إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان ما قاله الشيوخ في أحوال التوكل .

ليتبين أن شيئا منها لا يخرج عما ذكرنا ، ولكن كل واحد يشير إلى بعض الأحوال ، فقد قال أبو موسى الديلي قلت لأبي يزيد ما التوكل ؟ فقال : ما تقول أنت ؟ قلت : إن أصحابنا يقولون : لو أن السباع والأفاعي : عن يمينك ويسارك ، ما تحرك لذلك سرك فقال أبو يزيد : نعم هذا قريب ولكن لو أن أهل الجنة في الجنة يتنعمون وأهل النار في النار يعذبون ، ثم وقع بك تمييز بينهما خرجت من جملة التوكل فما ذكره أبو موسى فهو خبر عن أجل أحوال التوكل وهو المقام الثالث ، وما ذكره أبو يزيد عبارة عن أعز أنواع العلم الذي هو من أصول التوكل ، وهو العلم بالحكمة وأن ما فعله الله تعالى فعله بالواجب فلا تمييز بين أهل النار وأهل الجنة ، بالإضافة إلى أصل العدل والحكمة وهذا أغمض أنواع العلم ، ووراءه سر القدر وأبو يزيد قلما يتكلم إلا عن أعلى المقامات وأقصى الدرجات وليس ترك الاحتراز عن الحيات شرطا في المقام الأول من التوكل ، فقد احترز أبو بكر رضي الله عنه : في الغار إذ سد منافذ الحيات إلا أن يقال : فعل ذلك برجله ولم يتغير بسببه سره : أو يقال : إنما فعل ذلك شفقة في حق رسول الله : صلى الله عليه وسلم : لا في حق نفسه ، وإنما يزول التوكل بتحرك سره وتغيره لأمر يرجع إلى نفسه وللنظر في هذا مجال ولكن سيأتي بيان أن أمثال ذلك وأكثر منه لا يناقض التوكل ، فإن حركة السر من الحيات هو الخوف ، وحق المتوكل أن يخاف مسلط الحيات ؛ إذ لا حول للحيات ولا قوة لها إلا بالله ، فإن احترز لم يكن اتكاله على تدبيره وحوله وقوته في الاحتراز ، بل على خالق الحول والقوة والتدبير .

وسئل ذو النون المصري عن التوكل فقال : خلع الأرباب وقطع الأسباب فخلع الأرباب إشارة إلى علم التوحيد وقطع الأسباب إشارة إلى الأعمال وليس فيه تعرض صريح للحال وإن كان اللفظ يتضمنه فقيل له : زدنا فقال : إلقاء النفس في العبودية وإخراجها من الربوبية وهذا إشارة إلى التبري من الحول والقوة فقط .


(الفصل الثاني في بيان ما قاله الشيوخ في أحوال التوكل) *

[ ص: 469 ] (اعلم) وفي نسخة: ليتبين (أن شيئا منها لا يخرج عما ذكرناه، ولكن كل واحد يشير إلى بعض الأحوال، فقد قال أبو موسى الدبيلي) : هكذا في النسخ، وهو يحتمل أن يكون بفتح الدال وكسر الموحدة نسبة إلى دبيل الرملة قرية بها، أو هو بفتح الدال وياء تحته ساكنة، وباء موحدة مضمومة إلى الديبل مرسى من مراسي السند، وقد نسب إلى كل منهما جماعة من أهل العلم، ولم أجد لأبي موسى ترجمة (قلت لأبي زيد يعني) البسطامي -قدس سره- (ما التوكل؟ فقال: ما تقول فيه أنت؟ قلت: إن أصحابنا يقولون: لو أن السباع والأفاعي) أي: الحيات (عن يمينك ويسارك) ، أي: وغيرهما (ما تحرك لذلك سرك) لقوة اليقين بالله، والاعتماد عليه (فقال أبو يزيد: نعم هذا قريب ولكن لو أن أهل الجنة في الجنة يتنعمون وأهل النار في النار يعذبون، ثم وقع بك) وفي نسخة: لك (تمييز عليهما) ، وفي نسخة: بينهما، أي بأن ميزت أحدهما عن الآخر، يعني اخترت لنفسك شيئا (خرجت من جملة التوكل) ؛ لأن الاعتماد على الله تعالى ينافي أن تنسب لنفسك فعلا؛ لأنك لا تعلم مصلحتك في أي جهة، لا في النعيم ولا في العذاب، فلا يليق بك تمييز ولا اختيار، وذكر نعيم الجنة وعذاب النار؛ لأنهما أشد من غيرهما، وإلا فليسا بمرادين، بل المراد مطلق النعيم والعذاب .

ولفظ القشيري في الرسالة: وسمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا عبد الله السيرواني يقول: سمعت أبا موسى الدبيلي يقول: قيل لأبي يزيد: ما التوكل؟ فقال لي: ما تقول أنت فيه؟ والباقي سواء، وهذا يدل على أن السائل له على التوكل غير أبي موسى (فما ذكره أبو موسى فهو خبر عن أجل أحوال التوكل) وأعلاها، (وهو المقام الثالث، وما ذكره أبو يزيد عبارة عن أعز أنواع العلم الذي هو من أصول التوكل، وهو العلم بالحكمة) الإلهية (وإن ما فعله تعالى فعله بالواجب فلا تمييز بين أهل النار وأهل الجنة، بالإضافة إلى أصل القول بالعدل والحكمة، ووراءه سر القدر) الذي نهي عن كشف سره، وهذا السياق مؤيد لمقالته التي تقدم ذكرها (وأبو يزيد) -قدس سره- (قلما يتكلم إلا من أعلى المقامات وأقصى الدرجات) لعلو حاله، وتمكنه في مقامه (وليس ترك الاحتراز عن الحياة شرطا في المقام الأول من التوكل، فقد احترز أبو بكر -رضى الله عنه- في الغار) الذي بجبل ثور؛ (إذ سد منافذ الحيات) بقطع من ردائه (إلا أن يقال: فعل ذلك بيده) ، وفي نسخة: برجله (ولم يتغير بسبب ذلك سره) أي: باطنه، (أو يقال: إنما فعل ذلك شفقة في حق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) عزاه رزين للنسائي، ورواه ابن الجوزي في الوفاء .

وقد تقدم الكلام عليه (لا في حق نفسه، وإنما يزول التوكل بحركة سره) وتغيره (لأمر يرجع إلى نفسه وللنظر في هذا مجال) أي؛ لأن مقام الصديق يقتضي التبري من الحركة مطلقا، إلا أن يقال: إن ذلك كان في مبادئ سلوكه قبل أن يتشرف بمقام الصديقية (ولكن سيأتي أن أمثال ذلك وأكثر منه لا يناقض التوكل، فإن حركة السر من الحيات هو الخوف، وحق المتوكل أن يخاف مسلط الحيات؛ إذ لا حول للحيات ولا قوة لها إلا بالله، فإن احترز لم يكن اتكاله على تدبيره وحوله وقوته في الاحتراز، بل على خالق الحول والقوة والتدبير، وسئل ذو النون المصري) -قدس سره- (عن التوكل فقال: هو خلع الأرباب) ، وهو ما سوى الله تعالى بما يملك القلب عادة، ويكون مسخرا له بمنزلة العبد (وقطع) الاعتماد على (الأسباب) الظاهرة والباطنة بحيث لا يبقى له معتمد سوى الله تعالى (وخلع الأرباب إشارة إلى علم التوحيد) فإن من اتخذ غير الله ربا لم يوحده (وقطع الأسباب إشارة إلى الأعمال) فقد أشار إلى العلم الذي هو أساس التوكل، والعمل الذي هو ثمرته (وليس فيه تعرض صريح للحال) الذي من نتائج الأعمال، (وإن كان اللفظ يتضمنه) ، فتكون دلالته عليه بالالتزام (قيل له: زدنا) في البيان بعبارة [ ص: 470 ] أخرى ليفهم (فقال: إلقاء النفس في) أحكام (العبودية) بأن يكون دائما مشتغلا بما أمر به ونهي عنه (وإخراجها) من دعوى (الربوبية) وسلبها عنها (وهذه إشارة إلى التبري من الحول والقوة فقط) فإنه ما لم يتبرأ منها لم يتصف بالعبودية المحضة، وهو تفسير باللازم نظرا إلى فهم المخاطب، ولفظ القشيري: وسمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت سعيد بن أحمد بن محمد، يقول: سمعت محمد بن أحمد بن سهل، يقول: سمعت سعيد بن عثمان الخياط، يقول: سمعت ذا النون المصري وسأله رجل فقال: ما التوكل؟ فقال:... فساقه .

التالي السابق


الخدمات العلمية