إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وأما أمره صلى الله عليه وسلم فقد أمر غير واحد من الصحابة بالتداوي وبالحمية وقطع لسعد بن معاذ عرقا أي ، فصده وكوى أسعد بن زرارة وقال لعلي رضي الله تعالى عنه وكان رمد العين : لا تأكل من هذا يعني الرطب وكل من هذا فإنه أوفق لك . يعني سلقا قد طبخ بدقيق شعير وقال لصهيب وقد رآه يأكل التمر وهو وجع العين : تأكل تمرا وأنت أرمد ؟ فقال إني : آكل من الجانب الآخر ، فتبسم وأما فعله عليه الصلاة والسلام فقد روي في حديث من طريق أهل البيت أنه كان يكتحل كل ليلة ، ويحتجم كل شهر ، ويشرب الدواء كل سنة قيل السنا المكي .

وتداوى : صلى الله عليه وسلم : غير مرة من العقرب وغيرها .

وروي أنه كان إذا نزل عليه الوحي صدع رأسه فكان يغلفه بالحناء .

وفي خبر أنه كان إذا خرجت به قرحة جعل عليها حناء وقد جعل على قرحة خرجت به ترابا .

وما روي في تداويه وأمره بذلك كثير خارج عن الحصر وقد صنف في ذلك كتاب ، وسمي طب النبي صلى الله عليه وسلم .


(وأما أمره) -صلى الله عليه وسلم- (فقد أمر غير واحد من الصحابة بالتداوي وبالحمية) أما الأمر بالتداوي فقد تقدم في حديث أسامة بن شريك من رواية أصحاب السنن، وفيه: "تداووا عباد الله"، وفي حديث ابن مسعود: "تداووا بألبان البقر"، رواه الطبراني، والخطيب، وفي حديث زيد بن أرقم: "تداووا من ذات الجنب" رواه أحمد، والطبراني، والحاكم، وأما أمره بالحمية فسيأتي في قصة علي وصهيب بعده، قال صاحب القوت: وروى أبو قلابة عن كعب الأحبار يقول الله -عز وجل-: إني أنا الله، أشيح وأداوي، فتداووا، فالتداوي رخصة وسعة، وتركه ضيق وعزيمة، والله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه"، وقد قال تعالى: وما جعل عليكم في الدين من حرج ، أي ضيق، وربما كان التداوي فاضلا في ذلك لمعنيين: أحدهما أن ينوي اتباع السنة، والأخذ برخصة الله تعالى وقبول ما جاءت به الحنيفية السمحة، والثاني أن يحب سرعة البرء للطاعة، ولخدمة مولاه، والسعي في أوامره إذا كانت العلل قاطعة من التصرف في العمل، ومشغلة بالنفس عن الشغل بالآخرة .

(وقطع) -صلى الله عليه وسلم- (لسعد بن معاذ) بن النعمان الأنصاري الأشهلي أبي عمر، وسيد الأوس شهد بدرا (عرقا، أي فصده) كذا في القوت .

قال العراقي: رواه مسلم من حديث جابر، قال رمي سعد في أكحله، فحسمه النبي -صلى الله عليه وسلم- بيده بمشقص.. الحديث. انتهى .

قلت: رمي بسهم يوم الخندق، فعاش بعد ذلك شهرا حتى حكم في بني قريظة، وأجيبت دعوته في ذلك، ثم انتقض جرحه، فمات. أخرج ذلك البخاري، وذلك سنة خمس، (وكوى) -صلى الله عليه وسلم- (أسعد بن زرارة) بن عدس بن عبيد أبا أمامة الأنصاري الخزرجي النجاري قديم الإسلام، شهد العقبتين مات قبل وقعة بدر، ووقع في القوت ما نصه: ولوى أسعد بن زرارة من اللقوة، هكذا هو باللام، وفي الهامش بإزائه لوى أي عالج اهـ، وأخاله تصحيفا، والصواب كوى .

قال العراقي: رواه الطبراني من حديث سهل بن حنيف دون ذكر سهل انتهي .

وقال الحافظ في ترجمة أسعد: من الإصابة، وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن أبي أمامة بن سهل قال: دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- على أسعد بن زرارة، وكان أحد النقباء ليلة العقبة، وقد أخذته الشوكة فكواه الحديث، وكذلك رواه الحاكم من طريق يونس، عن الزهري هذا هو المحفوظ، ورواه عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة وهي شاذة، ورواه رفعة بن صالح عن الزهري، عن أبي أمامة بن سهل، عن أبي أمامة أسعد بن زرارة الرواية، وإنما أراد أن يقول: عن قصة أسعد بن زرارة، والله أعلم .

(وقال) -صلى الله عليه وسلم- (لعلي) -رضي الله عنه- (وكان رمد العين: لا تأكل من هذا يعني الرطب [ ص: 518 ] وكل من هذا فإنه أوفق لك. يعني سلقا قد طبخ بدقيق شعير) .

قال العراقي: رواه أبو داود، والترمذي وقال: حسن غريب، وابن ماجه من حديث أم المنذر. انتهى .

قلت: ورواه كذلك ابن سعد كلهم من طريق فليح بن سليمان، عن أيوب بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة، عن يعقوب بن أبي يعقوب، عن أم المنذر بنت قيس الأنصارية، قالت: دخل علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- 7 يأكل منها، وقام علي ليأكل، فقال: مه يا علي إنك ناقه، حتى كف علي، قال: وصفت له شعيرا وسلقا، فجئت فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا علي، من هذا فأصب؛ فإنه أوفق لك" لفظ أبي داود وقال الترمذي: حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث فليح، وتعقب بأنه جاء من طريق ابن أبي فديك، عن محمد بن أبي يحيى الأسلمي، عن أبيه، عن يعقوب نحوه، قال الحافظ في الإصابة: فليح بن سليمان اسمه وكنيته أبو يحيى، وابنه محمد من رجال البخاري، وابن أبي فديك من أقرانه، فلعله حمله عنه، ولم يفصح باسم ابنه لصغره، فقال محمد بن أبي يحيى والد إبراهيم شيخ الشافعي، وليس هو به، بل رجع الخبر إلى فليح، كما قال الترمذي .

(وقال) -صلى الله عليه وسلم- (لصهيب) بن سنان -رضي الله عنه- (وقد رآه يأكل التمر وهو وجع العين: تأكل تمرا وأنت رمد؟ فقال: آكل من الجانب الآخر، فتبسم) -صلى الله عليه وسلم- تقدم في كتاب آفات اللسان، (وأما فعله فقد روي في الحديث) المروي (من طريق أهل البيت أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يكتحل كل ليلة، ويحتجم كل شهر، ويشرب الدواء كل سنة) هكذا هو في القوت .

وقال العراقي: رواه ابن عدي من حديث عائشة، وقال: إنه منكر، وفيه سيف بن محمد كذبه أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، انتهى .

قلت: وبخط الحافظ ابن حجر لأبي نعيم في الطب، عن عبد الرحمن بن غنم مثله، وفيه الواقدي. انتهى .

وإنما خص الليل بالاكتحال؛ لأنه في النوم يتمكن الكحل في طبقات العين، ويظهر تأثيره فيها، وشربه -صلى الله عليه وسلم- الدواء كل سنة كان لغير علة، فإن عرض له ما يوجب شربه في أثناء السنة شربه أيضا (وتداوى -صلى الله عليه وسلم- غير مرة من العقرب وغيرها) ولفظ القوت: وقد تداوى في غير خبر من العقرب وغيرها، وقال العراقي: رواه الطبراني بإسناد حسن من حديث جبلة بن الأزرق أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لدغته عقرب فغشي عليه، فرماه الناس.. الحديث، وله في الأوسط من رواية سعيد بن ميسرة، وهو ضعيف عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا اشتكى تقمح كفا من شونيز، وشرب عليه ماء وعسلا، ولأبي يعلى والطبراني من حديث عبد الله بن جعفر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "احتجم بعدما وسم"، وفيه جابر الجعفي ضعفه الجمهور. انتهى .

قلت: حديث جبلة بن الأزرق رواه أيضا البخاري في تاريخه، وابن السكن، والبغوي كلهم من طريق معاوية بن صالح، عن صالح بن راشد بن سعد بن جبلة بن الأزرق، وكانت له صحبة قام -صلى الله عليه وسلم- إلى جانب جدار كثير الأحجرة إما ظهرا، أو عصرا، فلما جلس لدغته عقرب، فغشي عليه، فرقاه الناس فأفاق، فقال: إن الله شفاني وليس برقيتكم، قال: لا أعلم له غيره، وقال البغوي: ابن السكن ليس له غيره .

(وروي أنه) -صلى الله عليه وسلم- (كان إذا نزل عليه الوحي صدع رأسه) من شدة ما يلقاه منه، (وكان يغلفه بالحناء) لتخف حرارة رأسه، فإن نور اليقين إذا هاج اشتعل بورود الوحي فيلطف حرارته بذلك .

قال العراقي: رواه البزار، وابن عدي في الكامل من حديث أبي هريرة، وقد اختلف في إسناده على الأحوص بن حكيم، انتهى .

قلت: وكذلك رواه ابن السني، وأبو نعيم في الطب (وفي الخبر أنه) -صلى الله عليه وسلم- (كان إذا خرجت به قرحة جعل عليها حناء) .

قال العراقي: رواه الترمذي، وابن ماجه من حديث سلمى قال الترمذي: غريب، قلت: هي سلمى أم نافع امرأة أبي رافع، مولى النبي -صلى الله عليه وسلم- ويقال لها أيضا: مولاة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولفظ الترمذي، وقد رواه من طريق فائد مولى أبي رافع، عن علي بن عبيد الله ابن أبي رافع، عن جدته، وكانت تخدم النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: "ما كان يكون برسول الله -صلى الله عليه وسلم- قرحة، أو نكبة إلا أمرني أن أجعل عليها الحناء".

(وقد جعل) -صلى الله عليه وسلم- (على قرحة خرجت به ترابا) قال العراقي: رواه الشيخان من حديث عائشة: "كان إذا اشتكى الإنسان الشيء منه، أو كانت قرحة أو جرح قال النبي -صلى الله عليه وسلم- بيده هكذا، وجعل سفيان بن عبد الله الراوي سبابته بالأرض، ثم رفعها، وقال: بسم الله تربة أرضنا" انتهى .

ولفظ القوت: فروينا أنه جعل على أصبعه السبابة من ريقه، ثم وضعه على تراب، فقال: تربة أرضنا بريقة [ ص: 519 ] بعضنا، شفاء لمريضنا بإذن ربنا، ثم جعله على قرحة في رجله (وما روي في تداويه) -صلى الله عليه وسلم- (وأمره بذلك) أصحابه كثير (خارج عن الحصر) والضبط لكثرته، (وقد صنف في ذلك كتاب، وسمي طب النبي -صلى الله عليه وسلم-) وهما كتابان مشهوران بهذا الاسم، أحدهما للحافظ أبي بكر بن السني، والثاني للحافظ أبي نعيم الأصبهاني، قال صاحب القوت: وهو -صلى الله عليه وسلم- أعلى المتوكلين، وأقوى الأقوياء المقربين، فإن قيل: إنما تداوى لغيره وليس ذلك، قلنا: فلا ترغيب عن سنته، ولا تزهد في بغيته إن كان فعل ذلك لنا، فلا نرد عليه؛ لئلا يكون فعله لغوا، والرغبة عن سنته إلى توهم حقيقة التوكل طعن في الشريعة، وقد كان -صلى الله عليه وسلم- ظاهره للخلق ليقتفوا آثاره .

التالي السابق


الخدمات العلمية