عباده، ومواضع أسراره بين خلقه، بهم يصون الخلق، وببركاتهم يبسط الرزق .

قال معاذ النسفي: ما أهلك الله قوما وإن عملوا ما عملوا حتى أهانوا الفقراء وأذلوهم، وقيل: لو لم تكن للفقير فضيلة غير إرادته سعة المسلمين ورخص أسعارهم لكفاه ذلك; لأنه يحتاج إلى شرائها، والغني يحتاج إلى بيعها وهذا لعوام الفقراء، فكيف حال خواصهم .

وسئل يحيى بن معاذ عن الفقر فقال: حقيقته أن لا تستغني إلا بالله، ورسمه عدم الأسباب كلها، وقال إبراهيم القصار: الفقر لباس يورث الرضا إذا تحقق العبد فيه، وقدم على الأستاذ أبي علي الدقاق فقير في سنة خمس أو أربع وتسعين وثلاثمائة من زوزن وعليه مسح وقلنسوة مسح، فقال له بعض أصحابنا: بكم اشتريت هذا المسح؟ - على وجه المطايبة - فقال: اشتريته بالدنيا، فطلب بالآخرة فلم أبعه، سمعت الأستاذ أبا علي يقول: قام فقير في مجلس يطلب شيئا وقال: إني جائع منذ ثلاث وكان هناك بعض المشايخ، فصاح عليه قال: كذبت، إن الفقر سر وهو لا يضع سره عند من يحمله إلى من يذيعه .

وقال حمدون القصار: إذا اجتمع إبليس وجنوده لم يفرحوا بشيء كفرحهم بثلاثة أشياء: رجل مؤمن قتل مؤمنا، ورجل [ ص: 314 ] يموت على الكفر، ورجل قلبه فيه خوف الفقر. وقال الجنيد: يا معشر الفقراء، إنكم تعرفون بالله، وتكرمون بالله، فانظروا كيف تكونون مع الله إذا خلوتم به؟ .

وسئل محمد بن عبد الله الفرغاني عن الافتقار إلى الله أتم أم الاستغناء بالله؟ فقال: إذا صح الافتقار إلى الله فقد صح الاستغناء بالله، وإذا صح الاستغناء بالله فقد كمل الغنى به، فلا يقال: أيهما أتم الافتقار أم الغنى؟ لأنهما حالتان لا يتم إحداهما إلا بالأخرى .

وسئل رويم عن نعت الفقير فقال: إرسال النفس في أحكام الله، وقيل: نعت الفقير ثلاثة أشياء: حفظ سره، وأداء فرضه، وصيانة فرجه. وقيل للخراز: لم تأخر عن الفقراء رفق الأغنياء؟ فقال: لثلاث خصال، لأن ما في أيديهم غير طيب، ولأنهم غير موفقين، ولأن الفقراء مرادون للبلاء .

وقيل: أوحى الله إلى موسى - عليه السلام - إذا رأيت الفقراء فسائلهم كما تسائل الأغنياء، فإن لم تفعل فاجعل كل شيء علمتك تحت التراب. وروي عن أبي الدرداء قال: لأن أقع من فوق قصر فأتحطم أحب إلي من مجالسة الغني; لأني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إياكم ومجالسة الموتى، قيل: ومن الموتى؟ قال: الأغنياء.

وقيل: للربيع بن خيثم: قد غلا السعر فقال: نحن أهون على الله من أن يجيعنا، إنما يجيع أولياءه. وقال إبراهيم بن أدهم: طلبنا الفقر فاستقبلنا الغنى وطلب الناس الغنى فاستقبلهم الفقر .

وقيل ليحيى بن معاذ: ما الفقر قال: خوف، قيل: فما الغنى؟ الأمن بالله. وقال ابن الكرنبي: إن الفقير الصادق ليحترز من الغني حذرا أن يدخله الغنى فيفسد عليه فقره، كما أن الغني ليحترز من الفقر حذرا أن يدخل عليه فيفسد غناه عليه، وسئل أبو حفص: بماذا يقدم الفقير على ربه؟ فقال: وماذا للفقير أن يقدم به على ربه سوى فقره وقيل: أوحى الله إلى موسى - عليه السلام - أتريد أن يكون لك يوم القيامة مثل حسنات الخلق أجمع؟ قال: نعم، قال: عد المريض وكن لثياب الفقراء فاليا، فجعل موسى - عليه السلام - على نفسه في كل شهر سبعة أيام يطوف على الفقراء يفلي ثيابهم ويعود المرضى .

وقال سهل: خمسة أشياء من جوهر النفس: فقير يظهر الغنى، وجائع يظهر الشبع، ومحزون يظهر الفرح، ورجل بينه وبين رجل عداوة فيظهر له المحبة، ورجل يصوم بالنهار ويقوم بالليل ولا يظهر ضعفا. وقال بشر: أفضل المقامات اعتقاد الصبر على الفقر إلى القبر. وقال ذو النون: علامة سخط الله على العبد خوفه من الفقر. وقال الشبلي: أدنى علامات الفقر أن لو كانت الدنيا بأسرها لأحد فأنفقها في يوم ثم خطر بباله أن لو أمسك منها قوت يوم ما صدق في فقره، سمعت الأستاذ أبا علي يقول: تكلم الناس في الفقر والغنى أيهما أفضل، وعندي: أن لا فضل أن يعطى الرجل كفايته ثم يصان فيه .

وسئل ابن الجلاء: متى يستحق الفقير اسم الفقر؟ فقال: إذا لم يبق عليه بقية منه، فقيل: كيف ذاك؟ فقال: إذا كان له فليس له وإذا لم يكن له فهو له، قلت: وهو من أحسن العبارات من معنى الفقر الذي يشير إليه القوم، وهو أن يصير كله لله لا تبقى عليه بقية من نفسه وحظه وهواه، فلو بقي عليه شيء في أحكام نفسه ففقره مدخول فيه. اهـ .

ثم قال القشيري وقيل: صحة الفقر أن لا يستغني الفقير في فقره بشيء إلا لمن إليه فقره، وقال ابن المبارك: إظهار الغنى في الفقر أحسن من الفقر. وقال بنان المصري: كنت بمكة قاعدا وبين يدي شاب فجاءه إنسان وحمل إليه كيسا فيه دراهم ووضعه بين يديه، فقال: لا حاجة لي فيه، فقال: فرقه على المساكين، فلما كان العشاء رأيته في الوادي يطلب شيئا، فقلت: لو تركت لنفسك شيئا مما كان معك؟ فقال: لم أعلم أني أعيش إلى هذا الوقت، وقال أبو حفص: أحسن ما يتواصل به العبد إلى مولاه دوام الفقر إليه على جميع الأحوال وملازمة السنة في جميع الأفعال، وطلب القوت من وجه حلال .

وقال المرتعش: ينبغي للفقير أن لا تسبق همته خطوته، وقال أبو علي الروذباري: كان أربعة في زمانهم: واحد كان لا يقبل من الإخوان ولا من السلطان، يوسف بن أسباط ورث سبعين ألف درهم لم يأخذ منها شيئا وكان يعمل الخوص بيده، وآخر كان يقبل من الإخوان والسلطان جميعا وهو أبو إسحاق الفزاري فكان ما يأخذ من الإخوان ينفقه في المستورين الذين لا يتحركون والذي يأخذه من السلطان كان يخرجه في أهل طرسوس، والثالث: كان يأخذ من الإخوان ولا يأخذ من السلطان وهو ابن المبارك [ ص: 315 ] يأخذ من الإخوان ويكافئ عليه، والرابع: كان يأخذ من السلطان ولا يأخذ من الإخوان وهو مخلد بن الحسين، كان يقول: السلطان لا يمن والإخوان يمنون .

سمعت أبا علي الدقاق يقول: في الخبر: من تواضع لغني لأجل غناه ذهب ثلثا دينه، إنما ذلك لأن المرء بقلبه ولسانه ونفسه، فإذا تواضع لغني بنفسه ولسانه ذهب ثلثا دينه، فلو اعتقد فضله بقلبه كما تواضع له بلسانه ونفسه ذهب دينه كله، وقيل: أول ما يلزم الفقير في فقره أربعة أشياء: علم يسوسه وورع يحجزه، ويقين يحمله، وذكر يؤنسه .

وقيل: من أراد الفقر لشرف الفقر مات فقيرا، ومن أراد الفقر لئلا يشتغل عن الله تعالى مات غنيا، وقال النوري: نعت الفقير السكوت عند العدم، والإيثار عند الوجود، وسئل الشبلي عن حقيقة الفقير فقال: أن لا يستغني بشيء دون الله، وقال الجنيد: إذا لقيت الفقير فالقه بالرفق ولا تلقه بالعلم فإن الرفق يؤنسه والعلم يوحشه، فقيل: وهل يكون فقير يوحشه العلم؟ فقال: نعم، إذا كان الفقير صادقا في فقره فطرحت عليه علمك ذاب كما يذوب الرصاص في النار، وقال مظفر القرميسيني: الفقير هو الذي لا تكون له إلى الله حاجة، وكأنه يشير إلى سقوط المطالبات وانتفاء الاختيار والرضا بما يجري الحق، وقال ابن خفيف: الفقر عدم الإملاك والخروج عن أحكام الصفات .

وقال أبو حفص: لا يصح لأحد الفقر حتى يكون العطاء أحب إليه من الأخذ، وليس السخاء أن يعطي الواجد المعدم، وإنما السخاء أن يعطي المعدم الواجد، وقال ابن الجلاء: لولا شرف التواضع لكان حكم الفقير إذا مشى أن يتبختر، وقال يوسف بن أسباط: منذ أربعين سنة ما ملكت قميصين، وقال بعضهم: رأيت كأن القيامة قامت فيقال: أدخلوا مالك بن دينار ومحمد بن واسع الجنة، فنظرت أيهما يتقدم، فتقدم محمد بن واسع، فسألت عن سبب تقدمه فقيل لي: إنه كان له قميص واحد ولمالك بن دينار قميصان، وقال محمد المسوحي: الفقير الذي لا يرى لنفسه حاجة إلى شيء من الأسباب، وسئل سهل: متى يستريح الفقير؟ فقال: إذا لم ير لنفسه غير الوقت الذي هو فيه، وتذاكروا عند يحيى بن معاذ الفقر والغنى فقال: لا يوزن غدا الفقر ولا الغنى وإنما يوزن الصبر والشكر .

وقيل: أوحى الله إلى بعض الأنبياء إذا أردت أن تعرف رضاي عنك فانظر كيف رضا الفقراء عنك، وقال الزقاق: من لم يصحبه التقى في فقره أكل الحرام الغص، وقال أبو بكر بن طاهر: من حكم الفقير أن لا تكون له رغبة فإن كان ولا بد فلا تجاوز رغبته كفايته، وسئل أبو بكر المصري عن الفقير الصابر: فقال الذي لا يملك ولا يملك، وقال ذو النون: دوام الفقر إلى الله مع التخليط أحب إلي من دوام الصفاء مع العجب.

ومكث أبو جعفر الحذاء عشرين سنة يعمل كل يوم بدينار وينفقه على الفقراء، ويصوم ويخرج بين العشاءين فيتصدق من الأبواب، وقال محمد بن علي الكتاني: كان عندنا بمكة فتى عليه أطمار رثة وكان لا يداخلنا ولا يجالسنا فوقع محبته في قلبي، ففتح لي بمائة درهم من وجه حلال فحملتها إليه ووضعتها على طرف سجادته، وقلت: إنه فتح لي ذلك من وجه حلال تصرفه في بعض أمورك، فنظر إلي شزرا ثم قال: اشتريت هذه الجلسة مع الله على الفراغ بسبعين ألف دينار غير الضياع والمستغلات، تريد أن تخدعني عنها بهذه، وقام وبددها وقعدت ألتقط فلا رأيت كعزه حين مر، ولا كذلي حين كنت ألتقطها .

وقال ابن خفيف: ما وجبت علي زكاة الفطر أربعين سنة ولي قبول عظيم بين الخاص والعام، وسئل عن الفقير يجوع ثلاثة أيام ثم يخرج ويسأل مقدار كفايته، أيش يقال فيه؟ فقال مكدى: كلوا واسكتوا فلو دخل فقير من هذا الباب لفضحكم كلكم، وسئل الدقي عن سوء أدب الفقراء مع الله في أحوالهم فقال: انحطاطهم من الحقيقة إلى العلم، وقال: خير النساج: دخلت بعض المساجد وإذا فيه فقير فلما رآني تعلق بي وقال: أيها الشيخ تعطف علي، فإن محنتي عظيمة، فقلت: وما هي؟ فقال: فقدت البلاء وقرنت بالعافية، فنظرت فإذا هو قد فتح عليه بشيء من الدنيا، وقال أبو بكر الوراق: طوبى للفقير في الدنيا والآخرة لا يطلب السلطان منه في الدنيا الخراج، ولا الجبار في الآخرة الحساب .

إلى هنا كلام القشيري، وقال السهروردي في العوارف: قال ابن الجلاء: الفقر أن لا يكون لك، وإذا كان لك لا يكون لك حتى تؤثر، وقال بعضهم: نعت الفقير السكون عند العدم والاضطراب عند الوجود، وتقدم مثله [ ص: 316 ] في قول النوري إلا أنه قال: والبذل بذل الاضطراب، وقال الدراح: فتشت كفن أستاذي أريد مكحلة فوجدت فيها قطعة فتحيرت فلما جاء قلت: إني وجدت في كفنك قطعة، قال: قد رأيتها ردها، ثم قال: خذها فاشتر بها شيئا، فقلت: ما كان من أمر هذه القطعة بحق معبودك؟ فقال: ما رزقني الله تعالى من الدنيا لا صفراء ولا بيضاء غيرها، فأردت أن أوصي أن تشد في كفني فأردها إلى الله تعالى .

وقال إبراهيم الخواص: الفقر رداء الشرف، ولباس المرسلين، وجلباب الصالحين، وسئل سهل عن الفقير الصادق، فقال: لا يسأل ولا يرد ولا يحبس، وقال أبو علي الروذباري: سألني الزقاق فقال: يا أبا علي، لم ترك الفقراء أخذ البلغة في وقت الحاجة؟ قال: قلت: لأنهم مستغنون بالمعطي عن العطايا، قال: نعم، ولكن وقع لي شيء آخر، فقلت: هات فأفدني، قال: لأنهم قوم لا ينفعهم الوجود إذالة فاقتهم، ولا تضرهم الفاقة إذالة وجودهم، وقال بعضهم: الفقر وقوف الحاجة على القلب ومحوها عما سوى الرب .

وقال المسوحي: الفقير الذي لا تغنيه النعم ولا تغيره المحن، وقال أبو بكر الطوسي: بقيت مدة أسأل عن معنى اختيار أصحابنا لهذا الفقر على سائر الأشياء فلم يجبني أحد بجواب يقنعني حتى سألت نصر بن الحمامي فقال: لأنه أول منازل التوحيد فقنعت بذلك، وقال فارس قلت لبعض الفقراء مرة ورأيت عليه أثر الجوع والضر: لم لا تسأل فيطعموك فقال: أخاف أن أسألهم فيمنعوني فلا يفلحون. اهـ. وقال صاحب البصائر: الفقر له بداية وله نهاية وظاهر وباطن، فبدايته الذل ونهايته العز، وظاهره العدم وباطنه الغنى، كما قال رجل لآخر: فقر وذل؟ فقال: لا بل فقر وعز، فقال: فقر وثرى؟ فقال: لا بل فقر وعرش، وكلاهما مصيب .

وأما مسألة الفقير الصابر والغني الشاكر وترجيح أحدهما على الآخر فعند المحققين أن التفضيل لا يرجع إلى الأعمال والأحوال والحقائق، فالمسألة فاسدة من أصلها، وإن التفضيل عند الله بالتقوى وحقائق الإيمان لا بفقر وغنى، قال تعالى: إن أكرمكم عند الله أتقاكم ولم يقل: أفقركم أو أغناكم .

ثم اعلم أن الفقر والغنى ابتلاء من الله للعباد، فليس كل من أعطاه ووسع عليه قد أكرمه، ولا كل من ضيق عليه قد أهانه، وإلا لزم أن يكرم العبد بطاعته ومحبته ومعرفته وأن يهان إذا سلب ذلك، ولا يقع التفاضل بالغنى والفقر بل بالتقوى، وقال بعضهم: هذه المسألة محال أيضا من وجه آخر، وهو أن كلا من الغنى والفقر لا بد له من صبر وشكر، فإن الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر، بل قد يكون قسط الغنى من الصبر أوفى; لأنه يصبر عن قدرة فصبره أتم من صبر من يصبر عن عجز، ويكون شكر الفقير أتم; لأن الشكر هو استفراغ الوسع في طاعته والفقير أعظم فراغا بالشكر من الغني، وكلاهما لا تقوم قائمة إيمانه إلا على ساق الصبر والشكر .

نعم الذي رجع الناس إليه في المسألة أنهم ذكروا نوعا من الشكر ونوعا من الصبر، وأخذوا في الترجيح، فجردوا غنيا منفقا متصدقا باذلا ماله في وجوه القرب شاكرا الله عليه، وفقيرا متفرغا لطاعة الله تعالى ولا ورادا لعبادات صابرا على فقره هل هو أكمل من ذلك الغني أم بالعكس؟ فالصواب في مثل هذا أن أكملهما أطوعهما فإن تساوت طاعتهما تساوت درجتهما، والله أعلم. اهـ .

وقال صاحب القوت: قال الله تعالى: سلام عليكم بما صبرتم قيل على الفقر، وقد سمى الله الفقراء الصابرين محسنين ووضع عنهم السبيل يوم الدين فقال الله تعالى: ما على المحسنين من سبيل ثم أوقع الحجة والمطالبة على الأغنياء وسماهم ظالمين ووصفهم بأوصاف النساء وجعلهم من المخالفين فقال من المعنيين في الآيتين إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف يعني النساء; لأن هذا جمع التأنيث. وقال: إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق يعني بطلب العلو فيها ضد الفقراء الصادقين الذين قال في ذكرهم نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض .

وقد يحتج متوهم لفضل الأغنياء الممسكين لفضول الغنى على الفقراء عنده بقوله تعالى مخبرا تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون ولا يعلم أن هذا عند أهل التدبر للقرآن مزيد للفقراء لتمام حالهم لما كانوا محسنين، كما قال: تماما على الذي أحسن وقال: سنزيد المحسنين فكان مزيدهم الحزن [ ص: 317 ] والإشفاق وخوف التقصير لمشاهدة عظيم حق الربوبية عليهم حتى كأنهم مسيئون حتى بشرهم الله بأنهم محسنون لما قال: ما على المحسنين من سبيل لأنه أضافهم إليه في الوصف وعطف عليه في المعنى .

وأيضا فلم يكن بكاؤهم على قوت الدنيا ولا على طلب الغنى والله تعالى يمدحهم بصبرهم عن الدنيا ويذم الدنيا إليهم، لكن لما كان حزنهم على طلب المزيد من الفقراء ليجدوا الإنفاق فيخرجوه فيفتقروا منه فيزدادوا فقرا من الدنيا ببذل المال على فقرهم فعلى كثرة الإنفاق وخيفة الفقر من الدنيا كان حزنهم، فهذا فضل ثان للفقر لا على الجمع والادخار والموضع إلا على الذي فضل به الفقراء من هذه الآية عند أهل الاستنباط والدراية هو مشاركتهم الرسول في حاله ووصف الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بمثل حالهم من قوله تعالى: قلت لا أجد ما أحملكم عليه ثم نعتهم بمثله لأنهم هم الأمثل فالأمثل به، فقال تعالى: ألا يجدوا ما ينفقون فمن كان برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمثل فهو الأفضل .

وجعل ابن مسعود الفقر حقيقة الإيمان أو عبر عن ذروة الإيمان فقال: لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يحل بذروته ولا يحل بذروته حتى يكون الفقر أحب إليه من الغنى، والتواضع أحب إليه من الشرف، والذل أحب إليه من العز .

وأما وهب بن منبه فإنه جعل هذه الخصال الثلاث من استكمال العقل، فقال: لا يستكمل العبد العقل حتى تكون فيه هذه الخصال، فذكرها. وكان أبو سليمان يقول: ما من شيء إلا وهو مطروح في الخزائن إلا الفقر مع المعرفة فإنه مخزون مختوم عليه لا يعطاه إلا من طبع بطابع الشهداء .

وبه تم الكلام على الفقر بعون الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية