إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وأما منتهى الشفقة فيكون باعثا له على بذل كل ما يقدر عليه في حقه من المجهود فإن قدرته لا تغني دون العناية به إذا كان لا يهمه أمره ولا يبالي به ظفر خصمه أو لم يظفر هلك به حقه أو لم يهلك فإن كان شاكا في الأربعة أو في واحدة منها أو جوز أن يكون خصمه في هذه الأربعة أكمل منه لم تطمئن نفسه إلى وكيله بل بقي منزعج القلب مستغرق الهم بالحيلة والتدبير ليدفع ما يحذره من قصور وكيله وسطوة خصمه ، ويكون تفاوت درجة أحواله في شدة الثقة والطمأنينة بحسب تفاوت قوة اعتقاده لهذه الخصال فيه ، والاعتقادات والظنون في القوة والضعف تتفاوت تفاوتا لا ينحصر فلا جرم تتفاوت أحوال المتوكلين في قوة الطمأنينة والثقة تفاوتا لا ينحصر إلى أن ينتهي إلى اليقين الذي لا ضعف فيه كما لو كان الوكيل والد الموكل وهو الذي يسعى لجمع الحلال والحرام لأجله فإنه يحصل له يقين بمنتهى الشفقة والعناية فتصير خصلة واحدة من الخصال الأربعة قطعية .

وكذلك سائر الخصال يتصور أن يحصل القطع به وذلك بطول الممارسة والتجربة وتواتر الأخبار بأنه أفصح الناس لسانا وأقدرهم بيانا وأقدرهم على نصرة الحق بل على تصوير الحق بالباطل والباطل بالحق فإذا عرفت التوكل في هذا المثال فقس عليه التوكل على الله تعالى فإن ثبت في نفسك بكشف أو باعتقاد جازم أنه لا فاعل إلا الله كما سبق واعتقدت مع ذلك تمام العلم والقدرة على كفاية العباد ثم تمام العطف والعناية والرحمة بجملة العباد والآحاد وأنه ليس وراء منتهى قدرته قدرة ولا وراء منتهى علمه علم ولا وراء منتهى عنايته بك ورحمته لك عناية ورحمة اتكل لا محالة قلبك عليه وحده ولم يلتفت إلى غيره بوجه ولا إلى نفسه وحوله وقوته فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله كما سبق في التوحيد عند ذكر الحركة والقدرة فإن الحول عبارة عن الحركة والقوة عبارة عن القدرة .

فإن كنت لا تجد هذه الحالة من نفسك فسببه أحد أمرين إما ضعف اليقين بإحدى ، هذه الخصال الأربعة ، وإما ضعف القلب ومرضه باستيلاء الجبن عليه وانزعاجه بسبب الأوهام الغالبة عليه فإن القلب قد ينزعج تبعا للوهم وطاعة له عن غير نقصان في اليقين فإن من يتناول عسلا فشبه بين يديه بالعذرة ربما نفر طبعه وتعذر عليه تناوله ولو كلف العاقل أن يبيت مع الميت في قبر أو فراش أو بيت نفر طبعه عن ذلك وإن كان متيقنا بكونه ميتا وأنه ، جماد في الحال وأن ، سنة الله تعالى مطردة بأنه لا يحشره الآن ولا يحييه ، وإن كان قادرا عليه كما أنها مطردة بأن لا يقلب القلم الذي في يده حية ، ولا يقلب السنور أسدا ، وإن كان قادرا عليه ومع أنه لا يشك في هذا اليقين ينفر ، طبعه عن مضاجعة الميت في فراش ، أو المبيت معه في البيت ، ولا ينفر عن سائر الجمادات وذلك جبن في القلب وهو نوع ضعف قلما ، يخلو الإنسان عن شيء منه وإن قل ، وقد يقوى فيصير مرضا حتى يخاف أن يبيت في البيت وحده مع إغلاق الباب وإحكامه فإذن لا ، يتم التوكل إلا بقوة القلب وقوة اليقين جميعا ؛ إذ بهما يحصل سكون القلب وطمأنينته فالسكون ، في القلب شيء واليقين شيء آخر ، فكم من يقين لا طمأنينة معه ، كما قال تعالى لإبراهيم عليه السلام أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي فالتمس أن يكون مشاهدا إحياء الميت بعينه ؛ ليثبت في خياله ، فإن النفس تتبع الخيال وتطمئن به ولا تطمئن باليقين في ابتداء أمرها إلى أن تبلغ بالآخرة إلى درجة النفس المطمئنة وذلك لا يكون في البداية أصلا ، وكم من مطمئن لا يقين له كسائر أرباب الملل والمذاهب فإن اليهودي مطمئن القلب إلى تهوده وكذا ، النصراني ولا يقين لهم أصلا ، وإنما يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى وهو سبب اليقين إلا أنهم معرضون عنه .

فإذا الجبن والجراءة غرائز ولا ينفع اليقين معها ؛ فهي أحد الأسباب التي تضاد حال التوكل كما أن ضعف اليقين بالخصال الأربعة أحد الأسباب وإذا اجتمعت هذه الأسباب حصلت الثقة بالله تعالى وقد قيل : مكتوب في التوراة ملعون من ثقته إنسان مثله وقد قال : صلى الله عليه وسلم : من استعز بالعبيد أذله الله تعالى .


(وأما منتهى الشفقة، فيكون باعثا على بذل كل ما يقدر عليه من المجهود في حقه) لا يقصر بوجه من الوجوه (فإن قدرته لا تغني دون العناية به إذا كان لا يهمه أمره) أي: لا يشغله (ولا يبالي به ظفر بخصمه أو لم يظفر هلك به حقه، أو لم يهلك) فالاعتناء بالأمر لا بد من مراعاته (فإن كان شاكا في هذه الأربعة) بمجموعها (أو في كل واحدة منها أو جوز أن يكون خصمه في هذه الأربعة أكمل منه لم تطمئن نفسه إلى وكيله) ولم يثق به (بل بقي مزعج القلب) قلقه (مستغرق الهم بالحيلة والتدبير ليدفع ما يحذره) أي: يخافه (من قصور وكيله وسطوة خصمه، ويكون تفاوت درجة أحواله في شدة الثقة والطمأنينة بحسب تفاوت قوة اعتقاده لهذه الخصال فيه، والاعتقادات والظنون في القوة والضعف تتفاوت تفاوتا لا ينحصر، فلا جرم تتفاوت أحوال المتوكلين) على الله تعالى (في قوة الطمأنينة والثقة تفاوتا لا ينحصر إلى أن ينتهي إلى) مرتبة (اليقين الذي لا ضعف فيه) أصلا (كما لو كان الوكيل والد الموكل وهو الذي يسعى لجمع الحلال والحرام لأجله) ويشقى ويتعب ليكمله (فإنه يحصل له يقين بمنتهى الشفقة والعناية فتصير خصلة واحدة من الخصال الأربعة قطعيا) ومجزوما به، (وكذلك سائر الخصال يتصور أن يحصل القطع به وذلك بطول الممارسة والتجربة وتواتر الأخبار) والشهرة المنقولة على ألسنة الناس (بأنه أفصح الناس لسانا وأقواهم بيانا وأقدرهم على نصر الحق بل على تصوير الحق بالباطل) أي: على صورته (أو الباطل بالحق) أي: على صورته، وفيه ورد أن من البيان لسحرا .

(فإذا عرفت التوكل في هذا المثال فقس عليه التوكل على الله تعالى فإن ثبت في نفسك بكشف) من الله تعالى بأن يلهم في روعه (أو باعتقاد جازم أن لا فاعل) في الحقيقة (إلا الله كما سبق) في التوحيد (واعتقدت مع ذلك تمام العلم والقدرة على كفاية العباد) بأسرهم (ثم تمام العطف والعناية والرحمة) الموسعة (بجملة العباد والآحاد اتكل لا محالة قلبك عليه وحده ولم يلتفت إلى غيره بوجه) من الوجوه (ولا إلى نفسه وحوله وقوته فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله كما سبق في التوحيد عند ذكر الحركة والقوة، فإن الحول عبارة عن الحركة) والتغير، يقال: حال الشيء حولا إذا تغير عن أصله (والقوة عبارة عن القدرة) في أحد الأصول الثلاثة: نفسه وبدنه وقنيته وقد جاء تفسيره في حديث مرفوع لا حول عن [ ص: 462 ] المعصية، ولا قوة على الطاعة إلا بالله، وفي القوت: قيل لسهل: ما التوكل؟ قال: التبري من الحول والقوة، والحول أشد من القوة، يعني بالحول الحركة، وبالقوة الثبات على الحركة، وهو أول الفعل يعني بهذا أن لا تنظر إلى حركتك مع المحرك؛ إذ هو الأول ولا إلى ثباتك أيضا بعد الحركة في تثبيته؛ إذ هو المثبت الآخر، فتكون الأولية والآخرية حقيقة شهادتك لربه أنه أول آخر بعين اليقين، فيخرج نفي الشرك بحقيقة التوحيد، وهذا هو شهادة اليقين، أي فعندها يصح توكلك بشهادة الوكيل، (فإن كنت لا تجد هذه الحالة من نفسك فسببه أحد أمرين: إما ضعف اليقين بأحد هذه الخصال الأربعة) ، أو بجملتها (وإما ضعف القلب ومرضه باستيلاء الجبن عليه وانزعاجه بسبب الأوهام الغالبة عليه) ، أي: المرض المانع لحال التوكل بعد اليقين بالتوحد بالأفعال؛ لأن الوهم يتعلق بالتقديرات الاحتمالية، (فإن القلب قد ينزعج تبعا للوهم وطاعة له من غير نقصان في اليقين) .

وقد ينقاد لطاعة الوهم كما ينقاد لطاعة العقل، فإذا زين الشيطان بغروره ووعد بالفقر خوف منه تعلق الوهم بإيعاد الشيطان، فجبنت النفس وخبث طبعها شفقة على نفسها، فيبقى العقل وما فيه من اليقين مستورا تحت ضباب الوهم وشهوة النفس، فإن ازداد اليقين ضياء، واشتعلت فيه نار أيد الله العقل بالملك الملهم؛ حتى يمده بعلم يدفع به وسوسة الشيطان وكيده؛ فحينئذ يشعشع شمس اليقين ضباب الوهم، وخيال النفس، ويتغير القلب عما كان عليه، ويعتمد على الله تعالى، ويطمئن إليه بعد أن كان معتمدا على الأسباب مطمئنا بتدبيره وحوله وقوته، ويعرف يقينا أن لا حول ولا قوة إلا بالله، وكل يقين لا ينشأ عنه حال هذا سببه، (فإن من يتناول عسلا فيشبه بين يديه بالعذرة) ، أي الخرء (ربما نفر طبعه وتعذر عليه تناوله) لما قام به من الوهم (ولو كلف العاقل أن يبيت مع الميت في قبر أو فراش) واحد، (أو بيت نفر طبعه عن ذلك وإن كان متيقنا بكونه ميتا، وإنه جماد في الحال، وإن سنة الله مطردة بأنه لا يحشره الآن ولا يحييه، وإن كان قادرا عليه) فإنه ليس بممتنع، ولو كان حيا لادعى القوة والشجاعة عليه (كما أنها مطردة بأن لا يقلب القلم الذي في يده حية، ولا يقلب السنور أسدا، وإن كان قادرا عليه) .

فإن كل ذلك غير ممتنع (مع أنه لا يشك في هذا اليقين، فينفر طبعه عن مضاجعة الميت في فراش، أو المبيت معه في بيت، ولا ينفر عن سائر الجمادات) ، وهذا كله عمل الوهم المتعلق بالظنون والاحتمالات البعيدة والنفور من الحقائق الجارية على اختلاف العادات، (وهو نوع ضعف، فلا يخلو الإنسان عن شيء منه وإن قل، وقد يقوى) هذا الضعف (فيصير مرضا) سوداويا (حتى يخاف أن يبيت في البيت وحده مع إغلاق الباب وإحكامه، فإذا لا يتم التوكل إلا بقوة القلب وقوة اليقين جميعا؛ إذ بهما يحصل سكون القلب وطمأنينته، والسكون في القلب شيء واليقين شيء آخر، فكم من يقين لا طمأنينة معه، كما قال تعالى) مخاطبا لخليله -عليه السلام- حين سأله عن إحياء الموتى، ( أولم تؤمن ) ، أي: أولم تصدق بقلبك ( قال بلى ولكن ليطمئن قلبي فالتمس أن يشاهد إحياء الميت بعينه؛ ليثبت في خياله، فإن النفس تتبع الخيال وتطمئن به) ، وكان قد حصل له -عليه السلام- مرتبة اليقين أولا، فطلب أن يرقى إلى مقام عين اليقين المعبر عنه بالطمأنينة (ولا تطمئن) النفس (باليقين في ابتداء أمره إلى أن يبلغ بالآخرة إلى درجة النفس المطمئنة) فتسكن حينئذ تحت الأمر، ويزاولها الاضطراب بسبب معارضة الشهوات (وذلك لا يكون في البداية أصلا، وكم من مطمئن لا يقين له كسائر أرباب الملل والمذاهب) المبتدعة، (فإن اليهودي مطمئن القلب إلى تهوده، وكذلك النصراني) مطمئن القلب إلى نصرانيته (ولا يقين لهم أصلا، وإنما) هم كما قال تعالى في أمثالهم ( يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ) مما تعارضهم من الشهوات ( ولقد جاءهم من ربهم الهدى ) الذي يتبصرون به (وهو [ ص: 463 ] سبب اليقين إلا أنهم معرضون عنه) ، لا يلتفتون إليه أصلا، (فإذا الجبن) عن الإقدام (والجراءة) عليه (غرائز) مركوزة في الطباع (ولا ينفع اليقين معها؛ فهي أحد الأسباب التي تضاد حال التوكل) وتعارضه، (كما أن ضعف اليقين بالخصال الأربعة) المذكورة (أحد الأسباب) المضادة له، (وإذا اجتمعت هذه الأسباب) في امرئ (حصلت) له (الثقة بالله تعالى) ، وصح وصفه بالتوكل، (وقد قيل: مكتوب في التوراة ملعون من) هو (ثقته) ، أي الذي يثق به (إنسان مثله) .

رواه صاحب القوت عن سنيد بن داود، عن يحيى بن كثير قال: "مكتوب في التوراة" فذكره، قال سنيد يقول: لولا كذا لكان كذا، ولولا فلان لهلكت، فمعناه عندي في قوله: ثقته أن يعتمد عليه، ويسكن إليه فهو شرك في التوحيد، ونقص من المزيد؛ إذ لا ينبغي الثقة والسكون إلا إلى الواحد القهار .

(وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: من اعتز بالعبيد أذله الله تعالى) .

قال العراقي: رواه العقيلي في الضعفاء، وأبو نعيم في الحلية من حديث عمر، أورده العقيلي في ترجمة عبد الله بن عبد الله الأموي وقال: لا يتابع على حديثه، وقد ذكره ابن حبان في الثقات وقال: يخالف في روايته، انتهى .

قلت: وكذلك رواه الحكيم في النوادر، والرافعي في التاريخ، والديلمي وعبد الله بن عبد الله حجازي لين الحديث، روى له ابن ماجه وقال الذهبي في الديوان: روى عن الحسن بن الحسن، لا يعرف، وما ساقه العراقي عن العقيلي هو لفظ الذهبي في الميزان، والاعتزاز بالشيء هو الامتناع به من النوائب، فمن امتنع بمن لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فقد ذل، ومن اعتز بعرض الدنيا فهو المخذول في دينه الساقط من عين الله تعالى، والخبر يحتمل الدعاء؛ لأنه طلب العز من غير العزيز، وتعلق بالأسباب دون مسببها، فاستوجب الدعاء عليه، أو هو خبر عن أن العبيد كلهم أذلاء تحت قهر العزيز، فمن لجأ إلى أحد منهم فقد تعجل ذلا آخر على ذله .

وقوله: اعتز هكذا هو في الرواية بالعين المهملة والزاي، ووقع في كتاب الحكيم ضبطه بخطه بالغين المعجمة، والراء من الاغترار، وقال: لأن الاغترار بالعبيد منهاجه من حب الغرار وطلبه له، فإذا طلب ذلك من العبيد ترك العمل بالحق والقول به؛ ليعظموه، فذلك اغتراره بهم، فعاقبة أمره الذلة إما في الدنيا عاجلا، وإما خروجه منها في أذل ذلة، وأعنف عنف، فمن أسلم وجهه لله، وذلت له نفسه نال حظا من عزه، ومن أعرض عنه واغتر بغيره حرمه عزه وأخساه وصغره .

التالي السابق


الخدمات العلمية